سعدي ابو جيب

بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله وكفى وصلى الله على الحبيب المصطفى ، وعلى آله سفن النجاة ، وصحبه نجوم الهدى
أما بعد :
قال الحافظ ابن حجر :" في شوال من سنة ثمانمائة و ثمانية ، قتل في حلب الأمير نُعير الحياري و قد نيّف على السبعين ، و قد كان شجاعا جوادا مهيبا ، و هو ممن حث السلطان من أجل المجيء إلى دمشق لاستلامها ، فكان ذا حظوة عنده ، حتى أنه شفع لبعض من كان يقاتل السلطان فشفع له ". أهـ.
قال الأستاذ محمود العظم : وقد بقي أحفاد الأمير نُعير في الكسوة ، ومن ثم رحلوا إلى دمشق ، فسكنوا حي الميدان ، وسميت الجادة التي سكنوها : جادة نعير ، حتى زماننا هذا . أهـ.
ومن أحفاد هذا الأمير الشجاع ، وفي هذه الجادة الموجودة في حيٍّ من أشهر أحياء دمشق ، عروبة ً وأصالة ً، كانت عائلة " أبو جيب " التي ينتمي إليها شيخنا حفظه الله .
ففي الثالث من شهر جمادى الأخرى من سنة ( 1351 ) ه الموافق للعاشر من شهر تشرين الأول سنة ( 1932 ) م كانت صرخات المولود الجديد تملئ الدار لتدخل السرور والفرح على قلب أبويه ، ولتبدأ بها حياة ٌ حافلةٌ من الجدِّ والعمل والعطاء في خدمة الدين والأمة .
فمولودنا الجديد

اسمه :
سعدي بن حمدي بن سعيد بن محمود أبو جيب .
جده السيد سعيد كان محاميا في زمن الدولة العثمانية ، و عندما فُتحت في الزاوية الخانكية في حي الميدان ، أول مدرسة نظامية آنذاك ، كان لولده حمدي النصيب من أن يكون مِن أوائل مَن درس بها ، و تعلم فيها ، إلا أن الأحوال المادية التي كانت تعصف بالبلاد خلال الحرب العالمية الأولى حالت دون متابعته للدراسة ، فخرج منها ليدخل مدرسة الحياة و الجد والعمل والتعب ، وقد كان لهذه المحنة التي مرَّ بها والد الشيخ منحة مبطنة للشيخ وأخوته .
حيث أن والده السيد حمدي رحمه الله ، أخذ الثأر لنفسه عندما مُنع من متابعة تحصيله العلمي ، أن وهب حياته ثمنا لتعليم أولاده ، باذلا في سبيل ذلك الغالي والنفيس ، حتى نال مراده ، ورأى أولاده كما يحب ويرضى .

قال شيخنا حفظه الله واصفا حال والده :
لقد كان والدي يعمل برغيف خبز،يعطينا نصفَهُ لنأكله ،و النصف الآخر لنتعلم به ،و الحمد لله .
وما والدته رحمها الله عن تلك الدوحة ببعيدة ، فهي من نفس المعين شربت ولآل أبو جيب انتسبت ، فكانت وارثةً للشجاعة و الجود و الكرم ، مُورثةً ذلك لأولادها وأحفادها ، حتى كانت تُعرف بينهم " بالسلطان " لقوة شخصيتها ورجاحة عقلها ، مع محافظتها لآخر عمرها على العبادة وقيام الليل ، مع النصح و الإرشاد ، فرحمها الله وأسكنها فسيح جنانه .
أما عن بيت الشيخ ، فقد رزق السعادة فيه كما رزقها بأبويه ، فأكرمه الله بزوجة صابرة صالحة ، من عائلة مشهورة معروفة بالصلاح و التدين ، فكانت خير معين للشيخ ، وخير سند له ، حتى أنه طالما كان يسألها ويستشيرها في أمور كانت تشكل عليه ، فترشده ببصيرتها وحُسن طويتها وصفاء نيتها إلى ما هو خير ...
فكان من ثمار هذه الدوحة المباركة ، أن نال الشيخ السعادة بأولاده أيضا ، ما بين خمسة ذكور وأربع إناث ، كانوا من خيرة شباب وبنات دمشق ، بالعلم والأدب والأخلاق ، والحمد لله رب العالمين .

تحصيله العلمي :
عاش الشيخ في دمشق ، وتتلمذ بها على علمائها و أعيانها ، ونشأ بين أحضانها ينهل من مكتباتها، ويقرأ كل ما يقع تحت يده من نفائس الكتب وذخائر التراث فيها ، مما جعله متحرراً عن عادة أهل بلده من التزام مذهب فقهي معين ، متأثرا بذلك بالإمام ابن حزم الظاهري ، الذي قرأ له كل ما وقع تحت يده من كتب مطبوعة ، ثم قرأ لابن قدامة و ابن تيمية ، وقرأ بداية المجتهد مرارا بسبب مدارسته لها مع إخوة له .
مما جعله شديد التأثر بهذه المدرسة ممن قرأ لهم فقد أعطوه " حرية الحركة و التفكير "

فكان الشيخ نتيجة لذلك :
يتّبِعُ ما كان فيه مصلحة و فائدة ، و مستنداً إلى دليل قوي .
أما عن تحصيله الرسمي :
• فقد حاز على الإجازة من كلية الحقوق في جامعة دمشق سنة (1958) م.
• دخل سلك القضاء سنة (1960) م ، حتى استقال منه سنة (1990) م.
• في سنة (1963) م جلس على مقعد الدرس في كلية الشريعة في جامعة دمشق ، لينال الإجازة منها سنة (1966) م بتقدير ممتاز .
• في عام (1967) م ذهب للعمل في الكويت معاونا لخبير الموسوعة الفقهية ، العلامة مصطفى الزرقا ، حتى سنة (1969) م .
• أُعير إلى رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عام (1977) م ، وقام هناك بتأسيس المجمع الفقهي الإسلامي ، ووضع نظامه ،وتولى إدارته ، ليكون أول رئيس له حتى عام (1979) م .
• عندما عاد إلى دمشق ، عمل خبيرا في قسم الحضارة في الموسوعة العربية من عام (1987) م حتى عام (1991) م .
• خلال هذه الفترة ألقى محاضرات في كلية الحقوق في جامعة دمشق سنة (1988) م .
• في عام (2002) م تولى تدريس مادة الأحوال الشخصية والوصية و الوقف ، في قسم التخصص بمعهد جمعية الفتح الإسلامي بدمشق حتى عام (2011) م .
• في عام (2005) م عُين محاضرا لمادة " أدب القضاء " في المعهد القضائي التابع لوزارة العدل السورية ، حتى عام (2011) م .
• كُلف مع مجموعة من المختصين سنة (2005) م بوضع قانون الأحوال الشخصية في القانون السوري ، بمرسوم رئاسي ، وقد تم ذلك ، ووُضع القانون على أكمل صورة و أتم وجه ، إلا أن تدخل بعض الأيادي ، حالت دون العمل بالقانون المذكور ، حتى الآن .

شيوخه :
قال الشيخ حفظه الله : من نِعم الله عليّ ، أساتذتي .
فقد رزق السعادة بهم و بمجالستهم ، و كان أثرهم بحياته و عمله باقٍ حتى يومنا هذا ، والحق يقال : أن من كان تلميذا لمن سنذكرهم ، فحقيق به أن ينال – بفضل الله – السعادة والبشرى .
• محمد بهجت البيطار :
علامة دمشق ، وبهجة بلاد الشام ، لازمه الشيخ مدة خمس وعشرين سنة ، ملازمة الولد لوالده ، وتأثر به تأثر الولد بوالده ، وكان الإمام معه كوالد مع ولده ...
قرأ عليه : الموافقات للإمام الشاطبي .
إعلام الموقعين للإمام ابن القيم .
القياس في اللغة للإمام محمد الخضر حسين .
حياة شيخ الإسلام للإمام محمد بهجت البيطار .
و غيرها من الكتب النافعة الماتعة ....
وقد كان تأثر الشيخ بأستاذه كبيرا بهدوء طبعه ، وطيب معشره ، وقدرته على ضبط مشاعره ، حتى أن الدكتور مازن المبارك كان يقول للشيخ : كلما رأيتك تذكرت الشيخ بهجت .
• محمد المنتصر الكتاني :
الإمام الحافظ ، سليل بيت العلم والإمارة ، لازمه الشيخ في درسه بمسند الإمام أحمد ، ودرسه عليه دراسة حديثية ، وقد أجازه الإمام بالحديث المسلسل بالأولية .
• حسين سليم أسد الداراني :
المحدث المحقق ، درس الشيخ معه في جلسات خاصة : سنن الدارمي ، مسند الحميدي ، وجزأين من مجمع الزوائد .
هؤلاء هم أهم شيوخ الأستاذ الذين يحرص على ذكرهم في ترجمته الخاصة ، وبقي أساتذة أُخَر سنذكرهم حسب سنين استفادة الشيخ منهم ، و هم :
• الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق :
أول من تأثر به الشيخ ، و ذلك عندما كان أستاذا له في المرحلة الابتدائية من حياته العلمية .
• الدكتور محمد أديب الصالح :
درس عليه في المرحلة الإعدادية ، و في كلية الشريعة ، و قد كان في قمة التواضع و الأدب ، ومما استفاده منه الشيخ ، قوله لهم في أحد دروسه : يا أبنائي ، اجعلوا من علمكم شيئا لله .
قال الشيخ : هذه الكلمة لا تغيب عن ذهني أبداً .
• الأستاذ على الطنطاوي :
أستاذ الجيل ، وأديب الفقهاء ، درس عليه في المرحلة الثانوية ، وقد كانت لطريقته في التدريس أثرٌ كبيرٌ في نفس الشيخ و عقليته .
حتى أن الشيخ كان يقول : الشيخ علي نسيج وحده .
• الدكتور يوسف العش :
تتلمذ عليه في كلية الشريعة ، ومن ثم جمعت بينهما جلسات خاصة ، عرفه من خلالها واستفاد منه بها ، أكثر من معرفته أثناء التدريس ، والشيخ كثير الذكر له ، و الثناء عليه ، لما له – بعد الله – من فضل عليه في علمه وحياته .
• الشيخ مصطفى الزرقا :
الإمام العلامة ، لازمه الشيخ عندما ذهب ليكون معاونا له في عمله في الموسوعة الفقهية في الكويت .
قال الشيخ : من نعم الله علي أن هيئ لي ملازمة الشيخ الزرقا في فترة كان له بها دور كبير في بلورة شخصيتي وفكري ، وكنت أقف بين يديه ، كما يقف تلميذ المرحلة الابتدائية بين يدي معلمه .
• الدكتور معروف الدواليبي .
• الدكتور مصطفى السباعي .
• الشيخ محمد المبارك .
• الدكتور محمد فوزي فيض الله .
و غيرهم الكثير الطيب ، و الحمد لله رب العالمين .

تلاميذه :
قال الشيخ : شخصان لا أرد في وجههما بابا ، واستقبلهما في أي وقت كان :
• قاضٍ يستشير .
• طالب علم يسأل .
وهكذا كانت حالة الشيخ وحياته ، مع كل من أراد أن ينهل من علمه ، أو يتزود من علومه ، ومعارفه ، في أي وقت كان ، أو من أي بلد جاء ، فجزاه الله عنا خير الجزاء .

مؤلفاته :
إن كانت المؤلفات للعالم ، كالأولاد للوالد ، فقد كان نصيب الشيخ من السعادة والتوفيق فيهما ، من نِعم الله التي لا تعد ولا تحصى ، لما كان له من فضل رباني ، بتربية صالحة – إن شاء الله – لأولاده ، وجودة و متانة وإتقان – بإذن الله – لمؤلفاته وكتبه .
فكان الشيخ يكتب للعلم ، ولخدمة الأمة ، ونصح المجتمع ، من توضيح لمبهم ، أو شرح لمشكل ، أو تبيين وإرشاد ، و ذلك فضلٌ من الله يؤتيه من يشاء من عباده .
و قد أصدر حتى يومنا هذا بفضل من الله ، المؤلفات التالية :
• مروان بن محمد ، وأسباب سقوط الدولة الأموية .
• موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي .
• معجم الفقه الحنبلي ، مستخلص من كتاب المغني لابن قدامة ( بالاشتراك ) .
• القاموس الفقهي – لغة و اصطلاحا .
• سحنون ، مشكاة نور وعلم وحق .
• الوجيز في المبادئ السياسية في الإسلام .
• دراسة في منهاج الإسلام السياسي .
• جلال الدين السيوطي – حياته وعلمه .
• السعادة .
• القاضي في الإسلام .
• أحمد بن حنبل – السيرة والمذهب .
• رسائل في إصلاح الدولة و المجتمع ( ضبط وتحقيق ) .
• الماسونية .
• موسوعة الأوائل .
• التذكرة في القضاء الشرعي .
• من الحكمة ، ومعها الحكمة عند أبي تمام و المتنبي .
• من مفردات الحضارة - منتقاة من تعليقات الأستاذ عبود الشالجي على كتب الإمام التنوخي .
• السلام و الإسلام – من فكر ظافر القاسمي في كتاب الجهاد و الحقوق الدولية .
• اللحظات الحاسمة في تاريخ البشرية .
• هذا القرآن . من أين ؟
• التاريخ ورسالته في القرآن .
• لغة الشريعة .
• المعوق والمجتمع في الشريعة الإسلامية .
• آيات الأحكام في السور المكية .
• رسائل ومقالات للحوار والنقد ج 1 و يضم :
1- مشروع قانون الوقف .
2- النسب والخبرة .
3- الاختلاف في إعراب الطلاق الثلاث .
4- بيع الحلي في الشريعة الإسلامية .
5- حول قصيدة بانت سعاد .
• رسائل و مقالات للحوار و النقد ج 2 و يضم :
1- عقد التأمين .
2- الفائدة والربا .
3- الأراضي الأميرية .
• رسائل ومقالات للحوار و النقد ج 3 و يضم :

مقالات الشيخ في المجلات والدوريات ...
• كتب عددا من الأبحاث في الموسوعة الفقهية الكويتية ، وفي الموسوعة العربية بدمشق ، وفي موسوعة السيرة النبوية الصادرة عن دار النفائس ببيروت .
• كتب المصطلحات الفقهية ، والأصولية في معجم " العماد " في اللغة و العلوم و الآداب .
هذه عن كتبه المطبوعة أو المعدة للطبع .

أما كتبه المخطوطة فهي :
مجموعة رسائل ومقالات وفتاوى قضائية ، بالإضافة لديوان شعر ، وثلاث مجموعات قصصية ، وكتاب جمع فيه التدرج التاريخي للمعنى اللغوي للكلمة ، من خلال تفسير الإمام الطبري ، وكتاب سنن ابن حزم ، جمع فيه مرويات ابن حزم في كتبه ، بالإضافة لمجموعة كبيرة من المراسلات والخواطر و الفوائد العلمية والتاريخية ، والذكريات ، والحمد لله رب العالمين .
صفاته و خلقه :
إذا أردتُ أن أفتح هذا الباب ، فإن حروف اللغة لا تفي للتعبير عما في خاطري للشيخ وما يكنه قلبي و قلب كل من رآه أو شاهده أو تتلمذ عليه من محبة و تقدير .
فهو : هادئ بطبعه ، لا يتكلم إلا بما فيه نفع له ، ولمن يسمعه ، يحاسب نفسه على الكلمة أن يقولها أو الحرف أن يخطه ، وفيه ضرر أو ما لا يرضي الله ، ملتزم بالسنة عامل بها ، له مع كتاب الله وقفات ووقفات ، يحمد الله أن أكرمه بنهاية مشواره في هذه الحياة أن عكف على خدمة كتابه الكريم والتقاط الدرر منه .
كان لعمله في القضاء أثر كبير في شخصيته ، وتعامله مع من حوله ، إلا أن البساطة الموجودة داخله أبت إلا أن تظهر في الجلسات الخاصة التي جمعتني به ، فزاد حبي له و تعلقي به ، وتعلمت منه :
الثقة بالنفس ، الثقة بالله ، الثقة بهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس .
مع أدب رفيع مبثوث في طيات كتبه ، وعبارات ماتعة تخاطب الروح و الفكر معا .
فالقارئ لكتب الشيخ ورسائله ، رغم جفاف موضوعات بعضها ، يرى فيها سلاسة أدبية ، تشد قارئها وتمتعه ، فتمنع عنه الملل والكلل ، بصياغة تأخذ بالألباب .

وفي الختام :
ليس أدلُّ على صدق ما أقول إلا بعض الأبيات الشعرية ، والتي كانت من أواخر ما خطته يديّ شيخي الحبيب ، أتحفني بها في آخر زيارة له قبل أن أُبَيض هذه الورقات ، حيث قال :
قد رأتني شابَت نواصيَّ و خَطَّ الزمانُ في الخدِّ سطرا
فاستطالت بقولها وتمادَت و تعالَت عليَّ كبرَا و فخرا
وَيحهَا نورُها بِشَعري قد حلَّ و اسمُهَا فوق خدي استقرَّا
حفظ اللهُ الشيخَ وأعانه على ما فيه خدمة الإسلام والمسلمين .
و آخر دعوانا : أن الحمد لله رب العالمين .