شيخُ قُـرّاءِ شمال فلسطين، العلامةُ المقرئ المُعمَّر أبو أسامةَ محمَّد سعيد مَلْـحَـس

الاسم والنسب والمولد والنشأة

هو الشيخ المقرئ "محمد سعيد" بن "محمد علي" ملحس ولد في10/1/1925م في مدينة نابلس، ونشأ يتيم الأب برعاية أمه وإخوته الكبار الذين  كانوا على درجة كبيرة من الورع والتَّديُّن والحياء، فنشأ في بيت يُقَدِّر العلم ويلتزم بأحكام الدين الإسلامي، ودرس المرحلة الابتدائية في مدرسة (السباعي) بحيفا، حيث كان مركز عمل إخوته الكبار.

اضطرت عائلته إلى العودة لنابلس ضمن ظروف قاسية أجبرت الفتى على عدم الانتظام في المدارس الحكومية بنابلس بعد حرب عام 1948م، وتوالت الظروف القاسية بنهب اليهود لممتلكاتهم التي تركوها في حيفا وانقطاع عملهم هناك، واستشهاد أخيه الأوسط (رضا) في المعارك التي دارت مع العصابات الصهيونية في جبال نابلس، واضطرار أخته الصغرى إلى النزوح مع زوجها السوري إلى أبعد نقطة حدودية في سوريا مع العراق، ثم وفاة أخيه الأكبر والمعيل لهم في حادث عمل قاسٍ، وعاش الشيخ في طفولته صوراً نادرة من الصبر والاحتساب، فنشأ على قدرٍ من الدين والحياء والتعفف والوقار، فكان تلميذاً نجيباً في مدرسة الصبر والعصامية والهدوء.

وفي نابلس عمل الشيخ ملحس بأجر ضئيل في بقالة، وعرف عنه الأمانة والتدين والحياء، وتعلم العصامية، والاعتماد على الذات منذ نعومة أظفاره، وكانت البقالة ملاصقة للمسجد الصلاحي الكبير، فكان الشيخ لا يفوّت فرضا في المسجد، والتزم بحضور دروس التجويد في ذلك المسجد.

الحياة الاجتماعية:

         كان الشيخ – رحمه الله تعالى- حريصا على التحلي بالأخلاق الحميدة التي يفتقدها بعض الشباب في مثل عمره آنذاك، مما لفت انتباه الشيخ عبد الله المعاني أحد كبار مشايخ نابلس في ذلك الوقت، فاصطفاه (عديلاً) له وقرّبه إليه بأن خطبه إلى أخت زوجته، فارتضته العروس لها زوجاً، وارتضاه أهلها لها، لما كان يتحلى به من دين وخلق، وحسن سيرة وسريرة، إلى جانب وجه وضّاء صبوح.

وقد أنجب الشيخ ثلاثة من الأولاد، وابنتين اثنتين، وأحد أولاده (محمد نور) استلم لجان التحفيظ في نابلس، فكأنه وَرِث هذا العلم عن أبيه.

 

اهتمامه بالقرآن الكريم وأحكام تلاوته:

انضم الشيخ- رحمه الله - إلى حلقةِ علمٍ لتدريس تجويد القرآن الكريم، حيث كان هو أصغر التلاميذ فيها، فقد كان في تلك الفترة تلميذاً نجيباً لا يأخذ كلَّ معلومة بالتسليم دون استفسار، كما كان حريصاً على كتابة كراسة جمع فيها كل شاردة وواردة تتعلق بهذا العلم الذي أحبه ووافق هواه، وانسجم مع تعلقه بالقرآن الكريم والمسجد، ومما يدل على ذلك أنه رأى ذات يوم رأياً بِحُكْمٍ في التجويد لكلمة من القرآن الكريم لا ينسجم ما يقوله شيخه فيها مع قاعدة تعلمها منه، وأصرّ الشيخ أن حُكْمَ هذه الكلمة مختلف عن القاعدة التي يُشير إليها الشاب الصغير، فلم يمنعه حياؤه أن يُصِرَّ على فهمه للحكم، بينما الشيخ لم يمنعه علمه من الإصرار على رأيه.

مؤلفاته وآثاره العلمية

كتاب(أحكام تجويد القرآن على رواية حفص بن سليمان):

بعد أن أتقن الشيخ أحكام التلاوة والتجويد ، وأصبح من الطلاب المميزين في هذا العلم ، رأى فيه بعض أقرانه القدرة على أن يعقد جلسة لتعليم أحكام التلاوة والتجويد، وانطلق المعلم في التعليم مع انطلاق فكرة طباعة ما جمعه عن هذا العلم ، فنمقه في كراس مرتب وخط واضح وجميل، وأرسله إلى فضيلة الشيخ محمود الحصري في مصر ليعطيه رأيه فيما سمّاه (رسالة في أحكام تجويد القرآن على رواية حفص بن سليمان)، وما أسرع أن جاء الرد بتقريظٍ جميل أَذِن فيه بطباعته، وقد شجَّعه ذلك على طباعته.

وقد صدرت الطبعة الأولى للكتاب في مصر عام 1953م، بينما كانت الطبعة الثانية في مطابع قطر الوطنية عام 1958م، والثالثة في السودان عام 1969م، حيث كان مقرراً على طلبة كلية الشريعة في جامعة أم درمان.

وتوالت بعد ذلك طبعات هذا الكتاب القيّم التي وصلت إلى(18) طبعة، واكبتها عمليات تنقيح وتبسيط لكل ما يصعب شرحه.

وقد لاقى هذا الكتاب استحساناً من العلماء المتخصصين في هذا المجال، وحصل على الثناء والتقريظ المناسبين له، لما كان فيه من حُسن جمعٍ وتصنيف وتنظيم وترتيب وعرض، من شأنه تيسير الإلمام بأحكام التلاوة والتجويد لمن يقتني هذا الكتاب ويدرسه، ومن هؤلاء العلماء الذين قرَّظوا الكتاب: فضيلة الشيخ  علي محمد الضباع شيخ المقارئ المصرية سنة 1373هـ =1953م، وفضيلة الشيخ محمود خليل الحصري شيخ عموم المقارئ بجمهورية مصر العربية سنة 1383هـ =1963م، وفضيلة الشيخ  محمد كريم راجح شيخ القرَّاء في الجمهورية العربية السورية سنة 1413هـ =1992م.

 الآثار العلمية والفكرية لكتابه:

اشتد إقبال الناس كباراً وصغاراً على تعلم القرآن الكريم وأحكام التجويد، وكانت قبلتهم لذلك العلم بعد نكسة 1967 هو المسجد الحنبلي الذي سعى له (عديله الشيخ عبد الله المعاني) ليتوظف فيه إماماً، وما لبث أن كان الكتيب بين أيدي الناس في بقاع واسعة من الأرض، بعد أن تم اعتماده مرجعاً دراسياً في عدد من الجامعات والمدارس العربية والمحلية، مثل: جامعة أم درمان في السودان وفي قطر، والكويت، ثم لاحقاً في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، وفي مدارس ومعاهد فلسطين.

رسالة في الوعظ والإرشاد:

 كتب الشيخ رسالة في الوعظ والإرشاد حيث كانت الطبعة الأولى سنة 1969م، جمع فيها موضوعات قيمة تهدف إلى الحث على عبادة الله سبحانه وتعالى والامتثال لأوامره واجتناب ما نهى عنه سبحانه وتعالى، كما تهدف إلى نشر الآداب والأخلاق الإسلامية الحميدة، وقد لاقت هذه الرسالة ثناءً وتقديراً وتقريظاً من بعض العلماء، منهم سماحة قاضي القضاة ورئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس وقتئذ سماحة الشيخ حلمي المحتسب - رحمه الله -، وفضيلة الشيخ عكرمة سعيد صبري مدير الوعظ والإرشاد في الضفة الغربية وقتئذ، ونظراً لأهمية هذه الرسالة ومحتوياتها فقد حرصت وزارة التربية والتعليم على توزيعها في المدارس التابعة لها.

المهام والوظائف: 

بدأ في تدريس علم التجويد في عدد من مساجد نابلس منذ عام 1950م.

عمل إماماً للمسجد الحنبلي في مدينة نابلس سنة 1968م.

دَرَّس التجويد في كلية الشريعة الإسلامية في مدينة "باقة الغربية" على مدار عشرين عاماً، وبقي كذلك حتى منعته سلطات الاحتلال الإسرائيلي من دخول هذه المدينة.

دَرَّس التجويد في كلية الشريعة في مدينة قلقيلية.

دَرَّس في المدرسة الثانوية الإسلامية بنابلس.

عقد العديد من الدورات التي اعتمدتها دائرة الأوقاف الإسلامية.

تم تعيينه – رحمه الله – مديراً لدائرة القرآن الكريم بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية في المحافظات الشمالية بنابلس سنة 1999م،  واستمر في عمله مدرساً ومعلماً لأحكام التلاوة والتجويد وموجهاً لمدرسي القرآن الكريم رغم كبر سنه، حتى بعد بلوغه السن القانوني للتقاعد،.

كان الشيخ عضواً في جميع لجان الامتحان الشفوي التي تعقدها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.

تلاميذه:

حرص العديد من طلبة العلم على حضور حلقاته ودروسه؛ لينهلوا من علمه الغزير، ويستمعوا إلى تلاوته العطرة، ويتتلمذوا على يديه، حيث دَرَّس التلاوة وأحكام التجويد في العديد من المساجد، وقد تخرّج الكثير من الحفظة والمتقنين للتلاوة في دور القرآن الكريم حيث كان لهم شرف التَّتلمذ على يديه.

ومن أبرز تلاميذه بالتجويد:  د عبدالله عزام، والشيخ  عبدالمنعم أبو زنط، والشيخ حامد البيتاوي إمام المسجد الاقصى، ود. صلاح الخالدي .  

النشاط الدعوي:

عقد مجالس علم في مناطق داخل فلسطين المحتلة عام 1948، وعمل مدرسًا في الكليات الشرعية والمؤسسات التعليمية في المحافظات الشمالية من بلادنا المباركة.

تأسيسه لإذاعة القرآن الكريم :

توَّج الشيخ جهوده المباركة في خدمة القرآن الكريم بإنشاء إذاعة للقرآن الكريم، ويسَّر الله الأمر فافتتحت الإذاعة عام (1418هـ -1998م)، فقد أنشأ الشيخ بمجهود ذاتي وبرفقة الشيخ عبد الرحمن بانا إذاعة القرآن الكريم في مدينة نابلس سنة 1998م.

وشهدت الإذاعة تطوراً ملحوظاً في المساحة الجغرافية لالتقاط البث والبرامج التي تُقدم للمستمعين.

 حيث تغطي الإذاعة حاليا كل فلسطين ومعظم الأراضي الأردنية، وأجزاء من سورية ولبنان وسيناء،  كما أن لها موقعاً على الإنترنت يقدم خدمة البث المباشر لمن شاء في أية بقعة من العالم، إضافة إلى صفحتها على الفيسبوك.

وإضافة إلى التلاوات القرآنية لمختلف القرّاء يومياً ودروس التفسير، فإن الإذاعة تقدم برامج متعددة، منها ما هو مباشر للإجابة على أسئلة واستفسارات المستمعين، إضافة إلى برامج تربوية واجتماعية.

تكريم وزارة الأوقاف والشئون الدينية

-   قامت وزارة الأوقاف والشئون الدينية بتكريم فضيلة الشيخ محمد سعيد ملحس- رحمه الله- في الحفل الذي أقيم لتكريم حفظة القرآن الكريم في مدينة نابلس، حيث كان الشيخ – رحمه الله- واحداً من كوكبة العلماء الذين تم تكريمهم سنة 2000م.

كما قامت الوزارة بتكريمه مرة ثانية اعترافاً بفضله وجهوده – حفظه الله – في تأهيل حفظة كتاب الله المشاركين في المسابقات المحلية والدولية، وذلك في الحفل الذي أقامته الوزارة في مقر دائرة العمل النسائي بمدينة نابلس سنة 2005م، لتكريم الفائزات في حفظ القرآن الكريم، وخريجات دورات أحكام التلاوة والتجويد، وقد تشرفتُ بمنحه رتبة فخرية هي (مدير عام قرَّاء شمال فلسطين).

-   نظراً لمكانة الشيخ محمد سعيد ملحس – رحمه الله- العلمية والدينية، فقد حرصت وزارة الأوقاف على تكريمه مرة ثالثة في الحفل الذي أقامته الوزارة في مقر وزارة الأوقاف في العيزرية بالقدس ، وذلك يوم الأربعاء 25/ ربيع أول/1426هـ = 4/5/2005م؛ لتكريم العلماء وحفظة القرآن الكريم والفائزين في مسابقة الأقصى المحلية في حفظ القرآن الكريم وتفسيره في القدس والمحافظات الشمالية، وقد شهده جمع غفير من العلماء والدعاة والقضاة والمسئولين وأساتذة الجامعات.

وفاته: 

 

توفي صباح الجمعة  23 من ذي القعدة 1437 الموافق  26/8/2016 

عن عمر 93  رحمه الله رحمة واسعة.

 

وقد نعته هيئة علماء فلسطين في الخارج :

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي "

نعي العالم المقرئ الشيخ محمد سعيد ملحس

     

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد:

بقلوب راضية بقضاء الله تعالى تنعي هيئة علماء فلسطين في الخارج إلى الأمة الإسلامية وإلى الشعب الفلسطيني وإلى تلامذة الشيخ لا سيما الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني وفاة العالم المربي شيخ علم التجويد في فلسطين:

 

الشيخ محمد سعيد ملحس

 

الذي لبّى نداء ربّه تبارك وتعالى قبل ظهر اليوم الجمعة 23/ذو القعدة/1437ه الموافق 26/08/2016م في مدينة نابلس في فلسطين المحتلة عن عمر ناهز 93 عاماً قضاها في تعليم القرآن الكريم وقد ألّف عام 1950م رسالة في أحكام تجويد القرآن على رواية حفص بن سليمان وقد نال الكتاب استحسان الكثير من علماء الأمة، كما أسس إذاعة القرآن الكريم، وتَخرَّجَ على يديه الكثير من طلبة العلم وحملة القرآن الكريم.

وإننا نعزي الأمة الإسلامية والشعب الفلسطيني وتلاميذه وذويه بهذا المصاب الجلل ونسأل الله تعالى أن يتقبل الشيخ بواسع رحمته وأن يرزقه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

 

وإنا لله وإنا إليه راجعون

 

23/ذو القعدة/1437هـ                     هيئة علماء فلسطين في الخارج               

26/08/2016م

 

منتقى من (قُرّاء من أرض الإسراء"3") فضيلة الشيخ / محمد سعيد ملحس " رحمه الله " أستاذ التلاوة وأحكام التجويد . للكتور يوسف جمعة سلامة .