الشيخ محمد بشير الحداد

الشيخ محمد بشير الحداد(1)

(1328-1413هـ)

 

هو الشيح الفقيه المقرئ الصالح محمد بشير بن أحمد بن محمد، ويرجع نسبه إلى شقيق الشيخ أحمد البدوي.

وكان والده الشيخ أحمد إماماً وخطيباً في جامع الحدادين، حافظاً لكتاب الله، توفي يوم السبت 12 من ربيع الأول سنة 1331هـ

وجده الحاج محمد توفي سنة 1304هـ وكان معروفاً بالصلاح والزهد(2)

جاء أجداده من مصر قبل (300) سنة، واستوطنوا حلب، وكانوا يعرفون بـ "العلمي"، ثم عرفوا بـ "الحداد" نسبة إلى مهنة.

وأما والدته فيرجع نسبها إلى الشيخ سعد الدين الجباوي[1].

ولادته ونشأته وتعلمه:

ولد الشيخ في محلة بانقوسا في حلب سنة 1328، ونشأ يتيماً، وحفظ القرآن وعمره أربعة عشر عاماً على كل من الشيخ نور المصري، والشيخ محمد بايزيد، والشيخ محمد سعيسع، والشيخ أحمد حامد أبو تيج، وأخذ التجويد والأداء عن هذا الأخير.

ثم دخل المدرسة الحلوية، وبقي فيها سبع سنوات، قرأ في خلالها على:

- الشيخ عبد الوهاب طلس(ت:1354هـ).

- الشيخ عناية الله البخاري – من أهل المدينة المنورة-

- ثم حضر عند العلامة الشيخ أحمد الكردي مفتي الحنفية في المدرسة العثمانية سبع سنوات، وقرأ أربعة أجزاء من حاشية ابن عابدين، وتوفي الشيخ (سنة 1373هـ) قبل إكمال الجزء الخامس (الأخير).

- كما قرأ على الشيخ عبد الله حماد – من أهل تاذف- شرح ابن عقيل على الألفية.

- وعلى الشيخ أسعد العبجي شرح القطر لابن هشام في المدرسة الخسروية.

- وعلى الشيخ محمد الناشد حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح في جامع الحدادين، وشرح الرحبية في الفرائض في المدرسة العثمانية.

- وحضر عند الشيخ محمد نجيب سراج الدين (ت:1373هـ) في جامع بانقوسا.

- وعند الشيخ سعيد الإدلبي في الجامع الكبير.

- وعند الشيخ أحمد الشماع في جامع الحدادين دروسَهم العامة.

- وأجازه الشيخ أحمد التبر المغربي بقراءة "الحلية" في "الصفة" من المسجد النبوي.

قال الشيخ: وحفظتُ سبعة متون، كالآجرومية، وجوهرة التوحيد، وأكثر من نصف ألفية ابن مالك.

 

زواجه وأولاده:

تزوج الشيخ في السابعة عشرة من عمره، وله أربعة ذكور وبنتان، فأما الذكور فهم:

- محمد عبد المحسن (1350- 1416هـ).

عمل إماماً وخطيباً، وكان له درس محافظة في حلب.

- أحمد مهدي (1354- 1431هـ).

تخرج في الأزهر، وعمل مدرسًا في الرياض.

-محمد منير (1357-1411هـ).

تخرج في المدرسة الشعبانية، وعمل مدرساً في المدينة المنورة وكان في سنة 1403هـ يتابع دراسته العليا في مصر.

- محمد سعد الدين. وهو يعمل عملاً حراً.

وكلهم حفظة لكتاب الله.

وإحدى ابنتيه وهبت نفسها للتعليم، فتخرَّج بها خمسون معلمة، يُعلمن القرآن والتربية الإسلامية.

 

وظائفه:

درَّس الشيخ في المدرسة الكلتاوية القرآن الكريم، من الصف الأول إلى الصف السادس حفظاً وترتيلاً، وشهد له الشيخ محمد النبهان بحسن طريقته في التدريس وتفرده فيها.

وأمَّ الناس في جامع المدرسة المذكورة وغيره سنين طويلة.

كما خطب فيه وفي غيره من الجوامع: كجامع المغاير، والترمذي، والشعبانية.

قال الشيخ: وخطبي دينية بحتة، آتي فيها بالآيات المتعلقة بالموضوع كلها، وقد ساعدني حفظي للقرآن على ذلك.

مذهبه وفتاواه ومكتبته:

الشيخ حنفي المذهب، وعليه عبادته ومعاملاته وفتاواه.

وقال: في المذهب الحنفي أحكامٌ فرعيَّة لا توجد في غيره، لأنه حكم في أكثر من دولة.

ومكتبته عامرة، قال عنها: "وغالبها من الكتب المهمة".

وقد طلب منه ناشرون:  "السيرة الحلبية"، و "الفتاوى الحامدية" لابن عابدين، و "حاشية الصاوي على الجلالين"، و "المنن" للشعراني، ليصوروها في بيروت، فقدَّمها لهم راضياً.

 

سلوكه:

للشيخ عدة شيوخ في السلوك:

- الشيخ سعيد قريط، وأخذ عنه الطريقة الرفاعية.

- الشيخ محمد أبو النصر خلف النقشبندي، وأخذ عنه الطريقة النقشبندية.

- الشيخ محمد أبو العباس الدندراوي، وأخذ عنه الطريقة الرشيدية.

وهو أخذها عن والده  محمد عن إبراهيم الرشيدي عن أحمد الإدريسي عن عبد الوهاب التازي عن عبد العزيز الدباغ.

والشيخ معجب بأحزاب الإدريسي كثيراً.

- الشيخ محمد بن أحمد النبهان، وقد صحبه أربعين سنة.

وفي صحبتي للشيخ لم أره مشتغلا بغير القرآن ومدارسة العلم ومذاكرته وتعليمه.

 

 

نبذة من أقواله:

حضرتُ كثيرا من مجالس الشيخ، وكنت أكتب ما يدور فيها، وهذه نبذة من ذلك:

- أحب الإنصاف كثيراً.

- قل مَنْ يثبت على العلم والمطالعة كما ثبتني الله عز وجل.

- العاقلُ لا يستصغر أحداً، ولا يتكلم بكلام يُنتقد عليه.

- إذا أردتَ أنْ تتكلم عن إنسان أو عليه فتخيلْ دخوله عليك وأنتَ في حديثك، ثم تكلم.

- الغربُ عدو لدود، ومن جمله مكر الغربيين أنه كان لهم بين صفوف المسلمين أنفسهم عملاء يعملون لهم.

 وإني لأعرف كيف كان هؤلاء العملاء يتجولون في أزقة مدينة حلب، ويسألون الناس عما لديهم من الكتب المخطوطة، فكانت النساء والصبيان يخرجون لهم ما عندهم غروراً بالثمن.

 ثم يأخذون هذه الكتب النفيسة ويسافرون بها إلى أوربا.

 لذلك كان من الواجب على كل عالم أن يجعل أحد أبنائه في طلب العلم كي يخلفه في كتبه ووظيفته ومكانه وإرشاده.

- الإزعاج يُذهب الموهبة.

- اليهود لا قوة لهم، ولكن أخذوا قوتهم من ضعفنا.

- وعيت على كمال أتاتورك وقد قتل ست مئة عالم.

- إني لأعجب من بعض العلماء: يوماً ناصري، ويوماً وطني... أهكذا شأن العلماء!

- الإدارة أهم من الشهادة.

- ليكن معكم أينما خرجتم حقيبة تضعون فيها بعض الرسائل المفيدة، وورقاً وقلماً.. هكذا كان الشيخ عبد الحكيم الأفغاني لما زار حلب، ولم ينقطع عن التأليف في الغرفة التي نزل فيها في المدرسة العثمانية.

- على الإنسان إذا بدأ بعمل أن يكمله مهما كان.

- جار الشيخ راغب الطباخ على الشيخ أبي الهدى الصيادي.

- انتبهوا لما يدخل على المسلمين... إن إطلاق كلمة (الحجي) على الخدم في المدارس (الآذنين) دس ومكر غربي.

- وإن المثل القائل: (إذا شفتْ أعمى طبّه مالكْ أكرمْ مِنْ ربُّه) مخالفٌ للشريعة.

 

قوته وقوة ذاكرته:

     كان  الشيخ ممتعاً بقوة عزمه ونشاطه، وقال مرة: إني لم أقصر عما كنت عليه أيام الشباب – يعني في العبادة-.

     وذاكرتُهُ حية قال – وعمره 76 سنة-: ما تزال الأحكام بين عيني إلى الآن. إن ذاكرتي الآن أقوى مما كانت عليه قبل عشرين سنة.

     والشيخ يَروي دائماً ما وقع له وما رأى في حياته، وقد قابلتُ حكاية كتبتُها عنه بما ذكره بعد سنة أو أكثر فلم تختلف ولا بحرف.

     وعندما تسمعُه وهو يحكي ذكرياته من عشر سنين وعشرين وأكثر تظن أنه عاشها قبل أيام.

 

أسفاره:

حج الشيخ خمس حجات من حلب، وثلاث حجات من العراق (هذا سنة 1403هـ).

     وكانت أول حجة له سنة 1351هـ، وللشيخ عن ذلك ذكريات طريفة يرويها في مجالسه، فتخال كأنَّ الزمن رجع بك إلى الوراء نصف قرن لترى الجِمال بين مكة والمدينة وهي تحمل الحجيج، والحادي يحدو بها فتطير مسرعة، وتطير معها القلوب إلى المدينة.

     وزار العراق ثلاث مرات، أولاها عام 1962م، وثالثها عام 1980 م وفي هذه المرة أقام الشيخ فيه إذ خرج بنية الهجرة.

 ولم يقدر له العودة إلى حلب إلى حين وفاته.

 

الشيخ في العراق:

     رأيت في أوراق شيخنا الشيخ جمال بن شاكر التكريتي الإمام والخطيب في جامع الفلوجة الكبير رسالةً من الشيخ إليه يذكر له فيها أنه سيهاجر إلى الفلوجة..وقد تحقق ذلك، وهاجر الشيخ إليها وأقام فيها، وهو الآن (سنة 1403هـ) يؤم الناس في الجامع الكبير حسبة لله، وعُيِّن باستثناء من القصر واعظاً فيه - في الجامع المذكور-                     

     وله كل يوم بعد العصر حلقة قرآن، يحضرها طلبة العلم، فيدرسهم القرآن حفظاً وتجويداً. وهذا دأبه دائماً.

     وللناس فيه اعتقادٌ طيبٌ لما يرون من نصحه وإخلاصه، وقد مدحه الحاج عايش بن جروان الكبيسي بقصيدة، وسمّى أحد أولاده باسمه.

وقد أخذ عنه عددٌ من شيوخ المدينة فضلاً عن الطلبة، وانتفعوا به.

 

الشيخ والوطن:

     الإنسان مجبولٌ على حب الوطن، والحنين إليه، فلا غرو إذن أن نرى الشيخ إذا ذكر (حلباً) اغرورقت عيناه، ويقول لمن يذكرها: لقد هيجت ما كان ساكنا.

وهو دائماً يذكرها ويحكي ذكرياته فيها، ويتفاءل بالرجوع إليها في يومٍ ما.

 

الشيخ وشيوخه:

     يستطيع مجالِس الشيخ أن يتبين وفاءه لشيوخه من أول وهلة، فهو كثيراً ما يذكرهم ويترجم عليهم، ويروي عنهم، وهذه شذرات من أقواله في ذلك:

     1- (كان الشيخ نجيب سراج الدين آية من آيات الله، يبقى في البحث ستة أشهر، يورد كل ما يتعلق بالبحث، وشُبَه المخالفين وأدلتهم وما إلى ذلك. ثم يقول: أقول وبالله التوفيق. ويبدأ فتسمع منه العجائب.

     وقد حجَّ الشيخ سنة 1346 أو 1347[2] فودعته الحكومة بـ "المزيكة"، ولما رجع ذهبنا نسلِّم عليه، فرأيته يحمل في يده سبحة ويذكر الله لا يفتر عن ذلك. وروى لنا أنه اجتمع بشيخ الإسلام في مكة فقال شيخ الإسلام : وردنا أنه هناك مَنْ يقول: إذا وصل الرجل إلى الله انقطع عنه التكليف!

     قال: فأجبته وقلت: إذا جاء هذا الكلام عن جاهل فهو مردود عليه، وإذا جاء عن عالم فمعناه أنه سقطتْ عنه الكُلفةُ في العبادة، حتى صارت كطبع له. فقال شيخ الإسلام: لم يجبني أحد بهذا الجواب حتى شيخ الأزهر.

     كان الشيخ نجيب شخصية كبيرة، محافظاً على مكانته في المجتمع، لم يغره طنين الوطنية).

     2- (كان الشيخ عناية الله البخاري يحفظ خمسة عشر متناً.. وكان رجلاً صالحاً.. يأتيني إلى الكلتاوية، فنجلس بعد العشاء نتذاكر العلم.

ولما احتُضِر في المدينة المنورة أوصى أَنْ يصلي عليه رجل معين.

     فما دخلت جنازته إلى الحرم حتى حضر ذلك الرجل، وصلى عليه، ودفن في البقيع مع أمه وأبيه).

     3- (كان الشيخ محمد الناشد علامة حلب، ويسمونه "الزمخشري" لطول باعه وقوته بالعلم. وقرأت عليه في جامع الحدادين حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح. وكان الشيخ مصطفى الزرقا الكبير يفضل حاشيته على الدر على حاشية ابن عابدين.

وقرأت عليه – الناشد- شرح الرحبية في "العثمانية").

     4- (قرأت على الشيخ أحمد الكردي، وكانت مدة الدرس ساعة، وموعده بعد الشمس بساعة ونصف. وكنت أحضِّر للدرس ثلاث ساعات مع الشيخ عبد الله الريحاوي. وكنت أسمع من الشيخ أنه يحضِّر له ثلاث ساعات، وكان يأتي بـ "الدر المختار" فقط.

     وأذكر من التزام الشيخ أن نائبه في التدريس تأخر مرة، فلم يقبله.

    وغبت مرة فسألني الشيخ: أين كنت في الأمس؟ فامتلأت طرباً وقلت في نفسي: الشيخ يسأل عني ويذكرني. لك الحمد يا رب.

     الشيخ أحمد الكردي آية من آيات الله في كل العلوم، لا في الفقه فقط. كان شخصية كبيرة، يخرج من بيته كل يوم صباحاً كالأسد الكاسر في يده عصا حتى يأتي غرفة الإفتاء في جامع العثمانية، فلا يخرج إلى المغرب.

ومن كلامه: أنا أموت وأنتم لا تدرون، عندي علوم لا يسألني عنها أحد.

ومات قبل أن نكمل قراءة الحاشية. ودفن في مقبرة الشيخ سعود في قاضي عسكر).

     5- (كان للشيخ أحمد الشماع ستة دروس في الأسبوع في جامع الحدادين، وكان يأتي فيها بالعجب، لا يتخلف عن درس منها).

     6- (قرأت مرة في مجلس الشيخ أحمد حامد أبو تيج، فأُعجب أحدُ الحاضرين بقراءتي، وسأل عني. فقال له الشيخُ رحمه الله: هذا أنا أرعاه).

    7- (كنت أرى الشيخ محمد بايزيد يسجدُ كثيراً فسألته، فقال: إني أختم في كل يوم ختمتين).

     8- (كان لرمضان قبلُ رونقٌ خاص. فمثلاً كان بعض الأثرياء يدعو كل يوم شيخي الشيخ محمد سعيسع مع جماعة من الحفاظ والناس فيفطرون عنده، ويصلون التراويح، ويقرأون عشرة أجزاء من القرآن، ثم يستمعون إلى درس وعظ، وينصرفون آخر الليل وهكذا...).

وصاياه لطلاب العلم:

- عليكم بكتاب "حياة الحيوان" للدميري فإنه مهم جداً ومفيد.

- عليكم بشرح القسطلاني على صحيح البخاري، وميزته أنه لا يحيل على ما مرَّ في الحديث المكرر، بل يشرحه كل مره، وكنت أنا ومجموعة من الصالحين نجتمع ونقرأ فيه، وبجانبنا "القاموس" نرجع إليه في كل كلمة غريبة.

- عليكم بـ "مقالات الكوثري"، و "الشقائق النعمانية"، و "كشف الظنون"، وهو كتاب فريد.

- استغلوا العلم ولا سيما القرآن، فسيأتيكم وقتٌ لا تفرغون فيه لحك رؤوسكم.

 

شهادة:

     قلت: كتبت سنة 1403 في آخر هذه الترجمة: "عرفت الشيخ منذ ثلاث سنين، فلم أره إلا مستقيماً مواظباً على العلم والتعليم، يفتي الناس وينصحهم، محباً للخير، كارهاً للشر، وهو رقيق القلب، يتبلج وجهه نوراً، متواضع من غير ذلة، يؤثر السلامة، ويدعو الله دائماً أن يكشف عن الأمة الآلام والمحن والفتن.

     لم أسمعه طعن في أحد مطلقاً، ولا ذكر أحداً بسوء، صافي الصدر، طاهر النفس، لين المعاملة، سهل العريكة، يجيب على نقاش السائل بهدوء واتزان، وما رأيته إلا تالياً لكتاب الله، أو ناظراً في كتاب، أو مجيباً على سؤال، أو معلماً لطالب. أطال الله عمره ونفع به"[3].

وفاته:

كان الشيخ يتردد من الفلوجة على المدينة المنورة إلى أن استقرَّ فيها عام 1989م، وكانت وفاته فيها في 1413هـ-1992م، ودُفن في البقيع، رحمه الله رحمة واسعة.

 

 

 


(1) كتبت هذه الترجمة سنة 1403هـ - 1983م، وهي مستقاة منه رحمه الله، ومما رأيته وسمعته منه.

(2) قال المترجم: كان الجد إذا قيل له: أنت منسوب. يقول: السيدة فاطمة تعرف أولادها. والمنسوب الذي يشفع بأهل سوقه.

قال المترجم: ولدينا شجرة نسب وطريقة في آن واحد.

[1] قال المترجم: أدركت عم والدتي السيد محمودا وقد دفن في جامع شرف في الجديدة، وكانت هذه العائلة تدفن هناك.

[2]  ذكر فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين في كتابه عن والده "حول ترجمة المرحوم الإمام... محمد نجيب سراج الدين" ص222 أنه حج ثلاث مرات. ولم يذكر التواريخ.

[3] ولدي أخبار أخرى عن الشيخ لعلي أفرغ لإخراجها بعون الله .