العلامة الفقيه المجاهد الحر محمد أبوزهرة

 

في التاسع عشر من ربيع الأول من عام 1394، الموافق 12 نيسان/أبريل 1974، توفي في القاهرة، عن 79 سنة، الأستاذ محمد أبو زهرة، العلامة الفقيه والأصولي الكبير والعالم المجاهد الحر.

ولد محمد أحمد مصطفى أبو زهرة في شوال من سنة 1315= 1898 م في مدينة المحلة الكبرى إحدى مدن محافظة الغربية في مصر، وحفظ القرآن الكريم في صدر حياته في الكُتَّاب، إذ هو من أسرة دينية تنتسب إلى ولي من أولياء الله هو الشيخ مصطفى أبو زهرة الشهير بالششتاوي الذي يزار ضريحه بمسجده ببلدة شيشتا في مدينة المحلة الكبرى، ووالده هو الشيخ أحمد مصطفى أبو زهرة مشهور بالصلاح والالتزام بالدين الحنيف ومكارم الأخلاق، ووالدته حافظة للقرآن الكريم، وكانت تراجع معه ما حفظ قبل الذهاب إلى الشيخ في الكتاب، وتميز عن إخوته وأخواته بحفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز التاسعة من العمر، ولأنه كان ذا حافظة قوية سريع البديهة، فلم ينل من قسوة أستاذه بالكتاب إلا قليلا.

كانت الأسرة من متوسطي الحال يظنها الناس من الأثرياء، اشتُهِرت بالعلم والذكاء، وقد نبغ منها شقيقه الأستاذ الدكتور مصطفى أحمد أبو زهرة منشئ ورئيس قسم هندسة الطيران بكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول في سنة 1939، وهي اليوم جامعة القاهرة، وأيضا الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة لندن بإنجلترا، والذي أطلق اسمه على أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة.

بعد حفظ القرآن الكريم تعلم مبادئ العلوم المدنية كالرياضيات، التي كان شديد الولع بها، والجغرافية والفلسفة مع العلوم العربية، والتحق في سنة 1331= 1913بالجامع الأحمدي بطنطا ومكث فيه ثلاث سنين، وفي هذه الفترة ابتدأ نبوغه وتفوقه يظهر حتى أن شيخ الجامع وهو الشيخ الأحمدي الظواهري الذي صار شيخا للأزهر، اقترح أن يمنح مكافآت خاصة لامتيازه، كما اقترح ألا يمكث في طلب العلم الأزهري 15 عاما، كما كانت المدة المقررة، بل إن مثله يصح أن يتجاوز سنين عدة في سنة واحدة، ولم يتم تنفيذ هذا القرار لصعوبته قانونيا، ولانتقاله إلى مدرسة القضاء الشرعي.

التحق في سنة 1334=1916 بمدرسة القضاء الشرعي بعد امتحان مسابقة كان فيها من الأوائل، ومدرسة القضاء الشرعي مدرسة أسست بمساعي الإمام محمد عبده قبل وفاته، وقام بها سعد زغلول في الفترة التي كان بها رئيساً للوزراء، وصدر الأمر الخديوي بها في سنة 1314=1896، لتكون قسماً من الأزهر وتحت إشراف شيخه الإمام حسونة النواوي، وكان هدفها إحباط مشروع المحتل البريطاني في تغيير طبيعة القضاء الشرعي وجواز أن يتولى القضاء الشرعي خريجو الحقوق من مدرسة الحقوق الخديوية، ولذا تأسست هذه المدرسة لتخرج قضاة على منهج يجمع بين المنهج الأزهري وبين العلوم وبين الأساليب العصرية في الدعاوي والقضاء، وتكون شهادة عالميتها من درجة أستاذ، وينبغي أن نذكر أنها وضعت عملياً تحت إشراف وزارة المعارف وأنها ألغيت في سنة 1348=1929.

وكان التكوين العلمي الحقيقي للأستاذ أبي زهرة في هذه المدرسة، فقد كان مديرها رجل عظيم هو عاطف باشا بركات، الذي منع التحدث بغير العربية فيها، وكان مدرسوها أعلام الفترة في علمهم وخصالهم، وكان من خريجيها أعلام القضاة والدعاة والعلماء والمؤلفين من أمثال عبد الوهاب خلاف وأمين الخولي وعبد الوهاب عزام وأحمد أمين.

وفي المدرسة نظر إليه ناظرها محمد عاطف باشا بركات نظرة اهتمام وتشجيع، وقد مكث فيها تسع سنين؛ أربعة في القسم الثانوي، وخمسة في القسم العالي، وفيها اتسعت آفاقه الفكرية، ولما تخرج منها ونال شهادة العالمية من درجة أستاذ عام 1343=1925 كون لنفسه منهجا فكريا في فهم الشريعة وتفسيرها، وكلما تعمق فيها ازداد إيمانا بها، وتابع الشيخ أبو زهرة دراسته فأخذ دبلوم دار العلوم من الخارج سنة 1927، وكانت دار العلوم أمتن الكليات في وقتها.

وفي أيام دراسته في مدرسة القضاء قامت ثورة  1919 على المستعمر البريطاني، فوقف على الكثير من دقائق أحداثها ووقائعها، وأحب سعد باشا زغلول وتعلق به، وكان حريصا على حفظ خطبه وترديدها.

وفي سنة 1927 عين أبو زهرة مدرسا للشريعة واللغة العربية بتجهيزية دار العلوم والقضاء الشرعي لمدة ثلاث سنين، ثم انتقل بعد ذلك إلى التدريس في المدارس الثانوية العامة لمدة سنتين ونصف، ثم انتقل في سنة 1351=1933 إلى كلية أصول الدين مدرسا للجدل والخطابة فيها، ثم تاريخ الديانات والملل والنحل، وفيها بدأ اتجاهه للبحث العلمي حين أخرج أول مؤلفاته؛ كتاب الخطابة، وكتاب تاريخ الجدل، ثم كتاب تاريخ الديانات القديمة، ثم كتاب محاضرات في النصرانية، الذي ترجم إلى عدة لغات.

وبعد قرابة سنتين نقل في سنة 1353=1934مدرسا للخطابة بكلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول، وهي اليوم جامعة القاهرة، ثم انتقل من تدريس اللغة العربية إلى تدريس الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق فيها، متدرجا في مراتبها من مدرس إلى أستاذ مساعد إلى أستاذ كرسي، إلى رئيس قسم الشريعة ووكيلا لكلية الحقوق جامعة القاهرة لمدة 5 سنوات انتهت ببلوغه سن التقاعد سنة 1958، واستمر في التدريس بكلية الحقوق كأستاذ غير متفرغ وفي غيرها حتى توفاه الله.

وفي أوائل تدريسه في كلية الحقوق انتدب كذلك للتدريس في كلية أصول الدين التي استمر يدرس بها تسع سنوات حتى سنة 1361= 1942، وارتدى في هذه الفترة الزيَّ الأزهرى.

وقد تولى التدريس في كلية المعاملات والإدارة بجامعة الأزهر سنة 1963، وكذلك معهد الخدمة الاجتماعية وغيره من المعاهد، واختير عضوا لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في سنة 1961، ومقررا للجنة بحوث القرآن ولجنة المتابعة ولجنة السنة المطهرة وشيخا في لجان التقنين للمذهبين الحنفي والشافعي، وكان أيضا عضوا بمجلس جامعة الأزهر، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومعهد البحوث الجنائية والاجتماعية، والمجلس الأعلى للفنون والآداب، ومجلس محافظة القاهرة.

كان الأستاذ أبو زهرة أبيض اللون، جهير الصوت، حاضر البديهة، فيه دعابة المشايخ المصريين، يحب النادرة ويتخول بها طلابه، ومما روي عنه أنه كان إحدى محاضراته في الجامعة مستغرقاً في الشرح والطلاب مستغرقون في الإنصات، وإذا بطالب يدخل المحاضرة ويسير وسط القاعة معجباً بنفسه، ولاحظ الشيخ أبو زهرة أنه يضع على صدره وردة، فناداه الشيخ مداعباً: أهلاً أبو وردة. فضُجَّ مدرج القاعة بالضحك، فرد الطالب على الفور: أهلاً أبو زهرة. فأعجب الشيخ ببديهة الطالب، وقام من مكانه ونزل إلى الطالب وحياه مقبِّلاً إياه.

تزوج العلامة أبو زهرة من السيدة حكمت حمزة، وله منها ستة أولاد: المرحومة الحاجة سهير المتوفاة سنة 1427=2006، والدكتور أحمد، والمرحوم الدكتور الطبيب مصطفى المتوفى سنة 1429=2008، والأستاذة أميرة التي تزوجت من المرحوم الأستاذ محمد يسري محرم نجل العالم الجليل المرحوم حسين محرم، وكان آخر مناصبها المدير العام بالجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، والدكتورة الطبيبة حياة الأستاذة في كلية الطب بجامعة القاهرة، والدكتورة نادية أستاذة علم الاجتماع البشري في كندا ثم جامعة أكسفورد في بريطانيا، فنحن أمام أسرة علمية من المتفوقين، ولكن الأستاذ أبا زهرة لم يقدر له أن يرث علمه أحد أولاده، وله في كثير من العلماء أسوة حسنة، ولكن أولاده الروحيين يتكاثرون في كل يوم بين مطالعي كتبه والمستفيدين من علمه وعارفي فضله، وإلى جانب ذلك قام أبناؤه بعمل جمعية أبو زهرة الخيرية وأنشأوا مدارس أبي زهرة الإسلامية.

ينقسم تراث العلامة أبي زهرة إلى قسمين: جهاده ودفاعه عن الإسلام، ومؤلفاته. أما مؤلفاته فتتميز بغزارتها وخصوبة محتواها وسعة أفقها وعمق الفقه فيها، واعتدالها وابتعادها عن الأحكام المسبقة والعقد التاريخية، في لغة سهلة جزلة، لا حشو فيها أو حشر، وعليها تتلمذ آلاف من طلبته في الكليات ومئات الألوف من طلبة العلم في العالم الإسلامي، وقد كتب كثيرون بعده في مواضيع كتبه، ولكنهم في الغالب بقوا عيالاً عليه ولم يضيفوا إلا القليل إلى ما كتبه هو، وتلك البركة من الله يؤتيها عباده الصالحين، فلا تزال كتبه في تراجم أئمة الإسلام من الفقهاء وتطور الفقه الإسلامي وأصول الفقه، مراجع لا تبلى جدتها، وإن كان من ملاحظة فهي أن طبعاتها الأول كانت ضعيفة الإخراج كثيرة الأخطاء المطبعية، وأظن أن بعضها كان مفرغاَ من مذكرات بعض الطلبة النبهاء الذين حضروا محاضراته، ثم راجعها رحمه الله وألقى بها للمطبعة، ولكنه لم يراجع تجاربها الطباعية إلا مرة عابرة، هذا إن كان قد راجعها.

ويكفي أن ندلل على ما سبق بأن نعدد هنا كتبه رحمه الله تعالى: الخطابة، تاريخ الجدل، تاريخ الديانات القديمة، محاضرات في النصرانية، محاضرات في الوقف، محاضرات في عقد الزواج وآثاره، مقارنة بين المذاهب الفقهية والقوانين العربية، أصول الفقه، أحكام التركات والمواريث،الجريمة في الفقه الإسلامي، العقوبة في الفقه الإسلامي، الميراث عند الجعفرية، أصول الفقه الجعفرى، الأحوال الشخصية، الإمام زيد: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الإمام جعفر الصادق: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الإمام أبو حنيفة: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الإمام مالك: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الإمام الشافعي: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الإمام أحمد بن حنبل: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الإمام ابن حزم الأندلسي حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الإمام ابن تيمية: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، تاريخ المذاهب الإسلامية جزءان في مجلد واحد، المعجزة الكبرى (القرآن)، خاتم النبيين - ثلاثة أجزاء في ثلاثة مجلدات، الملكية ونظرية العقد، شرح قانون الوصية، الدعوة للإسلام، الولاية على النفس، العقيدة الإسلامية، المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، التكافل الاجتماعي في الإسلام،العلاقات الدولية في ظل الإسلام، تنظيم الإسلام للمجتمع، تنظيم الأسرة وتنظيم النسل، بحوث في الربا، الوحدة الإسلامية، نظرية الحرب في الإسلام، مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني، بحث في قانون الأسرة - نشر بكتاب عن الفقه الإسلامي بنشرة معهد واشنطن للقوانين الدولية، بحث في السياسة الإسلامية - نشر في مجلة القانون الدولى المصرية، نظرات في العبادات الإسلامية، تفسيره للقرآن الكريم الذي أسماه في لمحة ذوقية لطيفة: زهرة التفاسير، وانتهى رحمه فيه إلى الآية 73 من سورة النمل، حين وافاه الأجل المحتوم.

ونورد هنا ما قاله الأستاذ رحمه الله في كتابه الخطابة مثالاً على حكمته وسعة أفقه: مراعاةُ مقتضى الحال لبُّ الخطابة وروحها؛ فلكل مقام مقال، ولكل جماعة من الناس لسان تخاطب به؛ فالجماعة الثائرة الهائجة تخاطب بعبارات هادئة، لتكون برداً وسلاماً على القلوب، والجماعة الخَنِسة الفاترة، تخاطب بعبارات مثيرة للحمية، موقظة للهمم، حافزة للعزائم، والجماعة التي شطت وركبت رأسها، تخاطب بعبارات فيها قوة العزم ونور الحق، فيها إرعادة المنذر، ويقظة المنقذ.. وفيها روح الرحمة، وحسن الإيثار، ليجتمع مع الترهيب الترغيب، ومع سيف النقمة ريحان الرحمة؛ لذلك وجب أن يكون الخطيب قادراً على إدراك الجماعة وما تقتضيه، والإتيان بالأسلوب الذي يلائمه.

وكان الأستاذ الثري أحمد باشا حمزة قد أنشأ مجلة شهرية في سنة 1366=1947 أسماها لواء الإسلام، وعهد برئاسة تحريرها للعلامة محمد الخضر حسين، وشيخ الجامع الأزهر سنة 1371=1952، والمولود سنة 1293=1876والمتوفى سنة 1377=1958، وكان للأستاذ أبي زهرة أربعة أبواب ثابتة في المجلة هي: تفسير القرآن الكريم، ومقال اجتماعي، وندوة لواء الإسلام، وباب الفتاوى للرد على أسئلة القراء. هذا على مدى ما يقرب من الأربعين عاما فيما لَا يقل عن أربعة آلاف صحيفة، وقد جمع فضيلة الشيخ مجد مكي في أربع مجلدات فتاوى الأستاذ أبي زهرة التي نشرتها مجلة لواء الإسلام على مدى سنوات، وسيتلوها ندوات المجلة القرآنية والفقهية التي شارك فيها رحمه الله تعالى. ولم أستطع معرفة إن كانت حرم الأستاذ أبو زهرة تنتمي لعائلة أحمد باشا حمزة، رحم الله الجميع.

أما جهاد أبي زهرة في سبيل الله ونصرة الإسلام، فكان يستند على شخصيته الموسوعية المبنية على التقوى وتوحيد الله توحيداً يقزِّم كل من سواه، ولكونه مستقلاً لا ينتمي لحزب أو حركة، لم يستطع معارضوه ومناوؤه أن يجدوا في شخصه ومواقفه أية مطعن، كما هو شأنهم في الالتفاف على الدعاة في مثل هذه المواقف، ولكونه زاهداً في المناصب والمال لم يستطيعوا أن يغروه ليحيد عن الحق، قال رحمه الله: اختلطت حياتي بالحلو المر، وكنت في صدر شبابي أرى مر الحياة حلواً. ولما أخذت أشدو في طلب العلم وأنا في سن المراهقة، دخلت المعهد الأحمدي في طنطا... لقد ابتدأت فقيراً في أسرة بين الفقر والغني، ولكن لن ينال الفقر من إحساسي بنفسي واعتزازي بديني وخلقي، ولما دخلت موظفاً في الحكومة قنعت وعزفت عزوفاً كاملاً عن الدروس الخصوصية، وإني أقول نصيحتي لأبنائي: كونوا مع الحق دائماً، أخلصوا لله دائماً، ولا تمالقوا في حق، ولا تكونوا على ضعيف أبداً.

ولا يتسع المقام لذكر مواقف أبي زهرة في الدفاع عن الإسلام والشريعة، فنذكر معالم منها نقف عندها موقفات موجزة، وأول ما نقف عنده مشروع القانون 103 لسنة 1961 الخاص بإعادة تنظيم الأزهر والهيئات التابعة له، والذي أرادت حكومة الرئيس عبد الناصر من اقتراحه تذويب الأزهر أو تدجينه فلا يعود يخرج علماء متمكين من علمهم، متينين في دينهم، صلبين في مواقفهم، فالحكم الشمولي يسعى دائماً لتطويع كل مراكز الفكر والرأي لتسبح بحمده وتمجد رأيه ولا تخالفه قيد إنملة.

وتصدى لهذا الأمر ثلة قليلة من علماء الأزهر، تجمعوا وراء الشيخ أبي زهرة الذي رفع الصوت عالياً ضد هذا المشروع، وقال رحمه الله: إنه ليس ضد أي إصلاح، ولكن الأزهر صانع الثوار والثورات.. هل من المنطق أن يدبر أمره في ليلة واحدة؟ ثم قال الشيخ : كل إصلاح للأزهر يجب أن يكون مشتقاً من رسالته. واقترح أن يقوم الأزهر بتثقيف الأطباء والمهندسين بالثقافة الدينية، واقترح أن يلتحق الحاصلون علي المؤهلات العليا من الجامعات وغيرها بالأزهر، وتوضع لهم مناهج خاصة لتثقيفهم دينياً، ولم ير الشيخ إنشاء كليات للطب والهندسة والعلوم.

وهنا نذكر أن الأستاذ أبا زهرة كان من مؤسسي معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، وكان يلقي فيه محاضراته في الشريعة الإسلامية احتسابا لله دون أجر، وكان هذا المعهد قد أنشئ لمن تخرج من غير كليات الشريعة وأصول الدين وأراد أن يدرس الدراسات العربية والشرعية، والتحق به عدد كبير من خريجي الجامعات الراغبين في مثل هذه الدراسات.

وكان هذا الموقف أشد من الكفر عند المستيدين، فصدرت قرارات مختلفة بحرمانه من التدريس في الجامعة، وإلقاء الأحاديث العامة، وأغلقت أمامه أبواب التليفزيون والإذاعة والصحف، بل وحرض الزبانية بعض الصحف لمهاجمته، وصدر قرار أمني بسجنه كاد أن ينفذ لولا أن تداركه بعض أولي النهى في القيادات السياسية العليا، فانتهى إلى أن قيدوا حريته في نوع من أنواع الإقامةالجبرية في بيته.

ثم برزت بعد ذلك، في سنوات 1386-1391= 1966-1971، قضية النص في الدستور على أن الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وتحالفت الكنيسة القبطية مع اللادينيين ليخلو الدستور من الإشارة إلى دين الدولة بل طالب بعضهم بربطه بالمبادئ الاشتراكية، وتصدى لهذه المحاولة كبار علماء الأزهر ولفيف كبير من رجال القانون في مصر، وذلك بتقديمهم محاضرات قيمة أمام لجنة شكلها مجلس الأمة لدراسة الدستور والإعداد لصياغته، وقد ألقى الأستاذ محمد أبو زهرة محاضرة أمام اللجنة طالب أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وحرص في محاضرته على التأكيد على عدالة التشريع الإسلامي مع المسلمين وغير المسلمين، وقد نالت آراء الشيخ محمد أبو زهرة استحسان وفد المحامين العرب الذى حضر هذه الجلسات، وأدت جهود علماء الأزهر وحججهم القوية إلى حسم الجدل حول مسألة الدين في الدستور، فقد كان كثير من كبار القوم آنذاك فيهم من الصلاح وخشية الله ما جعلهم يريدون أن تكون الشريعة مصدر التشريع المصري، فقدمت لهم جهود الشيخ أبي زهرة وإخوانه الوسيلة التي يحاجون بها بعض الزبانية، لتبقى مصر دولة مسلمة.

وقدم المرحوم الدكتور حسن صبري الخولي، المولود سنة 1921 والمتوفى سنة 1982، والممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر ومن بعده أنور السادات، رسالة دكتوراه إلى جامعة الأزهر،كان موضوعها القضية الفلسطينية، وكان الشيخ أبو زهرة من ضمن لجنة المناقشة، فقال بصراحته المعهودة: إن الرسالة عبارة عن بعض التقارير الخاصة برئاسة الجمهورية، وإن الطالب لم يكلف نفسه حتي بجهد ترتيب الصفحات أو حتي إصلاح الأخطاء اللغوية الفادحة! وهمس أحدهم في أذن الشيخ بأن الطالب هو الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية، فصاح أبوزهرة: متحدث رسمي.. ممثل شخصي.. تلك مسميات في مكتب رئيس الجمهورية لا دخل لنا بها! وقد نشرت دار المعارف سنة 1973هذه الرسالة تحت اسم سياسة الاستعمار والصهيونية في النصف الأول من القرن العشرين، ولم تتضمن اسم الأستاذ أبي زهرة ضمن من ناقشوا.

وبعد انقلاب القذافي في ليبيا ومحاولته الظهور بمظهر المجدد الإسلامي، عقد مؤتمراً إسلامياً في طرابلس الغرب دعا إليه جماعة من كبار العلماء في العالم الإسلامي ومنهم أبو زهرة، وافتتح القذافي المؤتمر بكلمة أعلن فيها ما يسميه اشتراكية الإسلام، ودعا العلماء المجتمعين إلى تأييد ما يذهب إليه على أنه الحق الوحيد الذي لا ثاني له، وقد نظر العلماء متحيِّرين ضائقين، ولكن الأستاذ أبا زهرة طلب الكلمة في ثقة، واعتلي المنبر ليقول في شجاعة: إننا نحن علماء الإسلام الذين يعرفون حكم الله في قضايا الدولة ومشكلات الناس، وقد جئنا هنا لنصدع بما نعرف، فعلى رؤساء الدول أن يقفوا عند حدودهم، فيدعوا العلم إلى رجاله ليصدعوا بكلمة الحق، وقد تَفضَّلْتَ بدعوة العلماء لتسمع أقوالهم، لا لتُعلن رأياً لا يجدونه صواباً مهما هتف به رئيس! فلنتق الله في شرع الله! وتطلع القذافي أن يجد عالماً يخالف الشيخ في منحاه، فلم يجد أحداً فقد كان في المدعوين عزّة وإباء، فاحتفوا بأبي زهرة مؤيدين، وفُضَّ المؤتمر بعد الجلسة الأولى!

وقد عبر الأستاذ أبو زهرة عن خيبة قطاع كبير من علماء ومثقفي مصر في عبد الناصر وحكمه الاستبدادي، ويبدو أنه وصل لهذا الاستنتاج قبل غيره بكثير، قال الأستاذ أبو زهرة: إن فرحتي ما كانت لتحد، يوم عُزل فاروق على يد زعيم الثورة اللواء محمد نجيب الوطني بحق، وظننتُ أن العدل قد تحقق، وأننا سوف نسترد أرضنا، وأن شمس الحرية سوف تعود ترفرف على ديارنا، إلى أن حدثت المفاجأة المذهلة وتغيَّر الوضع تماماً، وانتصرت الأهواء والنزعات الشخصية، وانقلبت الثورة إلى انقلاب عسكري بقيادة طاغية جديد هو جمال عبد الناصر الذي أذاق البلاد أقسى ألوان الذل والهوان.

وفي سنة 1391=1971 توفي جمال عبد الناصر وخلفه نائبه محمد أنور السادات، وكان رجلاً فيه أثَرة من حب الإسلام واحترام الشريعة، وكان المتنفذون من الاشتراكيين والعلمانيين يكرهون ولايته، وتآمر بعضهم عليه، فأرخى بعض القيود على الإسلاميين، وطرأ تحسن في جو الحرية العامة واتسع أفق ما يمكن قوله بصراحة، واستفاد الأستاذ أبو زهرة وغيره من الإسلاميين من هذا الانفتاح واستطاعوا أن يعبروا عن آرائهم، وهي أراء الأغلبية في مصر، بحرية وصراحة لم تكن متاحة في عهد عبد الناصر.

ولكن الرئيس السادات كان واقعاً تحت تأثير زوجته في كثير من الأمور، وكانت تريد تعديل قانون الأحوال الشخصية لتحاول تقريبه أو مماثلته للقوانين الأوروبية، واستجاب لها عدد من سيدات المجتمع المتفرنجات، وأيدها المنافقون والعلمانيون وذيول الاشتراكيين وكانوا يديرون أغلب وسائل الإعلام، ورأوها فرصة للنيل من الإسلاميين واتهامهم بالرجعية والتخلف ومعاداة المرأة والحجر عليها، وكان من هؤلاء كاتب كبير هو الأستاذ أحمد بهاء الدين غفر الله له، فكتب الأستاذ أبو زهرة مقالة ترد عليه في مجلة منبر الإسلام التي تصدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ولم يذكره بالإسم ولكنه هاجمه هجوماً شديداً، فرد عليه أحمد بهاء الدين مستنكراً أن يهاجمه الشيخ، وقال: لماذا؟ لأن الشيخ لم يعجبه بعض ما كتبت، محاولاً أن أشرح ما أفهمه من المبادئ الاشتراكية، والقيم الاشتراكية، والأخلاق الاشتراكية! ما الذى لم يعجبه... وأثاره وجعل الدم يغلى فى عروقه؟ المرأة!. دائماً المرأة! فقرة عابرة كتبتها عن الأسرة وعلاقة الرجل بالمرأة ووضع المرأة فى المجتمع الاشتراكي!

المشايخ والنساء! ألا تلاحظون معى أن هؤلاء المشايخ لا يكاد يعنيهم شيء فى الوجود إلا المرأة؟ ألا تلاحظون أنهم أكثر الناس تفكيراً فى المرأة؟ أليس هذا غريباً حقا؟ ألا يحتاج هذا إلى محلل نفسى أكثر مما يحتاج إلى جدل عقلي؟ الأغرب من ذلك أن ما يعنى هؤلاء المشايخ من المرأة ليس "الإنسانة" ولكن "العورة"، المرأة فى عقلهم الباطن مخلوقة حقيرة مستعدة أن تبيع عرضها لأول عابر سبيل إذا غفل الرجل لحظة واحدة عن حراستها!

وختم الأستاذ أحمد بهاء الدين، رده بتوضيح، أو تراجع إن شئت، يتعارض في حقيقته مع المبادئ الاشتراكية، ولكنه يتفق مع شهامة الخُلِق المصري الأصيل: أنا لا أفهم المساواة على أن كلا من الرجل والمرأة يخرج على هواه وكيفما شاء، ولكننى أفهمها على أن كلا منهما مقيد فى دخوله وخروجه وتفاصيل حياته برأى الآخر ومشورته واقتناعه! وعلى أن الأخلاق الكريمة مطلوبة من الرجل ومقيدة له كالمرأة سواء بسواء! وبهذا يكون الرجل والمرأة طبقة واحدة! ليس فيها سيد غاشم مطلق ومخلوقة خاضعة ذليلة ضائعة!

ويبدو أن الأستاذ بهاء الدين لم يكن يعلم عن بيت الشيخ أبي زهرة وعن بناته وزوجات أبنائه الدارسات العاملات، وفي هذا ردٌّ عملي على مزاعمه بخصوص المشايخ والمرأة، وبخاصة في مصر.

وبلغت القضية ذروتها في في أواخر عام 1973 وأوائل عام 1974، فتابع العلامة أبو زهرة مسيرته في المنافحة عن الإسلام إزاء من يريدون النيل منه وتوهين أركانه في مصر، وشارك في عديد من الندوات والاجتماعات بجامعة القاهرة والإسكندرية وفي جمعية الشبان المسلمين لمحاربة التعدي على الشريعة الإسلامية، وكانت له صولات وجولات في مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بخصوص تحديد النسل وتقييد تعدد الزوجات والطلاق في مشروع قانون الأحوال الشخصية لوزارة الشئون الاجتماعية.

ثم قرر رحمه الله أن ينقل الإمر لمستوى الشارع حين لم يلق استجابة مناسبة على صعيد المشرعين وكبار المسؤولين، وشرع في إقامة مؤتمر شعبي لمناقشة هذا الأمر في سُرادق كبير في شارع العزيز بالله أمام منزله بضاحية الزيتون الشرقية في شمالي القاهرة، وذلك على نفقته الخاصة، وقام رحمه الله بمعاينة المكان وإنشاء السرادق مبكرا في صباح يوم الجمعة التاسع عشر من ربيع الأول الموافق 12 نيسان/أيار 1974، ثم عاد إلى حجرة مكتبه بالدور العلوي، وشرع في إكمال تفسير سورة النمل حتى أذان الظهر، وأثناء نزول فضيلته حاملا القلم والمصحف مفتوحا على آخر ما وصل إليه في التفسير وأيضا الورق الذي به ما كتب من التفسير تعثر رحمة الله عليه وسقط ساجدا على المصحف وعلى أوراق التفسير، ثم فاضت روحه الكريمة إلى بارئها أثناء أذان المغرب.

وهكذا شاءت إرادة الله العظيم أن يكون آخر عمله شاهداً على جهاده وتذكرة لمن بعده، وصار هذا السرادق الذي أشرف رحمه الله على إقامته للدفاع عن شرع الله هو سرادق العزاء للأمة بفقده وخسارته الكبرى، وتلك كرامة من الله لهذا العالم العامل الصادق المنافح.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا