أحمد عون االله اخلاصي عالم صحفي إداري

الشيخ أحمد عون الله إخلاصي

( عالم ، صحفي ، إداري )

( 1902 ـ 1972 م )

نسبه ومولده:

هو الشيخ الفاضل أبو محمد نزار ، أحمد عون الله بن الشيخ عبد الله أسعد إخلاصي الحلبي ..

ويطلق عليه: الشيخ عون الله إخلاصي ، والشيخ عوني إخلاصي ، أيضاً .

ولد في حلب سنة 1902 م ، ونشأ في أسرة حلبية قديمة ، عرفت برجال منها ، عملوا في مجال العلم الشرعي ، والأدب والقانون ، والطب والهندسة .. في حلب ، وفي دمشق الشام ..

وهم ينتسبون إلى جدهم ( محمد إخلاص دده ) ، الذي كان يقيم في التكية الإخلاصية ، في حي البياضة ، شرق القلعة ، منذ بضعة قرون ، والمدفون في مقبرة الصالحين ، أقدم مدافن مدينة حلب ..

كان الشيخ وحيداً لأبيه ، بالرغم من زواج والده المتعدد ، فإنه لم ينجب إلا ولداً ذكراً ـ هو المترجم ـ وابنتين ، إحداهما غير شقيقة ..

رحلته إلى الأستانة:

لم يلبث والده ، أن رحل به وبأمه إلى الأستانة ، عاصمة الخلافة العثمانية ، والتي كانت قبلة ، يتطلع إليها الناس آنذاك ، وكان والده الشيخ عبد الله ، يعمل في حقل المحاكم والقانون ، طلباً للرزق ، واستطاع خلال إقامته في الأستانة ، أن يوثق شجرة العائلة في كتاب ، وحصل على شهادات موقعة من كبار رجالات الدولة العثمانية وأعيانها وعلمائها .. الذين كانوا يترددون على دار السعادة ، دون انقطاع .

وفاة والده:

ويلقى الشيخ عبد الله أسعد مصرعه ، برصاص الخلاف الذي احتدم بين رجال السلطنة ، وبين رجال المعارضة ( أفراد من حركة الاتحاد والترقي ) ، وكان في الأربعين من عمره ..

وغادرت الأم عائدة إلى حلب ، مع ابنها الصغير ، أحمد عون الله ، الذي لم يتجاوز الثامنة من عمره ..

وهكذا ابتدأ عصر الفقر ، بعد الانتقال من حال اليسر إلى حال العسر ، والذي أصبح أكثر قسوة ، بعد وفاة الأم بسنوات قليلة ، من وفاة الوالد ..

فلجأ الفتى اليتيم ، إلى وظيفة دينية ، كانت من الموروث العائلي آنذاك ، وكان في السنة الثانية عشرة من عمره ، ونشبت الحرب العالمية الأولى واشتعل أوارها ( 1914ـ 1918م ) ، فأحالت المنطقة إلى ساحة من الخوف والجوع ، وكان ( السفر برلك ) يحصد الشباب ، وهو يسوقهم إلى ساحات الحرب سوقاً ، دون النظر إلى الأعمار ، ولما كان الفتى يبدو أكبر من سنه الحقيقي ، فقد قضى شطراً من تلك الحرب ، مختفياً في بيوت الأقارب ، كذلك حمته العمامة التي كان يلبسها ، إشارة إلى وظيفته الدينية ، من مآزق السوق الإجباري ،إلى الحرب ، التي لم يعد منها إلا القليل ..

دراسته:

التحق الشيخ بالمدرسة الخسروية ، ليتابع دراسته وتحصيله العلمي فيها ، والتي تؤهل خريجيها ، لتولِّي أعمال الإمامة والخطابة ، والوعظ والإرشاد ، والعمل في المحاكم الشرعية والإفتاء .. ولقد ساعدته الإعانة التي كانت تقدمها المدرسة لطلابها ، على مواجهة أعباء الحياة ، في حدودها الدنيا ، وتلقى العلم فيها على كبار علماء عصره ، لمدة ست سنوات ، ثم تخرَّج فيها ، حاملاً شهادتها الثانوية .. وكان من القافلة الثانية التي تخرجت من هذه المدرسة العريقة .. وذلك في عام 1927 م .

ودفعه طموحه المعرفي إلى استكمال ومتابعة دراسته الشرعية ، والتي غذَّتها مشاعر الإعجاب بالأفكار الدينية الإصلاحية التي قادها ونشرها الشيخان المصلحان محمد جمال الدين الأفغاني ، وتلميذه الإمام محمد عبده ..

ولذلك اتجه إلى مصر ، وصوَّب نحو أزهرها المعمور ، الذي كان كعبة للعلم ، ومحجاً لطلاب العلم ومريديه ..

ولم تكن تكفه مدخراته الضئيلة ، في مواجهة الحياة الجديدة ، فأخذ يبحث عن عمل هناك ، وكان من جملة الأعمال التي زاولها ، مهنة ( الزنكو غراف ) ، عند سوري مقيم هناك .. إلا أن الحياة في القاهرة ، في بداية العشرينيات ، بالرغم من بساطتها ، وضآلة تكاليف المعيشة ، دفعته بعد فترة ، إلى العودة إلى حلب ، حاملاً الكثير من الطموح والآمال ..

شيوخه:

من شيوخه في المدرسة الخسروية: العلامة الشيخ الفقيه أحمد الزرقاء ، والعلامة الفقيه الشيخ أحمد الكردي ( مفتي حلب)، والعلامة الورع الشيخ محمد سعيد الإدلبي، والعلامة الشيخ الفقيه اللغوي محمد أسعد العبه جي ( مفتي حلب ) .. وغيرهم .

أقرانه:

وكان من أقرانه الذين تخرَّجوا معه في الخسروية: العلامة الشيخ الفقيه اللغوي محمد ناجي أبو صالح ، والشيخ الدكتور محمد معروف الدواليبي ، والشيخ محمد أمين عيروض ، والشيخ عبد القادر الكوراني ، والشيخ محمد غازي التادفي ، والشيخ محمد خلوف التادفي ، والشيخ الصالح عمر البوشي ، والشيخ عبد الله الريحاوي .. رحمهم الله تعالى .

أعماله:

كانت أول وظفة ثابتة له ، تلك التي حصل عليها في القضاء الشرعي ، في مدينته حلب ، ثم ما لبث أن عُيِّن مديراً لأوقاف لواء الإسكندرونة ، والتي رحل عنها مع أسرته ، ثم انتقل 1937 مديراً لأوقاف حمص ، مدينة ابن الوليد ، ومن بعدها في سنة 1940 إلى حماة ، مدينة أبي الفداء

وكانت نهاية المطاف. بعد إقامته في حماة سنة أو أكثر بقليل، في بداية الأربعينيات ، حتى أعلن الشيخ عن عزمه في العودة إلى المدينة الأم ( حلب الشهباء ) ، وكان الشيخ فرحاً لقرار العودة مع أسرته إلى المدينة التي جاؤوا منها. حيث كان قرار نقل وظيفته قد وصل في الصباح.فعاد إلى حلب واستقر فيها ، مديراً لأوقافها منذ عام 1941 م ، وحتى أحيل إلى التقاعد ، في العام 1962 م .

ولأنه كان طموحاً في الازدياد من العلم والمعرفة ، على الرغم من ظروفه المادية والاقتصادية ، فقد التحق بعد إحالته على التقاعد ، بفصل دراسي في دمشق ، لتعليم اللغة الفرنسية ، بعد أن أعلنت وزارة الأوقاف في بداية الستينيات ، عن برنامج جديد للوزارة ، بإيفاد متطوِّعين ، إلى أفريقية ، لتعميق مفهوم الإسلام ، في مجتمعات القارة السمراء ، التي يُراد لها أن تذوق مرارة الجوع ، والجهل ، والتخلف ، والأمراض ، دون عناية من المجتمع الدولي ، ثم توقف الشيخ عن المتابعة ، عندما أعلنت الوزارة ، عن إلغاء برنامجها .. وعاد إلى حلب حزيناً أسفاً ، على ضياع هذه الفرصة الذهبية ..

رئاسة تحرير مجلة الاعتصام: 

وفي نهاية العشرينيات ، كان رئيساً لتحرير مجلة ( الاعتصام ) الحلبيَّة الشهريَّة ، التي أصدرها صديقه الشيخ الشاعر عبد الله عتر ، والتي حاول فيها ، أن يُعبِّر عن آرائه الإصلاحيَّة ، وطموحاته الإسلامية والاجتماعية ، وهي المجلة التي استقطبت عدداً من العلماء والمفكرين ، المتطلعين إلى نمط جديد في منهج التفكير الإسلامي، وكان يكتب فيها نخبة من العلماء والأدباء ، على رأسهم الشيخ الفاضل الأديب محمد الحكيم ، والذي أصبح قاض لاعزاز ، ثم مفت لحلب فيما بعد .. ولم يطل عمر المجلة طويلاً ، فقد أوقفت بعد أكثر من سنتين من صدورها ، وذلك بقرار من الحاكم الفرنسي ..

خطبه في الجامع الأموي والصديق : 

خطب في الجامع الأموي الكبير بحلب ، وكانت خطبته غير تقليدية ، مما أثار حفيظة الاستعمار ( الاستخراب ) الفرنسي ، وعملائه ، فأوقف عنها ، بقرار من المدير العام للأوقاف الإسلامية ..

ثم انتقل بعد سنوات قليلة ، إلى جامع ( الصدِّيق ) بحي الجميلية ، واستمرَّ يخطب فيه ، لسنوات طويلة ، وذلك حتى وفاته رحمه الله ، وكانت خطبته الأسبوعية ، تستقطب جمعاً من المثقفين والمتعلمين ، ليتابعوا خطبه القصيرة وغير التقليدية ، والتي كانت تلامس الواقع ، وتعالجه بحكمة ..

أسرته وأولاده:

تزوج الشيخ عون الله ، من السيدة خيرية دبا جاويش ، التي أنجبت له عدداً من الأبناء ، وهم على الترتيب التالي: محمد نزار ، وأحمد عدنان ، ووليد ، وهند .. 

اوسط أولاده المهندس المعماري الأستاذ أحمد عدنان إخلاصي ، ( 1931 ـ2000 م ) رحمه الله ، الذي أطلق اسمه على أحد شوارع أحياء حلب الحديثة ، وكان له عناية بالفن التشكيلي .. 

وابنه الثالث، الأديب الروائي المسرحي وليد إخلاصي ،( 1935 م ـ ... ) الذي درس العلوم الزراعية في الإسكندرية بمصر ، ويعمل في المؤسسة العامة لحلج وتسويق القطن بحلب .. وله مؤلفات عديدة ..

ولم يمتلك الشيخ عَوْن الله ، داراً أو أملاكاً في حياته ، سوى راتبه الوظيفي ، الذي كان ينفقه على أسرته ..

ومع ذلك فقد كان يسعى لتعليم أولاده ، والدفع بهم نحو العلم والمعرفة ، التي كانت شعاره الدائم ، الذي يرفع لواءه ، داخل البيت وخارجه ، وكان الدين عنده ، هو المعرفة التي بها يكون الاقتراب من الله تعالى أقوى وأكثر .. وكانت علاقته بأولاده ، علاقة عطف وحنان .. وكأنه صديق لهم ، بحيث يبدي كل منهم رأيه بحرية.

مظاهر الفقر والضنك في حياة العائلة : 

يذكر الروائي الشهير وليد بن عون الله إخلاصي بعض ذكرياته عن أسرته فيقول: لم تتلق والدتي أية فرصة في التعليم. لم تكن تقرأ أو تكتب ولكنها حفظت آيات قصاراً من القرآن الكريم تنفعها في أداء صلواتها المنتظمة. وقد شهدت أيام الضيق المادي قدرتها في تدبير أمور أولادها المدرسية. كانت تعد الحبر لاستخدامهم، فكانت تذيب بلوراته في الماء الساخن لحفظ الحبر في زجاجة يملؤون منها محابرهم المصنوعة من التنك، كما أنها كانت تحيل الورق المستخدم للتغليف (ورق الصر) إلى دفاتر تخيطها بالمسلة، فقد كان ثمن الدفاتر في المكتبات يشكل عبئاً ثقيلاً. كما أن الوالدة لم تنقطع عن ترميم الكتب الممزقة فقد كان المتداول عند معظم التلاميذ والطلاب هو التبادل بين السابقين واللاحقين في السنة الدراسية.

أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية كان الاحتلال الفرنسي يسيطر على المحاصيل الزراعية كالقمح والشعير، ووضع نظام القسائم التي توزع على الناس المحصول وفق حصص شهرية من الطحين.

ولما كانت نسبة الشعير هي الغالبة في الطحين، كان الرغيف أكثر صلابة، وخصوصاً أن كل عائلة كانت تخبز الرغيف على نفقتها الخاصة، وهكذا اضطر الوالد بالاتفاق مع الوالدة إلى طحن البطاطا المسلوقة لتعدّل من قوام العجين، فساهمت في إظهار الرغيف بليونة أفضل.

كما أنهم أمضوا زمناً من حياتهم دون توفر مدفأة في البيت تردّ عنهم برد الشتاء، وكان المنقل هو الوسيلة الوحيدة لإرسال الدفء بجمراته التي تظل لامعة إلى فترة من الليل ليخمد بريقها بعد ذلك.

وفي اجتماع عائلي عقب العشاء، أعلن الوالد عن حصوله على مدفأة قديمة، وكانت المدافئ تعمل آنذاك بالحطب. وكان لدخول واحدة إلى البيت فعل السحر، فكانوا يمسحون عليها بأيديهم غير مصدقين.

وفي حلب ارتفعت وتيرة الأزمات الاقتصادية يشارك في تأجيجها الاحتلال والحرب. فكانت السجادتان اللتان استطاع الوالد شراءهما أثناء إقامته في إسكندرونة، والسماور المصنوع من الفضة والذي كانت نيرانه تحافظ على صلاحية الشاي للشرب، شيئين ثمينين شكلا - أي السماور والسجادتان العجميتان - إحدى الحلول التي لجأ إليها الوالد لمواجهة الضيق والعسر.

صفاته:

كان الشيخ منفتحاً على الآخر ، يحاوره ويُصْغي إليه ، ويستفيد منه ما يوافق تعاليم الدين وأخلاقياته ، وكان ينزع إلى الديمقراطية والجانب الأخلاقي من الفكر الإشتراكي ، وأهمية الحوار والإصغاء إلى الآخر ، مما سبب له ذلك ، من انتقادات من علماء دين ورجال سياسة .. واحتج عليه بعض أقرانه ، من إلحاقه ابنته الوحيدة ( هند ) ، بمعهد اللاييك الثانوي المختلط ، وكانت حجته في ذلك : أنَّ على المرأة احتلال مكانتها الاجتماعية اللائقة بأهميتها ككائن حر وشريك للرجل في بناء المجتمع .. 

وصيته:

كانت وصيته التي كشف عنها بعد وفاته ، لا علاقة لها بالمال ، لأنه لم يكن يملك من الدنيا ، إلا راتبه التقاعدي ، الذي كان يصرفه على أسرته ، إلا أن وصيته لأبنائه ، كانت تحمل دعوتهم إلى التماسك والتعاون بين أفراد الأسرة ، والاستمرار في صلة الأرحام ، ومساعدة الأقارب ، في مواجهة أعباء الحياة ، والابتعاد عن الحزبيَّة بكل أشكالها ، القبلية والعشائرية ، وأن حب الوطن والانتماء إليه هو البديل ، وأكد في وصيته ، على النفور من التعصب ، بكل أشكاله وألوانه ، وأن العطاء للآخرين ، هو التجلي الأمثل للسعادة ..

وفاته:

توفي الشيخ في عام ( 1972 م ) ، محزوناً ومأسوفاً عليه ، بعد رحلة من العطاء وخدمة الأمة والمجتمع .. وشيع إلى مقبرة الصالحين بحلب ، حيث دفن فيها .. رحمه الله تعالى .

المصادر:

هذه المعلومات ، مستفادة من ولده الأديب القاص المسرحي وليد إخلاصي ، وذلك حينما زرته ولأكثر من مرة في مقر عمله ، في المؤسسة العامة لحلج وتسويق القطن بحلب ، بتاريخ ( 1 و3 / 11 / 1998 م ) ، بتصرف واختصار يسير .بالإضافة إلى مطالعتي ومتابعتي للموضوع .

أعاد النظر فيها ومراجعتها : المشرف على الموقع : مجد مكي