الشهيد يونس دسوقي أبو هاشم أو أبو خديجة الجولاني

 

 

هو فلسطيني هاجرت عائلته بعد مجازر اليهود في فلسطين واستوطنت مخيم النيرب بحلب، درسنا معاً في الخسروية في شعبة الشافعية، كان ضحوكاً مشاغباً في دروس الأساتذة الذين في دروسهم أو شخصيتهم ثغرات، كان يجلس في المقعد الأول ويتقن الهمز واللمز الطفولي، أحبَّ لبس الجبة والعمامة في المرحلة الثانوية لحبّه الخطابة، وكان يتغنّى بالقرآن ويقدّمه الأساتذة على غيره في القراءة، وقد تسلّم الخطابة في جامع بالمخيم، وعمل بتدريس الأطفال فترة، كان يحكي لي عن معاناة فلسطيني المخيم وفقرهم وما حصل لهم من شتات وبُعد عن دينهم، ولقد كان يونس من أوائل الذين بدؤوا بإحياء التديّن بين فلسطيني مخيم النيرب، وكان يخبرني بأنشطته ومعاناته في تقريب الناس إلى ربهم لطول بُعدهم عن ربهم وانتشار الشيوعية بينهم، ويتحمّل اعتراضات الناس وتحرّش الجواسيس.

التحق بكلية الشريعة بدمشق ثم جاء احتلال الأمريكان والبريطانيين للعراق، فدبّت في نفسه الحميّة فترك الجامعة والتحق بالعراق وقاتل الأمريكان هناك واستقر في البصرة، وسقطت بغداد ولا يزال يونس مع مجموعة مرابطة حول البصرة صامدة، لا يزيد عددهم عن 200 كما روى لي حيث كانوا هم سر صمود البصرة!! وحدثني عن خيانات في ضباط الجيش العراقي وعن خيانات بعض العراقيين الشيعة الذين كانوا يصطادون من داخل بيوتهم كل من يقدرون عليه من المجاهدين المقاومين! وحدثني عن جواسيس جاؤوا بهيئة مجاهدين من دول بعيدة ولكنهم اكتشفوا غدرهم بالمجاهدين في أرض المعارك، وحدثني عن شيخ عجوز مغربي قُتِل معهم ثم اكتشفوا أنه من يهود المغرب جاء بمهمة، حتى أذكر أنه قال لي: وجدنا في جسده نجمة سداسية مدقوقة وشماً! عاد يونس إلى سورية مقطوع القلب خائب الأمل، وفي إحدى كفّية إصابة بقنبلة يدوية.

حين وصل إلى سورية اعتقله الأمن السوري فترة ثم استأنف دراسته بهمّة باردة، فقلبُه لا يزال معلّقاً بالعراق...

استهوته أناشيد الجهاد، وصور عمليات المجاهدين ضد الأمريكان في العراق، وبدأ العمل الجهادي السري حتى وقع في تنظيم جهادي سرّي غير معروف الاسم ومجهول الرأس، وظل يتظاهر بالحياة المدنية وينشط سرّاً، ولم يتصوّر رحمه الله أنه وقع في فخ تنظيم مخابراتي من العيار الثقيل! وأذكر أنه اتصل وودّع أحد أصدقائه المجاهدين الملتحقين بالعراق ثم جلس يبكي على أنغام أنشودة جهادية وداعية، وفي العام 2004 حيث كان على مقربة من الزواج اعتقلته المخابرات السورية وهو في سيارة نقل عمومية حيث همس في أذنه الراكب الذي بجانبه وأخبره أنه تحت المراقبة وطلب منه أن يرافقه إلى الفرع بدون شوشرة "أحسن"، بات الشهيد في أقبية المخابرات وتحت التعذيب قرابة سنة، وأصبح فؤاد أمه خاوياً، ورأيت والده المسكين في دمشق يبحث عنه في المخافر والمشافي قبل أن نعلم أين هو، وأذكر من كلام والده لي: "نحن الفلسطينيين ما لنا غير الصبر والدعاء"، وأدركت بعد ما حل بنا نحن السوريين ما كان يعانيه الفلسطينيون...

ثم خرج الشهيد بعفو وبعد أيام زُفَّ عريساً إلى عروسته الصابرة، وحضرنا عرسه في المخيم ورقصت في عرسه. ثم قعد عاقلاً والتفت إلى نوع سلمي من الجهاد "تفريخ الأولاد المجاهدين" حسب ما أخبرني ممازحاً.

عاش ونشأ الشهيد في أسرة فقيرة متواضعة طيبة السمعة، عمل مع والده وأخيه في صناعة الآنية المعدنية "الثني والتدوير نصف الآلي"، ثم اشتغل بعد الإفراج عنه في سوق المكتبات بباب النصر، ولم يتثنّ له استكمال الدراسة، ثم فرّقتنا الأيام أنا في الخدمة الإلزامية وهو في شغله، وقامت الثورة وكنت أتوقع أنه سيشكل كتيبة، إلى أن اقترحه لي فيسبوك باسم أبو خديجة الجولاني، ورأيته بهيئة جديدة، وغلب على ظني حينها أنه التحق بجبهة النصرة، فلم أتحرش به لكيلا يقرأ منشوراتي اللاذعة فينزعج. واليوم بعد استشهاده تحققت أنه كان أميراً بارزاً في جبهة النصرة واستشهد مؤخراً بقصف، كعادة الطيران في استهداف المجاهدين الحقيقيين دون الجواسيس.

من مناقبه: شغفه بفلسطين والمسجد الأقصى ومتابعته لأخبارها، وانفعاله بما يجري لها، وحرصه على عدم نسيان الهوية الفلسطينية، ومخاطبة الحلبية بلهجتهم والفلسطينيين بلهجتهم، وزواجه من فلسطينية بعد محاولة زواج غير ميسرة بفتاة حلبية.

كان الشهيد حماسياً جداً، نحيف الجسد متين العصب، قلما يغلبه أحد، يرد الاعتداء عليه ولا يسكت، لكنه يعاملني دون غيري كأني أخ كبير له، وأشهد أني كنت أجور عليه بالقول وأغلظ عليه باليد ولا يصبر على إيذاء أحد كما يصبر على إيذائي المتكرر له! وإني لأرى أن له علي حقاً وأرجو ألا ألقاه يوم القيامة إلا مسامحاً، فقد كنت أحبه ويحبني وأشتاق إليه ويشتاق إلي وما أن نجتمع حتى يحتد نقاشنا ويشتد، نتفق بالقلوب ونفترق بالعقول، أغلُبُه بحدّة نقاشي وعنف حجتي، ويغلبني باحترامه لي وما يحمله لي من مودة خاصة في قلبه.

كان ذا شخصية عسكرية مميزة لا خبرة لها بالسياسة!

حاورته في أن العمل السري الجهادي في زماننا "زمن كثرة الشُّرَط والمخابرات" لا يجدي، وأن المخابرات تلعب بنا لعب الصبي بالدمى، لأنها متخصصة في كشف ذلك ونحن غير متمرسين بالعمل السري، وأن صرف الوقت في التوعية "في تلك الأيام" أجدى، فالوعي سلاحنا ريثما يفتح الله لنا ثغرة، ويبدو أنه اقتنع بعد خروجه من السجن، وفتح الله لنا الثغرة مع الثورة.

أخيراً إني لأشهد أن الشهيد يونس كان غيوراً على دين الله، يشغل باله هم الأمة وحالها. يجتهد في التعفف أيام مراهقته ونشأته حتى إنه استشارني في بعض أساليب التعفف والتحصّن.

هذه شهادتي لله وللتاريخ بأخي و"صديقي الذي أحبه" يونس دسوقي.