في ذكرى المُهند ..

الشيخ مهند الغريري رحمه الله

ما زلتَ صغيرا، وعيناكَ جميلتان، جميلتانِ جدا، صوتُك مثل صوت الماء، ينساب من نقطة في قلبك تميزت بها، كنت أصغر الخطباء، وأول الشباب نحو كل خير.

 

هل تتذكرون مهندا يا شباب بغداد؟ كُنا نستمع إليه ونحن أسفل منه، رافعين رؤوسنا صوب المنبر، نتعلم من خطبه كل جمعة بجامع “عمر بن الخطاب” الكائن بحي الإعلام ببغداد، فالشيخ الشاب مهند الغريري – رحمه الله تعالى – خطيب قل نظيره، وفي مسجد اشتهر على مستوى العراق بكثرة تخريج حفاظ كتاب الله.

 

يا حبيبي يا مهند.. أعود إليك، كنا مثل طالب ومُعلم، ولكن من النوع الذي تتعلم معه بالنظر، يسمون ذلك حديثا “التعليم بالقدوة” كل شيء كان مفهوما بالنظر، ويحبكَ الناس بالنظر، وبشيء من الروح، وبأشياء كثيرة، لا يمكن وصفها، لأنها من خصوصيات القلوب، ولو فتشنا أكثر يا مهند، لما وجدنا أن أحدا قد حاز على الإجماع بأنه “محبوب” وثابت مثلك.

 

أذكر ذلك المساء الذي وضع فيه مهند على صدره حرف ” الدال ” قبل أن يطلق عليه لقب “الدكتور” في علوم الشريعة الإسلامية، كنا نستمع لمناقشة رسالته. ومن عيون المشرفين، كان الجميع يعلم أننا أمام استثناء في العلم، واستثناء في نوعية الحضور، لم يمض وقت كثير، حتى حاز الشاب الألمعي مرتبة الشرف الأولى والامتياز على رسالته تلك، كان آخر ما سمعته عن تلك الجلسة أنه فاق القرناء بمسافة بعيدة، وحمل د. مهند لقب “الدكتور” من يومها، وذهبنا إلى بيته المتواضع، احتفاء بهذا الدكتور الجديد.

 

وذات يوم، منذ نحو عشرين عاما، بدأت باستكشافه عن قرب، بل كنت أقرب إليه من أي وقت مضى، أسبوعا أو يزيد، لا أفارقه، كانت رحلة جميلة، تشاركنا فيها مع نخبة من أروع من عرفت، حين أطوف بمخيلتي أجد منهم حبيب الروح الدكتور حسن علاوي السامرائي الذي ودعنا وفارق الحياة شابا، أجد الاستاذ عصام فليح، الخلوق الهميم وقد ودع دنيانا، أتذكر حسين علاوي وقد ودعنا رحمه الله، أتذكر وائل الذي لم أعد أسمع عنه شيئا منذ خروجه من العراق، أتذكر غيث رحمه الله، ويمكن أن أقول إن الثلثين قد قتلوا في مسلسل استنزاف لخيرة شباب العراق وبغداد على وجه الخصوص.

 

مازلتَ صغيرا يا أبا مجاهد، عرفك الجميع منذ بداياتك في مساجد بغداد وخاصة في جامع الأقطاب بحي العامل، أنك نادر، وأن مثلك لا يولد في كل جيل إلا مرة واحدة، مثلك يا شيخ مهند من نوادر الحياة، ولقد كنتُ محظوظا حقا، بأني اكتشفتك منذ وقت طويل.

 

وثم جاء الاحتلال الأمريكي للعراق، وجاء معه القتل والتشريد وإنهاك البلاد والعباد، وزُج بخيرة الشباب خلف القضبان، والدكتور مهند يراقب ما يجري، كان صوته مؤثرا، يطلقه بقوة بوجه الاحتلال نفسه، يوم الجمعة كان باعثا حثيثا على تعرية الاحتلال في أسماع الناس من صوت ذلك المهند.

 

مرت سنة واثنتان وثلاثة، ومهند في بغداد، وصوته قويا بوجه الاحتلال، ومن حوله خلية نحل، كل الأشياء تتغير، إلا وجهه، جميل وبسام وودود، كل الأشياء تتغير كذلك إلا فكره، وسطي معتدل، لكنه مهندٌ للعقيدة والمبدأ، صامد ضد الاحتلال الأمريكي جملة وتفصيلا، وضد قتل أي عراقي ولو اعتدى.

 

ذات يوم، وهو في طريقه نحو منطقة الكرمة، وكان اليوم جمعة، ويوم خطبة، في منتصف الشهر التاسع من عام الفين وستة، أوقفه مسلحون قرب المسجد.

 

الشهيد مهند

 

تذكر الأخبار، أنه رفض إطلاقا أن يدافع أي أحد عنه ممن كان معه، خشية القاتل والمقتول، فاختار أن يذهب إلى ربه شهيدا مظلوما، ولم يذهب قاتلا أو آمرا بقتل.

 

اللقطة الأخيرة من كل المشهد، تختزل القصة كلها، هل تتذكرون مهندا كما أتذكره، ذلك الذي التصقت بسمته بوجهه حيث حل ورحل، لقد بقيت معه، واستبشر أهله وأحبابه، حين شاهدوه يوم استشهاده والله حسيبه، وفي وجهه ضحكة واسعة، واضحة لكل ناظر، كانت البشارة من رحم الألم، كان مهند مبتسما، بنفس ابتسامته المعتادة، وكأنها رسمت عليه رسما، وعيناه مغمضتان أو أن دفقا ينساب منهما على كل ناظر..

 

أترك لكم مسألة البحث عن سر بسمة الشيخ مهند الغريري حيا أو ميتا ، ولكنها لحظة أخيرة، اختزلت لنا مسيرة طويلة، وبقيت هذه الصورة معنا لتقول: هل سينجب هذا الجيل عالما يمكن أن نسيمه “المهند” ؟

المصدر : إسلام أون لاين