الشهيد صالح أحمد الحسناوي

 

من شهداء انتفاضة الثمانين

 

 (   صامت لو تكلما !!!  )

 

 

منذ أن حفظت قصيدة ( الفدائي) لإبراهيم طوقان ، وأنا أود رؤية هذا الصامت ؟!

 

فالصامتون كثيرون ، وقد يكون صمتهم عن عجز وعِي ، أو خوف وحياء !؟

 

كان زميلا ً لي في التدريس ، قلما يتكلم فيما لايخصه ! كان صالح الحسناوي مثالا ًللشاب المستقيم المكافح !

 

دُعينا إلى الخدمة العسكرية ، وكنا فيها فيما يسمى حرب تشرين ، ثم سُرحنا لنجد أن الرفاق (الأذناب)  لايرغبون بقاءنا في جسر الشغور ، فتم نقلنا إلى قرى جبل الزاوية !؟ هو في بلين ، وأنا في كنصفرة  ..... إلى أن جمعتنا جبال جسر الشغور وماحولها في انتفاضة الثمانين ، لأجد فيه ماقاله الشاعر :

 

                   صامتٌ ! لو تكلّما  /  نطق النار ٓوالدما !

                  قل لمن عاب صمتٓه   / خُلق الحزمُ أبكما !!

وهو الذي يصدق في أمثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم : كلما سمع هيعة (صوتاً مخيفاً) طار لها !

 

لم يكن مطلوباً للنظام الخائن في البداية ، ولكنه كان يتحفز مع ثلة من إخوانه ثأراً للمدينة المجاهدة التي ذُبحت في آذار١٩٨٠ م !؟ ولم يكن أحد ليصدق أن وراء هذا العمل - حتى حين استشهاده - هذا الرجل الصامت !!

 

بدأ العمل الجهادي مع ثلة من الشباب الإسلامي طلاباً ومدرسين وعمالا ً ومزارعين ،وتائبين كان سبباً في هدايتهم ، وقد صلح حالهم ، واستشهد عدد منهم ، ومازال الآخرون على العهد لم يبدلوا أو يغيروا ، فقد كان تأثيره كبيراً فيهم!!

 

  حين قدمنا عليه بعد أشهر من الملاحقة ، مع بعض الإخوة ألح أن تكون القيادة لغيره ، وأصر كثيراً على ذلك ،  ثم قبِل على غير تشوف  (تطلّع )منه ،. أمام إلحاح الإخوة وإصرارهم عليه !

 

صحبته في السفر والحضر ، في زهده وشجاعته ، وترفعه عن الدنيا .... كان إذا حضر إلى إخوانه في مواقعهم يشعرون أن والداً حنوناً ، أو أخاً كبيراً شفوقاً حضر إليهم!

 

يتسرب الماء إلى حذائه المطاطي ، ويصر أحدنا عليه أن يستبدله بجديد ، فيبتسم ويقول كلمته التي تعبّر عن الرضا في كل الأحوال : ماشي الحال ... وكأنه يهفو إلى أن تتشقق قدماه في سبيل الله ، كما اغبرت أقدام أجداده في سبيل الله !!

 

يأتيه خبر تسريحه من الوظيفة فيردد : هذا ماكنت أنتظره ! ويصر عليه الإخوة أن يأخذ شيئاً لأسرته ، فيأبى قائلاً :  لديّ مٓن ينفق عليهم  !؟

 

أنظر إليه ، وقد تغضن وجهه ، فإخال أنه يحمل هموم الأمة كلها !!

 

ما هكذا يا صالح كنت أعرفك !؟ وإنْ كنت لا أشك أنك أهل لذلك !!

 

تدور معركة (العدّوسِيّة) بين الشهيد محمد ديرك ومجموعته وبين قوات عصابة النظام ، ويحضر الجنود المدججون من اللاذقية وجسر الشغور ، وقد فوجئنا بها ، ما بين الظهر والعصر ، ونتساءل : أين صالح ؟ لقد غادرنا يوم أمس ،في زيارة لإخوانه في القواعد الحدودية!؟ وإذا هو أقرب ما يكون منها يتابعها، حتى لتكاد القذائف تصيبه !؟

 

يسأله أحد الإخوة : إلى متى سنبقى في الجبال ؟ فيجيبه واثقاً صادقاً : خمس سنوات !  عشر سنوات ! سنحفر الصخر كما حفره الأقدمون ، ونجعل منه قواعد ومأوى .... ولن نغادر !!

 

وصدق - واللهِ - فقدأبى أن يغادر ، وكأنّ الشاعر كان يعنيه:

 

فأثبتٓ في مستنقع الموت رِجلٓه  =  وقال لها مِن تحت أخمصك الحشرُ !

 

وقد أقلق المجرمين ، ورصدوا له العيون ، حتى إذا كان في  سفح مطل على جسر الشغور مع أخ له ، وقد أضناهما مسير الليل كله ، دلفا إلى خيمة لأحد الأنصار ،وكانت عيون المجرمين تترصده ؟! فأرسلوا طوقين من أزلامهم من المخابرات والحزبيين ، فهو بالنسبة إليهم صيد ثمين ، فليقتل منهم مايشاء ؟! أما مرافقه فلم يشعر إلا ورصاصة تخترق جسده ،وأما هو فقد وجّه سلاحه باتجاههم ، فأردى أحد المتقدمين !!

 

وقد ذكر لنا الحاج غالب أبو صفوان رحمه الله أن أحد عناصر الإجرام كان يشتم الشهيد ؛ لأنه استطاع أن يحرق مامعه من رسائل وأوراق مالية ! وعندما توقف إطلاق النار ، كان الشهيد قد فارق الحياة ، وبجواره بندقيته التي لم تفارقه منذ ثلاث سنوات ، وبين أصابعه أوراق ورسائل محترقة !!

 

خذوه مضرجاً لا حسّ  فيه    =   خذوه فقد هوى بعد النضال  ِ

خذوه ! لطالما أردى رجالا ً    =   وماكلُّ الرجال من الرجال !؟

خذوه فإنه مامات حتى       =   أذاق جموعٓكم ذلّ  الخٓبال !

فهذا الفارسُ المغوار  يأبى   = لمعصمه  يُقيّدُ   بالحبال !؟

ثوى في السفح لاخٓوٓراً وضعفاً= وكان مٓقيلُه قُللٓ الجبال !

سقى الوطنٓ المكبّل من دماه ُ = فأزهرتِ الملاحمُ في الشمال ِ!!

أصالحُ ! ياشقيقٓ الروح عذراً = إذا عجز اللسانُ عن المقال !؟

بكيتُك إذ نٓعٓوْك بذوْب قلبي    = ففقْدُك كان فوق الإحتمال !؟

مضى الأحبابُ واستُبْقيتُ  فرداً = فليت أحبتي علموا بحالي !؟

فلاواللهِ ماأحببتُ عيشي      = ولا خطر التنٓعُّمُ لي ببال ؟!

ولكني وإن فارقتُ سيفي    = لفي شوق إلى ساح النزال  !

 

وبعد مضي أكثر من سنتين على استشهاده ، رأيته في المنام بعد صلاة الفجر ، وأنا في المدينة المنورة ، وكانت الرؤيا كالتالي : كنت واقفاً في أول الجسر الذي يربط ضفتي العاصي في مدينتنا جسر الشغور مع أحد الأخوة ،فطلع علينا من جهة اليمين من تلة خضراء ، وفي جبينه آثار جرح ، صار الأخ يحدثه عن غباء الحزبيين ومقالبه فيهم ، وهو يضحك ، ثم طلبنا منه أن يذهب معنا فوق الجسر وكان محفراً فاعتذر ، وقال مشيراً إلى الجهة الغربية من النهر : لا ، أنا سأعبر من هناك ، وطريقي غير طريقكم !؟ فتذكرت وأنا في الرؤياأنه استشهد ، فاستحلفته بالله : أين أنت ؟ فأجابني : نحن في مكان بارد .. بارد طيب ! فاستيقظت ، وواللهِ إنّ قلبي ليبكي ، ولم يغب عن خاطري طول اليوم ، وكأنه كان يقظة لا مجرد رؤيا !.