الشيخ محمد عبده، المجدد الإسلامي ومفتي مصر

 

حدث في الثامن من جمادى الأولى 1323

 

 

في الثامن من جمادى الأولى من عام 1323= 11 تموز/يوليو 1905 توفي في الإسكندرية، عن قرابة 58 سنة، الشيخ محمد عبده، المجدد الإسلامي ومفتي مصر، والذي تعزا إليه حركة الإحياء الإسلامي الحديثة، وهذه ترجمة مستقاة في جانب كبير منها مما نشره السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار، ومن ترجمة مطولة كتبها بعد وفاة الأستاذ الإمام كما كان يقال له، وعذراً لإطالتها أكثر من المألوف، لأننا نتحدث عن شخص تباينت فيه الآراء فلعل الإطالة تجلو شيئاً من الحقيقة.

 

هو محمد بن عبده بن حسن خير الله من قرية محلة نصر في مديرية البحيرة، وبيت خير الله تركماني الأصل، ولا يعرف تاريخ قدوم العشيرة إلى مصر، وأمه من عشيرة كبيرة في مديرية الغربية تنسب إلى بني عدي قبيلة سيدنا عمر بن الخطاب، ويقال إنها من ذريته.

 

كان والده شهما شجاعا وقورا سخي النفس، وكانت والدته برة رحيمة بالمساكين ذكية الفؤاد، شديدة الحياء، وكانت هذه الأخلاق فيهما موروثة ومكتسبة بالمعاشرة والقدوة لا بالتعليم والتأديب.

 

ولد محمد عبده في أواخر سنة 1265 أو 1266، في قرية من قرى مديرية الغربية كان والده هاجر هو وأخوه بهنس إلى قرابة لهما في تلك القرية فرارا من ظلم حكام مديرية البحيرة في أواخر حكم محمد علي باشا الكبير، وفي أثناء إقامته تزوج بفتاة من قرية تسمى حصة شبشير قريبة من طنطا، ثم عاد بعدها إلى بلده.

 

ونشأ محمد عبده كما ينشأ أمثاله من أبناء البيوت المعروفة في القرى، ولم يدخل المكتب لتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن جاوز العاشرة من سنه، وقال هو عن بداية تعلمه: تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي، ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة، ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعه في مدة سنتين، وبعد ذلك نقلني والدي في سنة 1279 إلى طنطا حيث كان أخي لأمي الشيخ مجاهد رحمه الله، لأُجَوِّد القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد.

 

وفي سنة 1281جلست في دروس العلم، وبدأت بتلقي شرح الكفراوي على الأجرومية في المسجد الأحمدي بطنطا، وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم، فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها، فأدركني اليأس وهربت من الدرس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليَّ أخي، فأراد إكراهي على طلب العلم فأبيت وقلت له: قد أيقنتُ أن لا نجاح لي في طلب العلم، ولم يبق عليّ إلا أن أعود وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي. وانتهى الجدال بتغلبي عليه، ورجعت إلى محلة نصر على نية أن لا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة 1282 على هذه النية.

 

فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر ... إلقاء المعلم ما يعرفه أو ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشُّهم أنفسُهم،  فيظنون أنهم فهموا شيئًا فيستمرون على الطلب ... ثم يبتلى بهم الناس وتصاب بهم العامة فتعظم بهم الرزية.

 

وبعد أن تزوجت بأربعين يوما ألزمني والدي بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم، فلم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر، وأصحبني والدي بأحد أقاربي وكان قوي البنية ليشيعني إلى محطة إيتاي البارود التي أركب منها القطار إلى طنطا، فهربت منه إلى بلدة كنيسة أدرين، وغالب سكانها من خؤولة أبي، وفرح بي شبان القرية لأنني كنت معروفًا بالفروسية واللعب بالسلاح، ولكني بقيت في هذه القرية 15يوما تحولت فيها حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي.

 

ذلك أن أحد أخوال أبي واسمه الشيخ درويش سبقت له أسفار إلى ليبيا وصل فيها إلى طرابلس الغرب وجلس إلى السيد محمد المدني، وتعلم عنده شيئًا من العلم وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ الموطأ وبعض كتب الحديث ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه واشتغل بما يشتغل به الناس من فلح الأرض وكسب الرزق بالزراعة، وجاءني هذا الشيخ صبيحة الليلة التي بتها في القرية وبيده رسائل كتبها السيد محمد المدني إلى بعض مريديه بخط مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئًا لضعف بصره، فنفرت من طلبه أشد النفور ورميت الكتاب بعيدا، ولكن الشيخ تبسم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بي حتى أخذت الكتاب، وقرأت منه بضعة أسطر فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت بعبارة واضحة تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي.

 

وفعل الشيخ ذلك في اليوم الثاني كما فعل في الأول، أما اليوم الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أملّ فيها، فقال لي: إني في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة لأعمل فيها. فطلبت منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرأه وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت عليها علامة لأسأله عنها، إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب وهوى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة والميل إلى الفهم.

 

كانت هذه الرسائل تحتوي على كثير من كلام الصوفية في آداب النفس، وترويضها على مكارم الأخلاق، وتطهيرها من دنس الرذائل، وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا، ولم يأت عليَّ اليوم الخامس إلا وقد صار أحب شيء إلى ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم، وفي اليوم السابع سألت: الشيخ ما هي طريقتكم؟ فقال: طريقتنا الإسلام، فقلت: أو ليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال: لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر، ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب. هذه الكلمات كانت كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة ساهين، سألته: ما وردكم الذي يتلى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا ورد لنا سوى القرآن؛ تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع مع الفهم والتدبر. قلت: أنى لي أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئًا؟ قال: أقرأ معك ويكفيك أن تفهم الجملة، وببركتها يفيض الله عليك التفصيل، وإذا خلوت فاذكر الله على طريقة بيَّنها.

 

ولم تمض عليَّ بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر، وتفرقت عني جميع الهموم ولم يبق لي إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة وأدب النفس، ولم أجد إمامًا إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة الشيخ درويش خضر، وهو مفتاح سعادتي، وهو الذي كشف لي ما كان خفي عني مما أودع في فطرتي.

 

وبعد ذلك ذهبت إلى طنطا قرب آخر السنة الدراسية في شهر جمادى الآخرة من سنة 1282، لكن اتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت ابنته فعاقه الحزن عليها عن إتمام شرح الزرقاني على العزِّية، وآخر عرض له عارض منعه عن إتمام شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فأدركت كلاًّ منهما في أوائل الكتاب الذي كان يدرسه وجلست في الدرسين، فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد لله، وعرف ذلك مني بعض الطلبة فكانوا يلتفون حولي؛ لأطالع معهم قبل الدرس ما سنتلقاه.

 

وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر وداومت على طلب العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس حتى كنت أستغفر الله إذا كلمت شخصا كلمة لغير ضرورة، وفي أواخر كل سنة دراسية كنت أذهب إلى محلة نصر لأقيم بها شهرين، وكنت عند وصولي إلى البلد أجد خال والدي الشيخ درويشا قد سبقني إليه فكان يستمر معي يدارسني القرآن والعلم إلى يوم سفري، وكل سنة كان يسألني، ماذا قرأت؟ فأذكر له ما درست فيقول: ما درستَ المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست شيئا من مبادئ الهندسة؟ وكنت أقول له بعض هذه العلوم غير معروف الدراسة في الأزهر، فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان، فكنت إذا رجعت إلى القاهرة ألتمس هذه العلوم عند من يعرفها.

 

نعود إلى كلام السيد محمد رشيد رضا: كان الشاب محمد عبده لكثرة الانهماك في الذكر والفكر والنظر في كتب التصوف والتنقل في أحوال القوم ومقاماتهم يخرج عن حسه ويزج في عالم الخيال أو عالم المثال كما يقولون فيناجي أرواح السابقين، وما كان يجيز شرح ذلك، وكان يقول: إن ما يحصل للصوفية من الأحوال غير الطبيعية، لا يجوز ذكره لغير العارف به، ولا تجوز كتابته بحال، ولو كنت ملِكًا لحكمت بقتل الذين يكتبون ذلك؛ لأنهم يفتنون كثيرا من الناس ولا يفيدون به أحدا.

 

ورأى الشيخ درويش أن مريده قد كملت نفسه وسلوكه، فأمره بمخالطة الناس والتعرض لإرشادهم، وقد كتب محمد عبده رحمه الله عن ذلك: عندما رجعت إلى محلة نصر في سنة 1288 قال لي: إلى متى العزلة؟ وما الفائدة في العلم وتحصيله إذا لم يكن لك نورا تهتدي به ويهتدي به الناس؟ إن المكروه أن تستأثر بالفائدة دون أهل ملتك، وإن من لم ينفع بما تعلم فقد أضاع أهم ثمرة تقصد من غراس المعرفة، فعليك أن تخالط الناس وتعظهم، وترشدهم إلى الطريق القويمة والسنة الصالحة. ثم أخذ يستصحبني في مجالس العامة ويوجه إليّ الخطاب لأتكلم فيتكلم الحاضرون فأجيبهم، وأنطلق في القول على وَجَل في أول الأمر، وما زال بي حتى وجد عندي شيئًا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم، وفي شوال من تلك السنة ودعني وبكى بكاءً شديدًا ومات في السنة الثانية رحمه الله تعالى

 

وجاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر أواخر سنة 1286، وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة 1287 وأخذت أتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية الفلسفية والكلامية، وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك، وأخَذَ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقولون عليه وعلينا، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، فكنتُ إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك على الشيخ درويش فكان يقول لي: ما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، إلا ما يسميه بعض الناس علما وليس في الحقيقة بعلم؛ كالسحر والشعوذة ونحوهما.

 

نعود إلى كلام السيد محمد رشيد رضا: ثم إن السيد جمال الدين أرشده كغيره من تلامذته إلى الإنشاء وكتابة المقالات الأدبية والاجتماعية والسياسية، ومرَّنهم على الخطابة، فبرع الشيخ محمد عبده في ذلك حتى صار أبرع من أستاذه نفسه؛ لأن عبارة السيد رحمه الله تعالى لم تصف من كُدورة العُجمة.

 

نقف هنا لنقول إن طالب العلم محمد عبده قبل أخذ شهادة التدريس بدأ يقرأ لطائفة من الطلاب شرح العقائد النسفية، وهو كتاب معروف في علم التوحيد ألفه نجم الدين النَسَفي، عمر بن محمد، المولود بنَسَف سنة 461 والمتوفى بسمرقند سنة 537، ونما ذلك إلى الشيخ عليش، محمد بن أحمد، المولود سنة 1217 والمتوفى سنة 1299، وكان من كبار علماء مصر ومن أعيان فقهاء المالكية، وجاءه أن الطالب محمد عبده قد رجح مذهب المعتزلة على مذهب الأشعرية، وكان الشيخ عليش رحمه الله أُذنًا يصدق بكل ما سمع، وكان شديد الغيرة في الدين، سريع الغضب، فأرسل إلى محمد عبده، وسأله مستنكراً عما بلغه، فرد عليه محمد عبده جواباً وكأنه ند له، فكبُر على الطلبة مثل هذا من طالب للشيخ عليش المهيب، وكان لهذه الحادثة تأثير كبير  على سمعة الشيخ محمد عبده، وكانت كما يقول السيد رشيد رضا: مبدأ خوض بعض الجامدين في دين كل من السيد الحكيم والأستاذ الإمام رحمهما الله تعالى.

 

ولما تقدم الطالب محمد عبده للامتحان في سنة 1294، تمالأت اللجنة على أن لا ينجح في الامتحان، نظراً لموقفه الشائن من الشيخ عليش، ولكن تميزه في الإجابة جعل أفرادها يثقلون كاهله بأسئلة إضافية أجاب عنها أفضل إجابة، وكان الشيخ محمد العباسي عضواً في اللجنة فحلف أن لو كان فوق الدرجة الأولى درجة ممتازة لاستحقها، وإزاء ذلك أعطته اللجنة الدرجة الثانية.

 

قال السيد محمد رشيد رضا: إنني على إعجابي بسعة علومه ورسوخه في معارفه التي كان بها جديرا بلقب الأستاذ الإمام، الذي قبله وأجازه الرأي العام، أثبتُ أنه كان مقصرا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره من علماء الأزهر.

 

وإضافة إلى دراسته في الأزهر وعند السيد جمال الدين الأفغاني، نظر الشيخ محمد عبده في كتب الفرنج المترجمة، ثم تعلم اللغة الفرنسية وهو في الرابعة والأربعين، فصار يقرأ فيها لا يكاد يتركها يوما من الأيام، وكانت عنايته بعلوم الأخلاق والنفس، وأصول الاجتماع الإنساني، والتاريخ وفلسفته، وفن التربية، ومكنّه ذلك من الدفاع عن الإسلام، وكان يقول: لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم، يتمكن به من خدمة أمته والدفاع عن مصالحها، إلا إذا كان يعرف لغة أوربية، كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة مع الأوربيين في جميع أقطار الأرض؟ وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم أو للخلاص من شر الأشرار منهم؟

 

دخل السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في سلك الجمعية الماسونية ثم انسحبا منها، ويقول السيد رشيد رضا عن هذا الأمر ما يلي: أخذ الأفغاني على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً عظيما ينهض بدولة إسلامية نهوضا يعيد للإسلام مجده وكان مضطلعا بذلك، إلا أنه كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في حياته؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة، وتوسل إليه بالعلم، فاتخذ له في مصر تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة، حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة بالعلم، وخاف استبدادَ إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، فانتظم مع مريديه في سمط الجمعية الماسونية، وكان فيها رئيس محفل مرّن فيه تلامذته على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها، ونهوض الدول وسقوطها، وقد دخل في هذا المحفل شريف باشا وبطرس باشا غالي وكثيرون من الكبراء والأذكياء.

 

وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعا للسيد الأفغاني ومحفله، وكان محمد عبده أخلص تلاميذ الأفغاني، فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه، وصلةً بينَه وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر، وسببا لبحثه في أحوال الحكومة المصرية، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها، وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة العرابية وبعدها، على أن الأستاذ الإمام ترك الماسونية من زمن طويل، وقد أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب، وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله، وقد سألتُه عن حقيقتها مرة فقال: إن عملها في البلاد التي وجدت فيها للعمل قد انتهى، وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا يحاربون العلم والحرية، وهو عمل عظيم كان ركنا من أركان ارتقاء أوربا، وإنما يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة، ويرونها جمعية أدبية تفيد التعارف بين الناس، وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسي اجتماعي، وأنه قد تركها من سنين ولن يعود إليها، وأنها ابتُذِلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل، وأخبرني أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد للدولة العلية بإيعاز بعض الدول الأوربية، فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته، ولكن الأستاذ هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل. ولما رأى بعض علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك بمساعدة الجمعية له، فدخل كثيرون منهم فيها ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه من أهلها، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال الدين.

 

عمل الشيخ محمد عبده في سنة 1295 مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم، ولعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية، فكان يدرّس فيهما مع الاستمرار على التدريس في الجامع الأزهر؛ فبدأ في دار العلوم بقراءة مقدمة ابن خلدون؛ بغرض بث أفكاره السياسية والاجتماعية في أذهان التلاميذ حول نهوض الدول وضعفها وسقوطها وشؤون العمران وأصوله، وكانت دروسه في الأزهر بناءً جديدًا للعقائد على أسس البراهين القطعية، وتجديدًا لما بلي من سائر العلوم العقلية، وكانت حلقة درسه في الرواق العباسي من  الأزهر واسعة جدًّا تحيط بأعمدة كثيرة، وكان يقرأ في بيته درسا لطائفة من المجاورين في كتاب تهذيب الأخلاق لابن مسكويه.

 

كان القصد من هذه الدروس تكوين نابتة جديدة في مصر تحيي اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوِّم عِوج الحكومة المصرية،التي كانت قد وقعت في النزع أو أوشكت، عظم فيها سلطان الأجانب، وضُرِبت عليها الذلة والمسكنة، ذلك بما أسرف إسماعيل باشا في الضرائب والمكوس، وتعذيب الأجساد والنفوس.

 

وكان السيد جمال الدين ومريديه قد اتصلوا بولي العهد توفيق باشا، واتفقوا معه على إصلاح شؤؤن الحكومة؛ ولما انتهى الجور والخلل بخلع إسماعيل وتنصيب توفيق أميرا على مصر في رجب سنة 1296، طفق السيد جمال الدين يطالبه بإنجاز وعوده، وأولها إنشاء مجلس نواب للحكومة وجعل الوزارة مسؤولة، وظهرت طلائع الإصلاح على يده، ولكن وجد من الواشين من غَيَّرَ قلبه على السيد والشيخ، وأوهمه أنهما يسعيان في تقييد سلطته أو إزالتها، فأمر في رمضان من سنة 1296 بنفي السيد، فأُخِذَ ليلاً وأرسل في قطار خاص إلى السويس ومنها إلى الهند، وأمر بعزل الشيخ من التعليم وبأن يقيم في قريته لا يفارقها.

 

وفي أواسط سنة 1297 اهتم رئيس الوزراء مصطفى رياض باشا، المولود سنة 1250 والمتوفى سنة 1329=1911، بتحسين الجريدة الرسمية وجعلها مفيدة مرغوبا فيها من الناس، فأشاروا عليه بجعل الشيخ محمد عبده محرِّرًا فيها، ففعل بعد أن استرضى الخديوي؛ ثم إنه طلب أن تكتب الجريدة مقالة عن مالية مصر تلم بشيء من تاريخها الماضي وحالها الحاضر الذي وضع له قانون تصفية الديون والذي جعل للدول الأوربية حق الإشراف على مالية مصر، فكتبها الشيخ محمد عبده في مجلس واحد، وأعجب بها رياض باشا أشد الإعجاب، وزاد عجبه أن وجد في الأزهر شاب واقف على تاريخ المالية في مصر، عارف بجميع شئونها، قادر على بيان ذلك والإفصاح عنه.

 

وفي أواخر هذه السنة سأله  رياض باشا عن رأيه في إصلاح الجريدة؛ فاقترح وضع لائحة تضبط قلم المطبوعات وتحرير الجريدة الرسمية، فأمضى رياض باشا رأيه، وكان من محرريها سعد زغلول وهو ممن كانوا يحضرون دروسه ودروس السيد جمال الدين، ونهج محمد عبده في تنفيذ لائحة قلم المطبوعات نهجاً فريداً، فألزم الصحف المصرية أن تكتب بلغة عربية صحيحة فصيحة، تحت طائلة إغلاقها إن لم تتدارك الأمر، فنتج عن ذلك اهتمام باللغة والبيان، ونشأ من ذلك جيل من الكتاب والقراء الفصحاء البلغاء، وألزمت اللائحة إدارات الحكومة أن تكتب إلى إدارة المطبوعات تقريراً بأعمالها وإنجازاتها، وألزمت المحاكم أن ترسل إليها أحكامها، ومنحت اللائحة إدارة المطبوعات الحق في انتقاد كل ما تراه من الأعمال، وحق المراقبة على الجرائد الوطنية والأجنبية التي تصدر في القطر المصري، والتحقيق فيما تقوله في رجال الحكومة وأعمالها، فإن كان حقًّا ما نشر في الجريدة، وجب على الحكومة مؤاخذة من نسب إليه الذنب؛ وذكر ذلك في الجريدة الرسمية، وإن كان كذبًا طولب مدير الجريدة بإثباته، وإلا أنذر، وإذا تكرر إنذار جريدة ثلاث مرات يمنع إصدارها ألبتة أو إلى الأجل الذي تراه الإدارة.

 

ورغب بعض الكبراء إلى الإمام محمد عبده أن يستبدل الطربوش بالعمامة؛ لأن صاحب العمامة لا يعين في الوزارة، فأبى عليهم ذلك فاستعانوا عليه برياض باشا، فسأله فأخبره أنه لا يرغب في ترك زيه إلا إذا ألزمه بذلك، فإذا خرج من عمله عاد إلى عمامته؛ فقال رياض باشا: كلا، إنني لا أرضى لك الطربوش؛ لأنني أحب أن يعلم الناس أنه يوجد تحت العمائم من العقول والأفهام مثل ما يوجد تحت الطرابيش وغيرها.

 

وانتقد الشيخ محمد عبده نظارة المعارف ومساوئ التعليم والتربية في مدارسها، فضاق ذرع ناظر المعارف لذلك العهد فلاذ برياض باشا شاكيًا من الجريدة الرسمية، فقال له رياض باشا: إن كان ما كتب حقًّا فلا وجه للشكوى منه، وإن كان باطلاً فعليك أن تبين ذلك بالدليل والبرهان، وفلان ينشره في الجريدة الرسمية نفسها؛ فإنه لا يقصد بما يكتب فيها إلا المصلحة. فسكت الناظر واجمًا.

 

وفي سنة 1298 أنشأ رياض باشا المجلس الأعلى للمعارف ليشرف على إدارة المعارف العمومية، وجعل محمد عبده عضوا في هذا المجلس؛ فكان من اقتراحاته أن تقوم الحكومة المصرية بإعانة المدارس الأجنبية مكافأة لها على نشر العلم في البلاد، فهش الأعضاء الأوربيون لهذا الاقتراح، ثم إنه اقترح في جلسة أخرى وجوب جعل المدارس الأجنبية تحت مراقبة المعارف حتى تعلم الحكومة أنها لا تضيع دراهمها، بل تنفقها فيما ينفع بلادها. وهكذا كان.

 

وكانت الأمور تسير في طريق الإصلاح بالأمير الجديد توفيق باشا لعفته عن الأموال، ورغبته في إصلاح الحال، وبالوزير العامل المخلص رياض باشا، وإذا بضباط الجيش من المصريين يطالبون بحقوقهم، وأيديهم على مقابض سيوفهم، وتلك هي ما يسمونه بالثورة العُرابية.

 

وكان الشيخ محمد عبده كارها للثورة، منددًا بزعمائها وهو بينهم؛ لأنه كان يعلم أنها تحبط كل إصلاح تعمله الحكومة أو تنويه، وأنها تمهد للأجانب سبيل الاستيلاء على البلاد، وكان ينتقد زعماء الثورة خطابة وجدالاً في أنديتهم، وبالكتابة في الجريدة الرسمية، وساءت علاقاته مع عرابي وكان عرابي وأعوانه ينفضون من المجلس يدخل فيه. وسبب ذلك أن محمد عبده  كان يرى: أن أول ما يجب أن يُبدأ به التربية والتعليم لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة وعزيمة، وحمل الحكومة على العدل والإصلاح، ومنه تعويدها الأهالي على البحث في المصالح العامة واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات، وليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف بماله قبل بلوغ سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد، وأخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالاً أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة.

 

بل خطب محمد عبده في العرابيين وأنصارهم خطبة استغرب فيها أن يكون علية القوم هم الذين يخرجون على الحكومة، فالمعهود في سير الأمم أن الخروج على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطتها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين الرعية، إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح والتربية النافعة، وصار لهم رأي عامّ، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف، ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك، فكيف حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ فهل تغيرت سنة الله في الخلق وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ إليه أحد من العالمين، حتى رضيتم أن تساووا الصعاليك حبًّا بالعدالة الإنسانية؟ أم تسيرون إلى حيث لا تدرون، وتعملون ما لا تعلمون؟

 

كان محمد عبده خصما للثورة العسكرية، وإن كان روحا مدبرة لتلك الحركة الفكرية، وهو لم يفارق القوم المطالبين بالإصلاح عند مهب الفتنة، ويلجأ إلى قصر الإمارة أو يتفيأ ظلال العزلة، لأنه في فكره وسط بين الطرفين، وفي عمله بين المصلحتين، وقد قال لعرابي مرارًا كثيرة: عليك بالهدوء والسكينة، وأنا أضمن لك أكثر مما تطلب في بضع سنين، ونهاه بعد ذلك عن محاربة الإنكليز.

 

انتهت ثورة عرابي بالاحتلال الإنكليزي، وقبض على زعمائها وألقوا في غيابة السجن ليحاكموا، و لأمر ما جُعِل محمد عبده منهم، وفي سنة 1300=1883 صدر الحكم على عرابي ورفاقه بالنفي، وعلى الشيخ محمد عبده بالنفي ثلاث سنين وثلاثة أشهر، وكان النفي مزيدًا في كمال علمه وتربيته وسببا لنشر علمه في بلاد كثيرة، ولما كان في السجن نظم قصيدة قال في أواخرها:

 

وأحفظَ الدهرَ أني لا أشاكله... فيما تبطن من غش وتمويه

 

أحارب الدهر وحدي ليس ينفعني... إلا الثبات وحسبي من أصافيه

 

تعلم الدهرُ مني كيف يطعنني... فخاب ظنًّا وخانته مزاكيه

 

وليس يعجزني عن كسر فيْلَقه... إلا المنايا تفاجيني فتحميه

 

إن المنايا سهام الله سددها... وليس يخطئ سهم الله مرميه

 

سافر رحمه الله تعالى إلى سوريا فأقام فيها نحو سنة، ثم سافر إلى فرنسا التي كانت على خلاف مع بريطانيا حول تقاسم استعمار الشرق العربي، وكان قد سبقه إليها أستاذه وصديقه السيد جمال الدين الأفغاني، فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس حيث أصدرا جريدة العروة الوثقى، وكان السيد جمال الدين مدير سياسة الجريدة والشيخ محمد عبده المحرر الأول لها؛ وكان السيد منبع الأفكار والآراء السياسية التي تنشر في الجريدة لا سيما ما هو من سيئات الإنكليز في الهند وغيرها، وكان الشيخ يبرز هذه المسائل في صورة تروع الأبصار، وتحرك الأفكار ويتصرف فيها ما شاء، وكانت له مقالات يكتبها في الاجتماع والوعظ، والأخلاق والسياسة الإسلامية، وكان للجريدة تأثير كبير في البلاد الإسلامية في بثها الأمل ودعوتها للإصلاح ورسمها لخطط العمل.

 

ولم يقتصر الشيخان على الوعظ والإرشاد في أوربا، بل كانت لهما مساع سياسية لدى حكومات وسياسي فرنسا وإنكلترا في المسألة المصرية ومسألة السودان، وزار محمد عبده بريطانيا والتقى فيها بأهل الرأي والحكم، وتحت عنوان: هؤلاء رجال الإنكليز وهذه أفكارهم، ذكرت جريدة العروة الوثقى في شوال 1301= آب/أغسطس 1884 أنه التقى باللورد هارتينغتون، وكان آنذاك وزير الحربية البريطانية ومن قبلها وزير الهند، وأوردت حواره مع الشيخ محمد عبده، وأن اللورد هارتينغتون سأله: ألا يرضى المصريون أن يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنكليزية؟ أَوَلا يرون حكومتنا خيرًا لهم من حكومة الأتراك، وفلان باشا وفلان باشا؟ فأجاب الشيخ محمد عبده: كلا، إن المصريين قوم عرب، وكلهم مسلمون إلا قليلاً، وفيهم من محبي أوطانهم مثل ما في الشعب الإنكليزي، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلى الخضوع لسلطة من يخالفه في الدين والجنس، ولا يصح لحضرة اللورد، وهو على علم بطبائع الأمم، أن يتصور هذا الميل في المصريين.

 

فقال الوزير: هل تنكر أن الجهالة عامة في أقطار مصر، وأن الكافة لا تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني، وأن ما ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب إنما يكون في الأمم المهذبة؟ فاحتد الشيخ وقال: إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أُودع في فطرة البشر وليس يحتاج للدرس والمطالعة، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد الأمم توحشًا كقبائل الزولو الأفريقية؛ الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم. وثانيًا، إن الأميين من المسلمين لا يفوتهم العلم بضروريات الدين، ومن أجلاها وأظهرها عندهم أن لا يدينوا لمخالفيهم فيه، وإن لهم في خطب الجمعة، ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما يقوم مقام العلوم الابتدائية.

 

وعلقت الجريدة بعد ذلك: كل ذي شكل إنساني وصورة بشرية يدرك ما وراء هذه الأسئلة وما تشف عنه هذه الظنون العجيبة! هذا اللورد هارتينغتون وزير الحربية الإنكليزية يظن أن الجهل يبلغ من المسلمين عمومًا، والمصريين خصوصًا إلى حد سلب عنهم كل إحساس إنساني، وأنهم في حضيض من الجهل لا يميزون فيه بين الغريب والقريب، ولا بين العدو والحبيب.

 

ضاقت الحرية الإنكليزية الواسعة أن تسع جريدة العروة الوثقى، فمنعتها من الهند ومصر، وفرضت الحكومة المصرية غرامة وعقوبة على من تُرى عنده؛ فتوقفت عن الصدور بعد 18 عدداً، ثم سافر محمد عبده من فرنسا إلى تونس، وكانت تحت الاحتلال الفرنسي، فأقام فيها أياما، ثم دخل مصر متنكرا، بغرض تأسيس معارضة سرية، ولكنه لم يلق التأييد الذي كان يتوقعه، فعاد منها خائبا وذهب إلى بيروت حيث أقام حوالي 3 سنوات يدرس في المدرسة السلطانية وفي الجامع الكبير، واشتغل كذلك بالتأليف، فقد ترجم رسالة السيد جمال الدين الأفغاني في الرد على الدهريين، وشَرَحَ نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، وترك نهذيبه وأخلاقه أثراً كبيراً عند الطوائف غير المسلمة في لبنان.

 

وفي سنة 1306= 1888 عاد إلى القطر المصري، وقد كتب عن تأثير الأسفار في نفسه: أما الأسفار ... فقد كان من نتائجها عندي أني عرفت حق المعرفة أن مرض المسلمين نشأ من أمرين: الأول: الجهل بدينهم ... واختلاط ما هو من الدين بما ليس منه حتى صار عليه دينًا أجنبيًّا عن أصل الدين الإسلامي الطاهر الرفيع. والأمر الثاني: استبداد الحكام الظالمين.

 

ويتحدث عن أماله في نهضة الأمة: وهذه الآمال تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما ألاقي من العنت ... وسوء ما أرى من انصراف المسلمين عن النظر في منافعهم، وشدة عداوتهم لأنفسهم، وقوة رغبتم في تمكين ظالميهم من رقابهم، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول.

 

وبعد عودته أصدر الخديوي توفيق عفواً عنه وعينه قاضياً في المحاكم الأهلية في الزقازيق، ليبعده عن التعليم وعن تربية التلاميذ على أفكاره السياسية المستقلة، ورغم امتعاضه من هذا العمل، برز محمد عبده في القضاء حتى بلغ أعلى درجة منه، وتميز بمعاقبة المزورين وشهداء الزور بعد أن استفحلوا وطغوا، وكان يجتهد في الإصلاح بين أهل البيوت وذوي القربي، ويبالغ فيحفظ حقوق اليتامى، ومما كان يحكم فيه باجتهاده واعتقاده مسائل الربا، فإنه كان إذا تعذر عليه الصلح يحكم برأس المال دون الربا؛ فيلجأ رب المال إلى الاستئناف؛ ليحكم له بالربا.

 

وفي سنة 1309=1892 توفي الخديوي توفيق وجاء بعده ابنه عباس حلمي باشا، المولود في القاهرة سنة 1291=1874 والمتوفى منفياً في سويسرا سنة 1363=1944، وكان معروفاً بميوله الوطنية ورغبته في استقلال مصر، فتجددت الآمال في النهضة والجلاء.

 

وكان ما جرى من قبل للشيخ محمد عبده ولشيخه مع توفيق باشا في مصر، قد جعله ضعيف الأمل في تحقيق الإصلاح السياسي، وخاب أمله في أهل السياسة بسبب ما رآه فيهم من اختلاف وخلاف وتنازع على المصالح المؤقتة، فرأى أن مفتاح الإصلاح هو في التربية من خلال مؤسسات التعليم، وأن التربية على خدمة الأمة والتضحية في سبيلها بالمصالح والرغبات الشخصية هي حجر الأساس لقيام حكومة إسلامية عادلة مُصلِحة، ونورد هنا جزءاً من مذكرة مطولة في هذا الصدد كتبها الشيخ محمد عبده في هذه الفترة:

 

أهل مصر مضى عليهم الزمن الطويل والقرون العديدة، ولم يروا مربيًا يأخذهم بدينهم، فحُرِموا خيره، ولم يبق عندهم إلا ما فيه المضرة لهم ولغيرهم، تحت اسم الدين وليس بدين. على أنه ليس فيهم من ينكر أن القرآن كلام الله، وأنه ينبوع الدين، ولكن ليس لهم من معاهد التربية إلا جهتان: المدارس الأميرية، ومدرسة الأزهر الدينية، وليس في الجهتين ما يهديهم لما يجعلهم رعية صالحة، وهم الآن على غاية الاستعداد لقبول ما يصلحهم.

 

المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية؛ ولا التربية الصحيحة، أنشأها محمد علي باشا بإشارة بعض الفرنسويين؛ لتعليم بعض أولاد الأرناؤوط والأتراك والمورلية؛ ليكون منهم رجال عندهم إلمام ببعض الفنون المحتاج إليها في نظام الحكومة التي أسسها ... أما التربية على أخلاق سليمة، فلم تخطر له ولا لمن تولى إدارة هذه المدارس على بال ... ولم يكن القصد تربية العقول، ولا تهذيب النفوس.

 

وأما المدارس الأجنبية على تنوعها ... غلط من زعم: أن لتلك المدارس الأجنبية أثرا سياسيًّا أو أدبيًّا في مصر بل قد أحدثت بعض النفرة في قلوب المسلمين من رؤساء تلك المدارس وأممهم، ولذلك تاريخ في البلاد معروف فهي ضارة بالألفة، مبعدة للمحبة، رغمًا عما يزعمه أربابها مما يخالف ذلك.

 

الجامع الأزهر مدرسة دينية عامة، يأتي إليها الناس: إما رغبة في تعليم علوم الدين؛ رجاء ثواب الآخرة، وإما طمعًا في بعض الامتيازات لطلاب العلم فيه، ولا يزال بعضها إلي اليوم، ولكن مما يؤسف عليه: أنه لا نظام لها في دروسها، ولا يسأل فيها التلميذ أيام الطلب عن شيء من أعماله، ولا يبالي أستاذه حضر عنده في الدرس أم غاب، فَهِم أم لم يفهم، صلحت أخلاقه أم فسدت، ويمر عليه الزمان الطويل، لا يسمع فيه نصيحة من أستاذه تعود عليه بالإصلاح في دنياه أو دينه، وإنما يسمع منه ما يملأ القلب بغضا لكل من لم يكن على شاكلته في الاعتقاد حتى من بني ملته... إصلاح الأزهر لابد أن يكون بالتدريج؛ في تغيير نظام الدروس بحيث يقرر فيها أن كل من أدرج اسمه في جدول الطلبة، يلزم بالحضور في الدروس وإلا حرم الامتياز. ويُدخل فيه تدريس الآداب الدينية المفقود الآن بالكلية، ويكلف الأستاذ بتعهد أخلاق تلميذه؛ لتكون منطبقة على تلك الآداب بقدر الإمكان، ويجعل شيخ الجامع رقيبًا على الأساتذة والتلامذة في ذلك.

 

ولذا توجه محمد عبده للإصلاح الديني والأدبي، وبالغ في ذم السياسة فقال في كتابه مقالات الإسلام والنصرانية: فإن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم، فأنا معك من الشاهدين؛ أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس.

 

ولكن تسنم الخديوي الجديد أحيا الآمال لدى محمد عبده في الإصلاح من خلال المؤسسات السياسية، وبخاصة أن أكثر شيوخ الأزهر ناصبوه العداء في محاولته الإصلاحية السابقة، فاتصل بالخديوي الجديد وحظي عنده وقال له: إن لدى أفندينا ثلاث مصالح لا يمكن أن يمد إليها الإنكليز أيديهم الآن وهي الأوقاف والأزهر والمحاكم الشرعية، فإذا هو عُني بإصلاحها فإنه يصلح بها البلاد كلها، وأصدر الخديوي في سنة 1312=1896 قانوناً لإصلاح الأزهر يقوم على أن يدير الأزهر مجلس مؤلف من أكابر علماء المذاهب في الأزهر ينتخبون انتخابا، ومعهم محمد عبده تعييناً، وكانت ميزانية 1895 خصصت مبلغاً يصرف على مشايخ الأزهر وفقاً لترتيب محدد.

 

وكان الأزهر في جانب من جوانبه في ذلك الحين أشبه بتكية، ينفق المجاورون من أعمارهم الأعوام الطوال في الأزهر، دون أية رقابة على أعمالهم، وكانت مدة الدراسة غير محددة والامتحانات السنوية غير مألوفة، وهو نظام جيد لو كان فيه رقابة وصرامة، ولكنه ترهل فصار يخرَّج بضعة علماء أقوياء متينين وأفواجاً من الضعفاء المتكسبين الخاملين، الذين يظهر ضرر ضعفهم جلياً عندما يتسنمون مناصب القضاء الشرعي في مجتمع زراعي خرج من عزلته ليصبح محور التجارة العالمية وأهم سوق لبائع أو مشتر في شرق المتوسط ومعبر بريطانيا إلى الهند.

 

ووضع محمد عبده خطة ليقوم مجلس الأزهر بمراجعة وتطوير نظام التدريس والامتحان، وبيان وسائل العلوم ومقاصدها، واختيار كتب العلوم، وكان منطلقه في ذلك أن يكون التطوير برأي كبار الشيوخ؛ ليسهل تنفيذه بالرغبة لا بالقوة، ولكن أكثر كبار الشيوخ تنازعهم الخوف من التغريب، والتوجس من التغيير، والشك في محمد عبده والغيرة منه، ووقف في وجه الخطة شيخ الأزهر سليم البِشري، فلم يكتب لمساعي الإصلاح أن تكتمل.

 

وجاءت الفرصة للشيخ محمد عبده ليتابع نشاطه الإصلاحي من منبر جديد هو مجلة المنار التي أسسها السيد محمد رشيد رضا في القاهرة بعد أن هاجر إليها من طرابلس في سنة 1315=1898، والتي ستصبح في حياة محمد عبده ومن بعده أهم منبر يدعو للنهضة الإسلامية، فقد كان السيد رشيد رضا قد تأثر أشد التأثر بمجلة العروة الوثقى، فلما جاء القاهرة والتقى بالشيخ محمد عبده، فاتحه برغبته في إنشاء المجلة، فشجعه على ذلك وصار مرشده الروحي وأستاذه في طوره الجديد، وأصبح السيد رشيد رضا من أخلص وأقرب تلاميذه، وصارت مجلة المنار بمثابة منبر لدعوات الشيخ محمد عبده، تسميه الأستاذ الإمام، وتنشر مقالاته وتدافع عنه، وبقيت على ذلك بعد وفاته، وإن كان الاتجاه السلفى التقليدي عند السيد محمد رشيد رضا أقوى كثيراً مما هو عند محمد عبده، وازداد تميزاً بعد وفاته، رحمها الله جميعا.

 

وفي أول سنة 1317=1899، صدر أمر الخديوي بناء على قرار مجلس الوزراء بعزل الشيخ حسونة النواوي عن مشيخة الأزهر وإفتاء الديار المصرية،وتعيين الشيخ محمد عبده مفتياً، فوجه اهتمامه لتحسين أداء المحاكم الشرعية، وأجرى تفتيشاً عاماً عليها، وكتب تقريراً بذلك بين فيه مواطن الخلل والمعايب والتدهور الذي وصلت إليه المحاكم في المعاني والمباني، وكان القضاء محصوراً في الحنفية فأوصى بتوسعته للمذاهب الأخرى، واقترح أيضا أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، وألفت الحكومة لجنة في وزارة العدل للبحث في تنفيذ ما يتيسر تنفيذه منه بالتدريج.

 

وبعدها في نفس السنة عين محمد عبده عضوًا دائمًا في مجلس شورى القوانين، فكان له أثر كبير في دور تنشيط المجلس،وأزال سوء التفاهم بينه وبين الحكومة، فصارت تحفل برأيه، وتبين له سبب ما لم تأخذ به، فعظمت ثقة الأمة برجاله، وكان هناك من يرى أن الاشتغال بعمل المجلس مضيعة للوقت، لأن الحكومة المصرية كثيراً ما تعود عن قرارتها بعد زمن قصير أو طويل، ولكن محمد عبده رد على ذلك فقال: إن الغرض الأول من العمل في المجلس هو التعاون مع الأعضاء على الجد والاهتمام بالبحث في الأمور العامة ومصالح البلاد وتربية الرأي العام في الأمة ليكون ذلك إعدادًا لنفوس طائفة منا لفصل الأحكام بالشورى، ويكون ذلك بداية من بدايات الإصلاح في البلاد.

 

ويعزو بعض المتحاملين على الشيخ محمد عبده جهاده في إصلاح الأزهر إلى نزعته التغريبية بل والعلمانية، والحقيقة أن محمد عبده كان يريد لخريجي الأزهر أن يكونوا أرقى طبقة في الأمة يديرون كل جوانب حياتها الدينية والمدنية والسياسية، ولكن أغلبهم عارضوا أن يخرجوا من شرنقتهم الضيقة إلى العالم الوسيع بتحدياته وتناقضاته وإشكالاته، والتقى ذلك مع رغبة اللورد كرومر في أن يُترك الأزهر وشأنه، أي ليبقى على هامش الحكم، وهكذا تراجعت مكانة الأزهر وخريجيه وتقدم التعليم المدني وخريجوه وأصبحوا هم قوام الحكومة في مصر، ولم يدرك حزب الأزهر تقهقر مكانته وتأخر مصالحه المعيشية إلا بعد فترة، فخرج طلبة الأزهر وال