عالِمٌ فقدناه: الشيخ الدكتور ‫‏عدنان كامل سرميني‬ رحمه الله‬‬

 

فقدت حلب عالماً من علماء سورية، كان عالماً عابداً عاملاً.

قضى أيام حياته معلماً ومربياً وواعظاً وداعياً إلى الله، كان محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رآه في منامه منذ أن كان صغيراً أكثر من مرة، رحمك الله يا شيخ الوقار والأدب والحكمة والعلم.

نشأته ودراسته:

أسرة السرميني من الأسر العلمية بحلب، توارثت العلم الشرعي، فوالده الشيخ كامل السرميني - رحمه الله - كان إماماً وخطيباً لجامع البهرمية بحلب طيلة حياته، كان له الأثر الكبير في مجتمعه، حتى أنه نجح في انتخابات الإدارة المحلية، لكنه استقال مباشرة لأنه شعر أن هذا العمل يتعارض مع نهجه، فالتفرغ للمسجد وزرع العمل الصالح بين الناس هدفه في الحياة.

أرسل الوالد الشيخ ابنه عدنان إلى المدرسة الخسروية بحلب (أزهر سورية) ليتلقى العلم الشرعي عن علماء نوَّروا حلب بعلمهم وأرواحهم، وأشاعوا في قلوب طلابهم في المدرسة الخسروية العلم والتقوى والإخلاص بالعمل.

أذكر بعض أسماء العلماء المشايخ الذين درَّسوا في المدرسة الخسروية وحين أطوي ذكر بعض الأسماء لا بسبب ما، فكل العلماء نجوم؛ الشيخ راغب الطباخ، الشيخ أسعد العجي، الشيخ نجيب خياطة، الشيخ سعيد الإدلبي، الشيخ نجيب سراج الدين، الشيخ أحمد الكردي، الشيخ محمد الحكيم، الشيخ إبراهيم السلقيني (الجد) - رحمهم الله -.

كان الشيخ عدنان - رحمه الله - يتذكر أساتذته من العلماء ويشعر محدثه بالنشوة حين يذكرهم، وقد تخرج من المدرسة الخسروية (الثانوية الشرعية) سنة 1948، ونال أيضاً الشهادة الثانوية العامة، وانتسب إلى كلية الحقوق في ذات السنة 1948، وحين أعلنت وزارة التربية في سورية عن منحة دراسية لدراسة العلوم الإسلامية في مصر سنة 1951، فاز الشيخ بهذه البعثة الدراسية، واستمر في دراسة الحقوق وتخرج في كلية الحقوق بجامعة دمشق سنة 1952، تخرج في الأزهر سنة 1954، ثم تابع دراسته في الأزهر وحصل على دبلوم في التربية سنة 1955.

لم يكن الشيخ عدنان - رحمه الله - في مصر طالب علم جامعي فقط، بل كان طالب معرفة ودعوة إلى الله، كان يحضر الندوات الدينية لعلماء الدعوة مثل عبد الحكيم عابدين وفريد عبد الخالق وغيرهما من العلماء رحمهم الله جميعاً، وكان على صلة وثيقة بالشيخ يوسف القرضاوي .

عمله ونشاطه في حلب: 

بدأ التدريس في ثانويات حلب سنة 1955، واستمر في التدريس حتى عام 1970.

تنقل في هذه الفترة في ثانويات حلب للبنين وللبنات، كان له الأثر الكبير في الطلاب والطالبات، منهجه في الدعوة إلى الله والإخلاص في العمل والمعرفة الواسعة في أمور الدين والنظرة الأبوية لطلابه وطالباته جعلت القلوب تتجه إليه وتحبه، في كل مدرسة ينتقل إليها يسعى لإحداث مسجد، فإذا لم يستطع تأمين غرفة للصلاة صلى في ساحة المدرسة مع طلابه، كان قلب الشيخ يشع بالنور، فيسقي أرواح كل من يستمع إليه، في مراحل عمله مرت عليه محن كان يتخطاها بالصبر، كان يرتدي في حلب الزيّ الإسلامي لعلماء ومشايخ بلاد الشام: جبة طويلة ويضع على رأسه عمامة (طربوش أحمر وملفوف عليه شاش أبيض).

 كان طويلاً مهيباً ذا لحية سوداء كثيفة، وكان صوته هادئاً ناعماً يفيض عذوبة ومحبة، كان دائم الابتسامة يشجع كل من حوله ويثني عليهم، ويشكرهم على كل عمل يقومون به ولو كان صغيراً.

 كان يميل إلى الوسطية في أمور الدين ولا يأخذ بالشدة، وكانت إجابته على أمور الدين فيها الدقة والسهولة والفهم الواضح لواقع المسلمين.

لم ينقطع عن العلم الشرعي والقراءة، كانت تجمعه مع أصدقائه الذين درس معهم في الأزهر سهرة كانوا يقرؤون كتاباً محدداً ويدرسونه، فإذا انتهوا منه ذهبوا إلى كتاب آخر، وكان يدير السهرة فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، وممن كان يحضرها الشيخ عبد الله علوان رحمه الله، والشيخ محمد علي الصابوني حفظه الله وأطال في عمره.

سار في منهج الدعوة إلى الله على منهج السادة من الصوفيين المعتدلين، وتعاون مع الشيخ الرباني عبد القادر عيسى - رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه - وكان الشيخ عبد القادر قد أخذ الطريقة الشاذلية عن عالِمَين من علماء دمشق رحمهما الله تعالى : الشيخ سعيد البرهاني، والشيخ محمد الهاشمي التلمساني، فكان الشيخ عبد القادر صوفياً معتدلاً واعياً ومربياً، تعاون معه الشيخ عدنان لانتشار منهج جامع العادلية.

انتقال عمل الشيخ إلى السعودية:

ذهب إلى السعودية في عام 1970، ليعمل في مدارسها كأستاذٍ مُعارٍ من وزارة التربية السورية إلى وزارة المعارف السعودية، اختار مدينة جدة للعمل فيها ليكون قريباً من المسجد الحرام، كان يؤدي العمرة كلما وجد في نفسه نشاطاً وشوقاً إلى رؤية الكعبة، أحياناً كان يذهب كل أسبوع إلى مكة خلال سكنه في جدة، عمل سنة في مدارس الثغر بجدة، ثم انتقل إلى مدرسة الفلاح وظل بها مدرساً ثلاثين عاماً من 1971 إلى 2001 م؛ خلال هذه الفترة من السنوات كان يسعى لأداء مناسك الحج في كل سنة، وكان يردد أن أداء الحج مكسب كبير قد لا أستطيع أن أحصل عليه في عام قادم.

منهج الشيخ في عمله: 

الشجرة الطيبة كلما تقادم عليها الزمن زادها الإله جمالاً ونماءً ورفعةً وأغصاناً وظلاً، هكذا شأن الشيخ عدنان - رحمه الله - منذ أن بدأ يتدثر بالعلم الشرعي ويرفع راية لا إله إلا الله في المدرسة الخسروية بحلب عندما كان طالباً، كان لا يترك القراءة، يبحث عن المعرفة، كانت معرفته بأمور دينه ودنياه تفوق كثيراً ممن يحملون الشهادات الجامعية العالية، لكنه أراد أن يعلم طلابه ومريديه ومحبيه أن نهر العلم لا يتوقف فنال درجة الماجستير من الأزهر سنة 1978، ثم سعى إلى درجة الدكتوراه فنالها في أصول الفقه سنة 1988، وهو ليس بحاجة إلى لقب علمي، فلفْظُ الشيخِ لقبٌ يرتاح به، وهو يسعى في عمله ليكون عبداً شاكراً لمولاه.

خلال عمله في مدرسة الفلاح كان يجد الاحترام والتقدير من أصحاب المدرسة (آل زينل) وكانت إدارة المدرسة توقر الشيخ وتسمع نصائحه، وكان أساتذة المدرسة ينظرون إلى الشيخ نظرة الأب المربي، أجيال الطلاب تجد في دروس الشيخ كل فائدة وتبادل شيخها الحب والشكر.

شعر بحاجة الطلاب إلى قراءة القرآن وحفظه، فسعى مع إدارة المدرسة إلى تحسين وضع المسجد ليكون جاهزاً لإقامة حلقاتٍ لحفظ القرآن، واستعان الشيخ عدنان - رحمه الله - بعددٍ من أساتذة المدرسة ليساعدوه في الإشراف على حلقات القرآن.

وانهالت التبرعات على هذا المشروع الخيري لتشجيع الطلاب على حفظ القرآن ومنحهم المكافآت والجوائز.

استمر برنامج تحفيظ القرآن في مدرسة الفلاح بإشراف الشيخ عدنان أكثر من عشرين سنة، وأثمر المشروع على حفظ القرآن من أجيال متلاحقة.

و في الصيف يقام في المدرسة نشاط صيفي لحفظ القرآن، ويشارك في هذا النشاط طلابٌ من أنحاء جدة، تزداد حلقات حفظ القرآن في المدرسة ويزداد عدد المشرفين على الحلقات، وتنهال على النشاط الصيفي هبات المحسنين لتشجيع حفظة القرآن.

و ممن شارك في نشاط حفظ القرآن عندما كان طالباً في مدرسة الفلاح الدكتور الشيخ القارئ ‫‏عبد الله بصفر‬، وقد أحب الشيخ عدنان حباً ملك عليه قلبه.

عمل خطيباً ليوم الجمعة في مسجد الفتيحي في جدة لأكثر من 20 سنة، كانت خُطَبُهُ دروساً عمليَّةً لفهم الإسلام، ويقصد المسجدَ للفائدة كثيرٌ من المصلين، وبعد الصلاة يجلس كثير من المصلين لفهم أمور دينهم من خلال أسئلة توجه للشيخ ويقوم هو بالإجابة عنها، وكان ينبه المصلين بعد صلاة الجمعة بألا ينسوا جلسة التفقه بالدين. 

كان بيت الشيخ قريباُ من مسجد الفتيحي، وكان يصلي في المسجد، وفي صلاة الفجر كان لديه جلسة مع المصلين لتفسير القرآن، وإذا ختم تفسير القرآن رجع مرة أخرى لتفسيره منذ البداية.

عمل الشيخ في الدعوة إلى الله والعمل الصالح لا ينقطع طيلة يومه، فهو في نشاط دائم، يسعى إلى هداية أحبته وتوجيههم إلى حلاوة نبع الإسلام والالتزام بالإسلام منهجاً وسلوكاً.

كانت سهراته مع طالبي المعرفة بالإسلام ومحبة رسول الله كثيرة، فكانت له سهرة كل أسبوعين مع محبيه من بلدته حلب يحدثهم على الصفاء الروحي وتهذيب النفس والحرص على صلاة التهجد في ساعات الليل.

ترك الشيخ عدنان - رحمه الله - العمل في مدرسة الفلاح بجدة وانتقل إلى المدينة المنورة مجاوراً فيها، وبعد سنواتٍ من مجاورته لرسول الله صلى الله عليه وسلم اختار أن يعود إلى بلده حلب ويقيم فيها إقامة دائمة.

العودة إلى حلب:

عاد الشيخ عدنان - رحمه الله - وسكن في منزل قريب من مسجد عبد الله بن عباس، وكان بيته مزاراً لأسرته وأهله وأحبته وطلابه، وكان يعطر زائريه من روحه وقلبه.

لكن أماني الشيخ وآمال محبيه انقطعت، فقد أصيب الشيخ رحمه الله بمرض أبعده عن مجالسة محبيه، حتى جاء أجله واسترد المولى أمانته.

و صعدت روح الشيخ إلى باريها، وقد قضى سنوات عمره حاملاً رايات العمل للإسلام، وآخذاً بأيدي الباحثين عن ربهم إلى شاطئ الإيمان.

رحمك الله يا شيخ عدنان رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جنانه، إنا لله وإنا إليه راجعون. 

و عوّض الله المسلمين عنه وعن أمثاله بعلماء عاملين يقومون بأعمال ترضي ربهم وتحيي سنة رسولهم. 

‬‬