الشيخ محمود جنيد - الولي الصالح الفقيه المفتي
الشيخ محمود جنيد رحمه الله تعالى

 

1321ـ 1414

 

بقلم: ممدوح بن محمد جنيد

ولادته ونشأته:

ولد رحمه الله تعالى عام 1321 تقريباً، نشأ يتيماً في بيت عُرف بالزهد والورع. والده وجده رحمهما الله تعالى عُرفا بالتواضع والسيره الحسنة، وبعد سفر والده الشيخ جنيد إلى روسيا للجهاد تربَّى في حجر والدته رحمها الله تعالى مع أخويه الكبير محمد، والصغير أحمد، فهو أوسط أولاد جنيد.

مرضه وإصابته بالشلل وعناية أمه به:

قدَّر الله عزَّ وجل أنْ مرض محمود الطفل بمرض عضال وأصيب بشلل نصفي تقريباً، فصارت والدته تخدمه وهو على سرير المرض لا يستطيع الذهاب إلى قضاء الحاجة، ولازم سرير المرض عدَّة سنوات، والأم الحنون، تحاول جاهدة أن ترى ولدها معافى، فما تركت دواء إلا وجربته، ولا شيخاً إلا وطلبت منه أن يرقيه حتى إنَّ صُويحباتها قُلن لها مرة: خذيه إلى كنيسة أم الزنار في قصر الشيخ، وهناك البُتْرك [ البطريرك] يقرأ، عليه فكثير من الأولاد عافاهم الله بسببه، وعاطفة الأم لا تعرف حدوداً، والغريق يتعلق بحبال العرمط.

حمله إلى الكنيسة وموت البطريرك في هذا اليوم:

فحملت ولدها وهو في ذلك اليوم ابن اثني عشرة سنة تقريباً، وخرجت من بيتها وهو لا يعرف إلى أين المسير. مرَّت بصليبة العصياتي، ثم بالورشة، ثم بجامع السراج، حيث حي قصر الشيخ وأغلبية سكانه من النصارى، وصارت الكنيسة قريبة، وإذا بالناس عند جامع السراج يركضون باتجاه الكنيسة مرعوبين مذعورين، الجميع خارج من بيته منهم الحفاة، ومنهم بثياب النوم، حتى كادوا من كثرتهم وهياجهم أن يوقعوها مع ولدها، حتى التجأت إلى باب مسجد السراج، وهي لا تعلم ما الذي حصل: تسأل هذا فلا يسمعها، والآخر لا يجيبها، وهذه لا تلفت إليها حتى جاءها جواب القصة:[ الآن مات البترك] فعرفت أن الأمر صدق، فعادت أدراجها لم تر البترك، ولم يقرأ على ولدها ولم تدخل الكنيسة.

حفظ الله سبحانه للشيخ في صغره:

ولما عرف الشيخ محمود ـ وقد عُرف بالشيخ منذ صغره ـ لما عرف الأمر قال: الحمد لله أن البترك مات، والحمد لله أنه لم يمدَّ يده على رأسي، ولو رقاني وتعافيت بعدها بتقدير الله لكانت فتنة لي وللناس .

عادت الأم إلى بيتها تعبةً مُجْهَدةً، فوضعت ولدها على السرير، وسألت الله عزَّ وجل له الشفاء.

شقيقه الأكبر شيخه الأول:

في هذه الأثناء كان الوالد رحمه الله هو الأخ الأكبر يتعلم في الكتّاب ، ثم عند الشيخ محمد الياسين عبد السلام رحمه الله، والذي يتعلمه يأتي به إلى أخيه فيعلمه وهو على سريره.

فكان الوالد شيخه الأول رحمهم الله جميعاً، وحفظ القرآن الكريم صغيراً، وكان يعرف فيه الذكاء والحفظ كما عرف عنه صوته الرخيم الذي كان يسمع منه أثناء تلاوة القرآن الكريم أو إنشاء بعض القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

شفاؤه:

وبعد هذه المدة خطر على بال والدته أن تأخذ ولدها إلى مسجد الأسرة [ مسجد الشيخ مسعود] ففرشت له فراشاً عند مقام الشيخ مسعود، وصارت تأتيه بالطعام وتخدمه وتتركه ليلاً، ينام والولد عاجز ومشلول ينشد القصائد والمدائح، وأهم من هذا كله يتلو كتاب الله عزَّ وجل، وذات ليلة وبعد أن قرأ البردة وتوسلية الشيخ أمين الجندي التي مطلعها:

توسَّلت بالمختار أرجى الوسائل= نبي لمثلي خير كافٍ وكافلِ

إذا به يشعر أنَّ الحياة والحركة بدأت تدبُّ وتعود لنصفه العليل، وإذا به يشعر أنَّ عنده قدرة على الحركة، وكان الوقت قريب الفجر والمؤذنون عندنا يصعدون المآذن قبل الفجر يُسبِّحون الله عزَّ وجل ثم يؤذِّنون.

صوت الشيخ محمود من المئذنة:

فلما وجد قدرة على الحركة، تحرَّك نحو المئذنة القصيرة، واستطاع أن يصل إلى مكان المؤذن، وصار يُسبِّح الله بصوته الرخيم، والبيت قريبٌ من المسجد، والوالدة الأرملة، فيه وإذا بها تسمع صوت محمود، معقول أن يكون صوته؟ أصغت مرةً أخرى تأكدت من الصوت، الصوت صوت ولدها محمود، ولكن أنّى له أن يصعد المئذنة، لبست وخرجت لتتأكَّد من الأمر، فعرفت أنه ولدها، وبقدرة من الله عزَّ وجل بدأ يتعافى وملك شيئاً من القدرة على الحركة، فسالت دموعها فرحاً، وشكرت ربَّها عزَّ وجل، ثم سألته فقصَّ عليها خبر تلك الليلة، لذلك خصَّصت رحمها الله تعالى شيئاً من وقتها تقمُّ فيه المسجد وتخدمه بدل زوجها الشيخ جنيد الذي يعتبر هذا المسجد مسجد الأسرة قبل أن يكون مسجد الحي. وصار لهذه القصة ذيوعٌ بين الناس فمنهم المقل فيها ومنهم المكثر.

وبدأ الشيخ رحمه الله يمشي ويتحرك، ولكن بقي نصفه الأيمن على ضعف يحسُّ به كلُّ من يصافح تلك الكف التي تبدو كالحرير وكأنه لا عظام فيها.

حرصه على مجالس رجال التربية والتزكية:

وصار الشيخ يتردَّد على مشايخ الحي ومشايخ البلدة، وقد توجَّه بداية للمشايخ الذين هم من رجال التربية الروحية، وقصد زوايا الجميع تقريباً ، وحصل على أوراد الطرق كلها تقريباً، لكنه عُرف بأنه نقشبندي ينتسب للشيخ سليم خلف وللشيخ أبي النصر رحمهم الله جميعاً. ولم ينس أن يعطي الجانب الفقهي حقه.

عناية الشيخ بالفقه والسلوك:

حصل الشيخ رحمه الله على كثير من العلوم، إلا أنَّ الذي يسمع دروسه يجد أن الشيخ يركز على أمرين هامين: الفقه والسلوك، والفقه بمذاهبه الأربعة، له الحظ الكبير في جميع دروسه و فتاويه ومجالسه، وكانت عنده براعة في تطعيم الدرس الفقهي بحكايات الصَّالحين والزهَّاد والورعين والأولياء رحمهم الله تعالى ، حتى إنه إذا كان يتكلم في الطهارة أو الوضوء، أو الاغتسال يأتي بحكايات الصَّالحين مما يُعطي لدرسه روحانيَّة خاصَّة قلَّ أن توجد أثناء تقرير مثل هذه الدروس.

ولا يحضرني الآن أسماء الذين قرأ عليهم إلا أنه كان له نصيب وافر من كل عالم موجود في حمص أثناء فترة طلبه للعلم.

نشره للعلم:

كان محباً لنشر العلم منذ أن شعر أن عنده قدرة على تدريس غيره، وقد بدأ مبكراً في تدريس القرآن الكريم، والعربية والفقه، وعلوم الآلات. وقد دلَّني على هذا أكثر الذين قالوا لي: إنَّ عمك درسنا في المسجد، وهم أكبر منه سناً بكثير، وكان الكثير من رجالات حمص ومثقفيها وشعرائها يقولون: إن الشيخ له فضل علينا، وكنت أعجب لناحية، وهي أن الطلاب أكبر سناً من أستاذهم حتى إن بعضهم نشأ نشأة غير إسلامية، لكنه كان يكنُّ لأستاذه الشيخ محمود كلَّ حب وتقدير، والمهم أن الجميع يعلم أنَّ هذا الشيخ ما كان يترك دقيقة تمرُّ إلا ويتكلم فيها عن مسائل الفقه أو حكايات الصالحين.

مشاركاته الاجتماعية:

إذا كان محراب جامع الدالاتي، (الحميديه)، لم يترك لأخيه الشيخ محمد فرصة يحضر فيها مولداً أو عرساً أو عقود زواج فإنَّ حبَّ الشيخ محمود للعلم والفقه ونشره بين الناس دعاه إلى حضور هذه المجالس حتى يفيد الآخرين.

فكان يعودُ المرضى ويشهد الجنائز، ويشارك الناس في أفراحهم، ولو أدّاه هذا إلى السهر الطويل حتى إنه كان له دروس بعد العشاء مع مشيخته في البيوت، ثم لما صار شيخاً صار يدير هذه الدروس، وبسبب ايجابيته في الأمور الاجتماعية صارت له محبَّه عظيمة في قلوب الكثيرين.

العلم في حياة الشيخ رحمه الله:

إن الذي يعرف الشيخ صغيراً وكبيراً يقول: إن هذا الرجل لم يضيع لحظة من حياته إلا متعلِّماً أو معلِّماً،وحبُّ العلم سجيَّة فُطر عليه، خالط حبُّ العلم لحمه وعظمه كما خالط حبُّ الصالحين شَغَاف قلبه، وإذا ذكرت عن دروسه شيئاً فإني أذكر القليل.

خلافاً للتعليم الفردي لكلِّ طالب على حدة وهو كثير في حياة الشيخ، وخلافاً للتعليم في كتَّاب فتحه قرب مسجد الشيخ مسعود فإني أذكر دروسه العامة، وهي:

1ـ درس المسجد الكبير: بعد صلاة الفجر من كل يوم إلا يوم الجمعة، يصلي الفجر في مسجد الشيخ مسعود، ويمشي على قدميه على ضعف إلى المسجد الكبير صيفاً وشتاءً. وما أقسى شتاء حمص، فكان يصل إلى المسجد الكبير بعد صلاة السادة الحنفيَّة، فهو يصلي بغَلَس بعد الأذان مباشرة على مذهب السادة الشافعية، ويخرج من المسجد بعد الورد الماثور، ثم يدخل البيت لبضع دقائق، ويخرج ومعه السلة الذي سيحمل فيه قوت الأسرة وغذاءها وحوائجها، وكانت عنده [ ياسمينه] يقطف منها وقت تفتحها ويضعه في القرطل ويوزِّعه على أهل الدرس الذي هو درس شبه خاص يبدؤه بعد السلام من صلاة فجر السادة الحنفيَّة،فدرس السادة الحنفيَّة بعد الفجر في المحراب الشرقي، ودرس السادة الشافعية معه على السُدَّة الصغيرة مقابل المحراب، والعدد ليس كبيراً.

قرأ في هذا الدرس في المسجد الكبير القسطلاني على البخاري، وقرأ فيه الفقه الشافعي من عدَّة كتب. ينتهي هذا الدرس بعد طلوع الشمس فيصلي هو ومن معه الضحى، ويذهب كلٌّ إلى عمله.

وفي هذا الوقت يكون السادة الحنفيَّة مع شيخهم الشيخ عبد القادر الخجة رحمه الله جميعاً، يكونون جميعاً وقد خرجوا من درس[ الحاشية لابن عابدين] في الفقه الحنفي.

2ـ درس الشيخ كامل:مسجد الشيخ كامل مسجد صغير في حي معروف في حمص، للشيخ فيه وظيفة الإمامة التي كان لا يأخذ راتبها، إمامة المغرب والعشاء، وبعد صلاة المغرب وبعد الورد وقراءة سورة الواقعة يبدأ الشيخ درسه الذي استمرَّ عشرات السنوات بدون انقطاع، فما أن ينتهي الورد حتى تبدأ وجوه من غير أهل الحي تفد إلى الدرس كلها من الشباب، كل واحد معه كتابه، وقد قرأ الشيخ رحمه الله في هذا الوقت المبارك عدة كتب، ومنها ما أعاده أكثر من مرة في الفقه والحديث الشريف وغير ذلك.

وكان هذا الدرس للطلاب الذين يحضرون من شتى أنحاء المدينة، يخالطهم أبناء الحي الكبار في السن، وكان دوام روَّاد هذا الدرس من الطلبة منتظماً كدوامهم أكثر من دوامهم في مدارسهم ووظائفهم، وإن الذي حافظ على هذا الدرس منهم استفاد كثيراًُ، وصارت عنده ذخيرة فقهيَّة واسعة.

وبعد صلاة العشاء يقرؤون سورة تبارك وأوراد صلاة العشاء ويخرجون، فإذا خرجوا ظننت أن جامعة انتهى دوامها فخرج طلبتها منها.

3ـ معهد الخطابة: في أعوام الستينات لحظ الشيخ رحمه الله أن أزمة تحدث عند سفر المشايخ إلى الحج، فليس هناك عدد كاف من الخطباء ينوب عن المسافرين للديار المقدسة، ولا من ينوب عنهم في الإمامة، والخطابة تحتاج إلى جرأة نوعاً ما، فخطر على بال الشيخ أن يسدَّ هذا الفراغ الذي يحصل، فخصَّص ساعة بعد صلاة العشاء من يوم الأربعاء. في مسجد الشيخ كامل يُكلِّف فيها بعض الطلبة وهم صغار بتحضير موضوع أو شرح حديث أو تفسير آية على المذياع وأمام الحضور، فاستطاع أن يكسر حاجز الرهبة من صعود المنبر والخطبة في الناس، فتعوَّد الطلبة الصغار على التحدُّث والخطابة، والشيخ يشجعهم ويكلِّف كبار طلبته من يحضِّر لهم الموضوع، ويصحِّح لهم الأخطاء فما هي إلا برهة وإذا بهؤلاء الطلبة يسدُّون الفراغ الناشىء من مرض شيخ خطيب أوسفره، وأكثر من هذا صار هؤلاء الطلبة يخرجون إلى القرى يوم الجمعة يتوزعون مساجد القرى التي لا خطيب فيها، فانتشر الوعي والعلم، وفتحت مساجد للجمعة كانت مقفله لعدم وجود من يخطب ويؤم.

ساعة في الأسبوع حلَّت مشكلة كبيرة في المدينة، وإني أعلم أن معهد الخطابة الذي فتح في بعض البلدان، وأنفقت عليه عشرات الملايين سنوياً لم يقم بمثل ما قام به الشيخ في هذه الساعة من يوم الأربعاء، إنه الإخلاص. فالشيخ لم يكن موظفاً يتقاضى راتباً، فالموظفون شيء وأصحاب المبادئ شيء آخر، وإن المبادئ تراجعت لما صار ممثلوها موظفين فشتَّان بين من يعمل لأجرة وبين من يعمل لأجر لا يفنى .

4ـ درس رمضان: للشيخ في رمضان المبارك درس بعد الفجر بنفس موعد درس الشافعية، لكنه يصبح في رمضان درساً عاماً تناسبُ دروسه هذا الشهر الكريم من فقه صيام وقيام وزكاة وزكاة فطر وتربية روحية، وكان هذا الدرس عامراً بمئات الحاضرين، وبعد كل درس تجد الناس يجتمعون حول الشيخ ليسأل كل واحد سؤالاً خاصاً به، والشيخ صابر متحمِّل لا يشكو تعباً ولا نعاساً ولا يتعذَّر بشغل أو عمل، ووقت الأسئلة أحياناً يزيد على وقت الدرس، وكثيراً ما يكون واقفاً ، والجميع يعلم أنَّ همَّة الشيخ أقوى من جسمه الضعيف النحيل، بمئات المرات.

5ـ درس مسجد خالد بن الوليد: بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع في مسجد خالد بن الوليد رضي الله عنه يبدأ الشيخ درساً يستمر إلى قريب العصر أحياناً في أيام فصل الشتاء حيث الجمع كبير، وهو درس عام يحضره كثير من الزائرين من غير أهل البلد، ومن أهل البلد يبدأ بعشر من القرآن الكريم، ولم ينقطع الشيخ عن هذا الدرس إلى وقت مرض وفاته.

وغالباً ما يكون هذا الدرس في أحاديث الأحكام، والشيخ جمع الفقه على المذاهب الأربعة، فيعطي الفقه الموجَّه بحكايات الصَّالحين والتربيه الروحية لقمة سائغة للعالم والطالب والمبتدئ.

6ـ درس في مسجد الشيخ مسعود: لم ينسَ الشيخ حيَّه وأهله وجيرانه، ولهذا المسجد تاريخ مع والد الشيخ وأسرته ومعه شخصياً، فخصَّص ساعة بعد الفجر يوم الجمعة حيث ليس عنده درس في المسجد الكبير ينشد فيه المنشدون بعض المدائح بعد قراءة سورة يس وشيئ من بردة البوصيري ثم الدرس، وكان هذا المسجد يضيق بالناس، فهو مسجد صغير والناس كثيرون، فكان الذي يتأخر لا يجد مكاناً إلا تحت السماء في صيفية المسجد، فيتحمَّل الناس البرد والحر في سبيل الله عزَّ وجل، وكان هذا الدرس متميِّزاً بحضور الأطفال مع آبائهم وأوليائهم، ومهما شئت فقل عن فرح الشيخ بالصغار عندما يراهم في المساجد، وخصوصاً في الدروس يداعبهم ويتحبَّب إليهم، ويدخل عليهم السرور بشيء من الحلوى يوزِّعها عليهم بعد هذا الدرس.

7ـ الشيخ محمود في جمعية العلماء:كان رحمه الله تعالى عضواً فاعلاً في جمعية العلماء التي كانت تقوم بنشر العلم عبر معهدها العلمي الشرعي في مسجد خالد ابن الوليد، وعبر الرحلات التي تقوم بها الجمعية للقرى التابعة للمحافظة وعبر الحفلات الأسبوعية التي تقيمها مساء كل إثنين من كل أسبوع عدا رمضان ، وأشهر الحج، تقيمها كل أسبوع في مسجد من مساجد حمص حتى يأخذ كل حيٍّ نصيبه من توجيه العلماء، وحتى تأخذ كل قريه حقها من دروس العلم، وكان للشيخ محاضرة ثابتة كل أسبوع، فالخطباء يتناوبون إلا أن الشيخ رحمه الله كان له محاضرة أسبوعية ثابتة، وهي تمثِّل ركن الفقه في هذه الأمسية، فالشيخ ليس ذلك الخطيب المصقع الذي يهزُّ أعواد المنابر، لكنه كان يهزُّ القلوب بروحانيته الراقية، وشهرا ربيع الأول والثاني كان العبء يزداد على الشيخ، حيث يحضر جميع حفلات المولد النبوي الشريف وما أكثرها وما أكثر فائدتها، حتى إنه ليحضر الاحتفالات الخاصَّة بالمولد في البيوت، وغالباً ما يتحدث فيها ويختمها بالدعاء غير المتكلف الممزوج بدموعه ودموع الحاضرين.

وجملة القول: أن الشيخ رحمه الله لا يتوانى عن أية مناسبة يستفيد الناس من وجوده فيها .

8ـ درس ليلي خاص: كان رحمه الله تعالى يحضر أثناء طلبه للعلم دروساً خاصة في البيوت، يشرف عليها بعض المشايخ كدرس الشيخ عبد القادر الخجة رحمه الله تعالى، وهذا الدرس يدور على البيوت، وبعد وفاة شيخ هذا الدرس رحمه الله تعالى استلم الشيخ محمود درس الأحد ليلة الاثنين أسبوعياً، وفيه الطالب والتاجر والغني والفقير، وكان لا يتأخر عن هذا الدرس وإن بَعُدَ المكان، وفي هذا الدرس يظهر أن الشيخ اجتماعي ودمث، ويبتسم للمزاح المشروع والنكتة المحبوبة.

والذي يعرفه الجميع أنَّ جميع جلسات الشيخ رحمه الله لا يمكن أن ينتقص فيها من قيمة إنسان أو قدره أياً كان هذا الإنسان، وقد قرَّأ الشيخ المشاركين في هذا الدرس كثيراً من كتب السادة الشافعية والحنفية، بل يصل به الأمر إلى أن يعيدها أحياناً.

الشيخ ربُّ أسرة:

كلُّ هذا العمل وهذا النشاط وهذه الدروس، والشيخ ربُّ أسرة مكوَّنة من أربعة عشر شخصاً، ربَّاهم على العفَّة والقناعة والزهد والورع، بيته بيت متواضع ضيق مساحته حوالي90م، غرفتان ومطبخ صغير.

جاءه مرة سائل يسأله عن حكم مسألة فقهيه ليلاً فلم يجد الشيخ عنده مكاناً ولا كرسياً يُجلسه عليه فطلب مني أن يجلس في دهليز بيتنا المتواضع على كرسي قش، والوقت الساعة الثانية ليلاً من ليالي الشتاء، وقد خجل هذا الرجل، وكان من مدينة حماة، والذي دعاه إلى المجيء في هذا الوقت أن عمه والد زوجته أبى إلا أن تكون الفتوى من الشيخ محمود جنيد في حمص، لما يعرف عن الشيخ من دقَّة وأمانة علمية، أقول: خجل هذا الرجل خجلاً عظيماً لأنه أتى في هذا الوقت وأيقظ الشيخ من النوم، فقال له الشيخ محمود: يا ابني لا تقلق ولا تخجل. إذا أصاب أحدكم مرضاً طارئاً في جسمه أما تذهبون إلى الطبيب ولو في منتصف الليل؟ قال : نعم، قال: ونحن العلماء أطباء فأولئك أطباء الأجسام والأبدان،ونحن أطباء القلوب والأديان، فما خرج الرجل إلا وقد ذهب عنه ما كان يجده من الحرج والضيق، بعد أن كَتَبْتُ له الفتوى التي أملاها عليَّ الشيخ ووقّعها.

تقريره للأحكام: كان كثيراً ما يُعيد العبارة والحكم مرات لتُفهم عنه، ويخاف أن تنقل عنه بشكل خاطئ، لأن الناس كثيراً ما ينقلون عن الشيخ الفكرة خطأ.

تيسيره على الناس: كان الشيخ في حقِّ نفسه زاهداً ورعاً متقشفاً، يأخذ نفسه وأهله وأولاده بعزائم الأمور، عوَّدهم على شظف العيش وخشونته، ولو أراد أن يأخذ من مال الأغنياء لأخذ الكثير الكثير، ولكنه كان يأبى عليهم إلا ن يتركوه يعيش بالحالة التي يحبها.

خاتمه في يده، خيط يفتله على خنصره، وزناره خيط من بالات الغزل التي كان يبيعها، وفي رجله حذاء بلاستيك لا تجد أرخص منه،هذا في حقِّ نفسه ـ أما في حقِّ الآخرين فهو يبحث لهم عن الأحكام الأيسر والأسهل، ويفرح عندما يجد لهم فتوى ميسَّره تُخرجهم من الحرج، وإن شئت فقل: إذا وجد حكماً يخرجهم من الإثم ولو على مذهب من المذاهب أو قول من الأقوال فيكون ذلك اليوم في عيد يرى البشر في وجهه، وكان يقول: خلِّ الناس يوافقون الشرع في مذهب أحسن من أن يتجرَّؤوا على دين الله، فيخالفونه عمداً فتسقط هيبة الشرع من نفوسهم.

جاءه مرة رجل قد جرح رأسه وهو يريد أن يغتسل من الجنابة، فارتبك الرجل ماذا يفعل، فجاء إلى الشيخ يسأله وقد اهتمَّ كثيراً لهذا الأمر فابتسم الشيخ وأجابه بسرعة: الأمر يسير ضع على راسك صحناً مقلوباً واغتسل، ثم امسح على الجبيرة التي في رأسك.

دكانه:

قلت: إن الشيخ لا يأخذ راتباً على كلِّ ما يقوم به من دروس خاصَّة أو عامَّة، وكان له دكان يبيع فيها حصة من الغزل يسيرة، ومن ربحها يعيش، ولكن الجميع ما كان يرى في الدكان غزلاً ولا تجارة لبساطة الحصة التي يشتريها ويبيعها. إذاً ماذا كانت هذه الدكان؟! فيها مقعد خشبي إنْ رميته في الشارع لا يأخذه أحد، يتَّسع لثلاثة، وكرسي قديم، وطاولة قديمه، والدكان صغيره، إن هذه الدكان كانت:

1ـ دار فتوى: فإذا اقتربت منها وجدت عنده بعض العلماء،وقد عرضت لهم مسألة فقهيه يستشيرونه فيها، وتجد آخرين ينتظرون حتى يذهب هؤلاء ليسأل كل واحد عن مسألة تهمُّه في دينه

2ـ الدكان مدرسة: ومع هؤلاء تجد ثلاثة طلاب أو أكثر جلسوا على تلك الخشبة يقرؤون كتاباً في الفقه أو النحو أو غير ذلك.

3ـ الدكان مستشفى: ومع هؤلاء تجد أناساً واقفين لأن بهم مرضاً أو وجعاً يريدون من الشيخ لو يرقيهم بآيات من كتاب الله عزَّ وجل فلطالما وجدوا لتلك اليد بركة، وأثراً في شفاء مرضاهم.

4ـ الدكان جمعية بر وخدمات:ومع هؤلاء تجد أناساً واقفين ينتظرون، فهم فقراء يحتاجون صدقة، ويعلمون أن الشيخ يكلَّف من البعض بتوزيع بعض الصدقات والزكوات أو الخبز أو الثياب فيجدون بغيتهم فيرجعون مجبوري الخاطر.

5ـ الدكان جمعية إصلاح ذات البين: ومع هؤلاء تجد أناساً متخاصمين تجارياً أو اجتماعاً أسرياً أو غير ذلك فيجلس الشيخ معهم إذا سمحت الفرصة ليصلح فيما بينهم، وكم حُلَّت مشكلات وفُضَّت نزاعات، وزالت خصومات في هذا الدكان بكلمة طيبة مع ابتسامة الشيخ الهادئة، وكثيراً ما كان يجتنب تحليفهم الأيمان فيحل الخصومات صلحاً، وإن الكثير يعلم أنَّ كثيراً من النصارى كان يأتيه ليفض نزاعهم التجاري مثلاً مع خصومهم مسلمين أو نصارى.

6ـ الدكان مركز استشارة:ومع هؤلاء كلهم تجد من يأتي ليسلِّم على الشيخ من خارج المدينة أم من داخلها ويطلب منه دعوة أو يستشيره في أمر خاصٍّ به، أو بأسرته ،والذي دفعهم إلى هذا أنهم وجدوا أثراً لرأيه السديد في مشكلاتهم الخاصة.

7ـ الأمر العام:وإذا حَصَل أمرٌ عام يستدعي اجتماع علماء البلدة في مثل هذه الأوقات التي يكثر فيها الناس، عندها يترك الجميع ويغلق دكانه، ويذهب< SPAN> إلى الاجتماع مع العلماء، ذلك لأن للأمور العامة عند الشيخ أهميتها الخاصة، فهو مع آلام الناس وآمالهم، وكل ما يهمهم، ويفرح كثيراً عندما يجد العلماء قد اجتمعت كلمتهم،وخرجوا برأي مُوحَّد،وكان قليل الكلام، وإذا تكلم في مثل هذه الجلسات فكلامه لتوفيق الآراء واجتماع الكلمة ونصرة الدين، فمثل هذه الاهتمامات مؤشِّر على أن الشيخ لا يعيش مع الكتب الصفراء وحدها،وإنما يعيش هذه الأمة، لحاضرها ومستقبلها وآخرتها،ودينها ودنياها .

ولاية الشيخ وكراماته: قد يظنُّ البعض أن هذه العبارة مفتاح لقصص عجيبة من طيران الشيخ في الهواء أو مشيه على الماء أو ذهابه بخطوة إلى الديار المقدسة أو غير ذلك لا ... سأذكر ما ذكره الشيخ نفسه عن ولايته وقطبيته وكراماته.

مرة جلس يوم الجمعة مع أهله وأولاده، وأنا بجواره سكناً، وبيننا جدار قصير يسمع بعضنا بعضاً، وكان قد عوَّد أهله وأولاده في الصيف والربيع على هذه الجلسة، وكان أولاده في سنٍّ يسمح بهذا السؤال للشيخ.

أبي [ الأولاد يقولون] وكأنهم اتفقوا على هذا السؤال، وهم يعلمون أن الشيخ يؤمن بالأولياء وكراماتهم، وفي كلِّ درس يحكي قصصهم، وهم يعلمون أن الشيخ تُقبَّل يده ويحبُّه الناس، ويعتبرونه ولياً وقطباً وغير ذلك.

[ أبي احكي لنا شيئاً من كراماتك نناشدك بالله، وألحُّوا عليه في هذا الطلب، فقال: أحكي لكم .قالوا: نعم. قال ثانية: أحكي لكم ، قالوا: نعم. قال ثالثة: أحكي لكم. قالوا: يا الله احكي لنا، فقال: سأحدثكم عن كرامة من أكبر الكرامات، فانتبهوا انتباهاً عظيماً، وأصبحوا كلهم مسامع حتى أنا وقفت لأسمع هذه الكرامة التي لا أعرفها. قال: يا أبنائي:

أعظم كرامة: صار لي ثلاثين سنة لم أنقطع عن درس الجامع الكبير بعد الفجر.

أعظم كرامة: صار لي عشرين سنة ما انقطعت عن درس جامع الشيخ كامل.

أعظم كرامة: صار لي كذا سنة وأنا في الدكان أفتي الناس وأعلمهم وأحلّ مشكلاتهم و....

أعظم كرامة: صلاة الفجر مع الجماعة في جامع الشيخ مسعود .

أعظم كرامة: قرأت كثيراً من الكتب في دروسي.. فانتبهوا إلى أن الشيخ يعتبر أن الاستقامة عين الكرامة، وأن حبه لأولياء الله وإيمانه بهم كرامة عظيمة هكذا...

عنايته بآخرته:

وكما كان يعتني بآخرة الناس يريد أن يخلِّصهم من مخالفة الشرع، ويلزمهم كلمة التقوى كان يعتني بآخرته عناية تفوق الوصف.

أوراده الرتيبة، تلاوته للقرآن الكريم، بعده عن الشبهة مالاً وفتوى، يرضى بالقليل إذا كان بعد الكثير سؤال وعذاب، بل يجوع ويعطش ولا يريد شبهة في كسب أو مال.

* ورعه وبعده عن الشبهات:كان الشيخ يحمل قرطله القصبي عائداً إلى بيته، والقرطل مليئ بالخضروات الصيفية لأسرة مكونة من خمسة عشر نفساً تقريباً، والوقت حر والساعة الثانية عشر ظهراً، والشيخ نصف جسم، بل أقل، ويكاد يقارب قرطله وزنه، والعرق يتصبَّب منه، مرَّ من قرب جامع أبي لبادة واتجه شرقاً وإذا بأبي شمسو رحمه الله [ عبد الفتاح الشيخ زين] رئيس جنائية حمص في سيارته الجبيب[ للدوله]، وقف ونزل وسلَّم على الشيخ، وطلب مه أن يُشرّفه بتوصيله إلى البيت، فاعتذر الشيخ وأبى وتعلَّل، ولم يفهم أبو شمسو اللغز، ومشى قليلاً ثم نزل مرة أخرى: يا شيخ محمود والله حرّ إركب أوصلك إلى البيت.... أجابه الشيخ:لا لا أبو شمسو، أنا مشغول قليلاً على الطريق ولم يفهم اللغز، وللمرة ثالثة نزل أبو شمسو: يا أبا معروف أرجوك أن تركب معي. عندها كان لابد أن يحل الإشكال.

فسأل الشيخ أبا شمسو: السيارة ملكك؟ قال: لا للدولة.

فقال له:البنزين مَنْ يدفع ثمنه؟.. أجاب: الدولة.

قال له: الإطارات من يدفع ثمنها؟ ... أجاب: الدولة.

قال الشيخ: إذن كيف تريد أن أرافقك وأنت لا تملكها ولا ... ولا حتى يصير عندك سيارة تملكها أركب معك، وظلَّ يتابع سيره الذي يأخذ من السوق إلى البيت أكثر من أربعين دقيقة في هذا اليوم الصائف الحار.

* قصة ثانية في ورعه:أعطته شركة المغازل حصته من الغزل بسعر رخيص، حيث إنّ السعر قد ارتفع فعاملوه ـ وظنوا أنهم فعلوا معه معروفاً ـ عاملوه بالسعر الرخيص، ولعبوا في الفاتورة، وسبّقوا تاريخها، وعلم الشيخ أن السعر ارتفع قبل شراء الحصة فلما جاء الموظف ليأخذ الثمن وجد الشيخ قد أعدَّ مبلغاً بناء على السعر الجديد الغالي، فقال له: الفاتورة أقل. قال الشيخ: أنا استلمت الغزل بتاريخ ارتفع فيه السعر.

يا سيدي: ماذا نعمل الآن الفاتورة صدرت؟ قال: لا أعلم دبّروا حالكم أنا لا آكل حراماً.

ظنوا أنهم أرادوا نفعه وإذا به يعتبر أنهم يريدون الإضرار بآخرته، وآخرتُه أغلى شيء يعده لنفسه.

ماذا يتحدَّث الإنسان عن ورع الشيخ ومواقفه واهتمامه بآخرته؟ قصص كثيرة ودروس وعبر { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه....} رجال حقيقة وعملاً وفكراً ونضجا ًوخلقاً...

وفوق هذا وبعد هذا كله: جميع الشرائح تحبُّ ذلك الشيخ، وهو يحبُّ الجميع، بيته في العيد مَجْمع للجميع، الكلُّ يعترف له بالفضل، وهويعترف للجميع بأنهم أهل فضل، أحبُّ شيء على قلبه الشباب المقبلون على ربهم علماً وعبادة وخلقاً وديناً، يعتبر كلَّ طالب علم ثروة لا تعدلها ثروة.

مكثه في حمص لقيامه بفريضة عينية:

إذا كان أخوه الشيخ محمد رحمه الله اعتنى بالحج والحجاج وخدمتهم والسهر عليهم خلال 45سنة متتالية فإن وظيفة الشيخ محمود لم تسمح له أن يترك البلد إلا حجتين أو ثلاثة، ولما اشتاق له أخوه الشيخ محمد أثناء جواره بالمدينة المنورة، وطلب منه أن يأتي حجاً أو عمرة، فكان الجواب من حمص للمدينة المنورة، الشيخ محمود يقول: أنا حجي وعمرتي وزيارتي في حمص، حيث قلَّ من يفتي أو يُدِّرس، وكأنَّ فرض الكفاية أصبح فرض عين عليه في تلك الفترة.

كثرة استفتاء الناس له: إنَّ المسافة بين بيته ودكانه تحتاج إلى 30دقيقة على قدر مشيته، ومن دكانه إلى مسجد الشيخ كامل 15دقيقة، ولكن هذه المدة تتضاعف عليه يومياً بسبب أن كثيراً من الناس الذين لهم سؤال عند الشيخ في أمر دينهم، أو لهم استشارة في أمور دنياهم ومعاشهم يترصَّدون الشيخ على الطريق. فطريقه واحدة لا يسير بغيرها خصوصاً وهم يعلمون أنَّ الدكان لا تسمح لهم بالانفراد بالشيخ لكثرة روَّادها وتنوُّع مقاصدهم، ويتحمَّل الشيخ في طريقه هؤلاء، خصوصاًَ وأنَّ الوقوف معهم قد يطول كثيراً فلا ترى منه إلا الابتسامة وفرحه بهذا الحال بسبب أنه يقف على حقيقة علاقة الناس بربِّهم وتقواهم له، وأنه ما زال الناس بخير ما داموا على علاقة طيبة بعلمائهم وبدينهم، وهكذا لم يترك له علمه وفضله سبيلاً للراحة فهو مستمرُّ الجهود في بيته وطريقه ومسجده ودكانه ونهاره وليله حتى ولو كانت الساعة الثانية ليلاً كما سبق ذكره.

أفقه العلمي:عدا العلوم الإسلامية المختص بها تجد أنه مواكب لعصره ولديه استعداد لقبول الجديد.

وأذكر أنه لما صعد[ أبولّو] المركبة الفضائية إلى القمر أول مرة، مررت بدكانه، فقال لي: اجلس، فجلست، قال لي : أنت تسمع للراديو، هل صحيح صعدوا إلى القمر؟ فقلت له: نعم، ثم تثبَّت مرة أخرى و هو يفكرِّ قال لي: يعني ليست إشاعة؟ قلت:لا إنها حقيقة. قال لي : يا ابن أخي ما عندنا نصوص تمنع ذلك، والأمر جائز، والأمر ممكن، والدين لا يمنع. 

كان يقول هذا الكلام في وقت صُدم كثيرٌ من العلماء بهذا الأمر واستنكروه، واعتبر بعضهم أن القول به كفر، فكيف يصعدون إلى السماء، وهكذا فكان الشيخ رحمه الله مواكب لعصره، وللكتب البيضاء مع الكتب الصفراء..؟

آراؤه واجتهاداته: ما كان رحمه الله يحب أن يظهر بمظهر المجتهد المرجِّح طالما أن جميع المسائل قُتلت بحثاً، فلماذا يقول: أرى وأرجح وأذهب وفي المسألة قول لبعض السابقين فليقل بمذهب فلان أو قول فلان من العلماء المعتبرين وذلك أحب إليه من أن يقول أو يقال رأي الشيخ كذا، أو يميل إلى كذا.

وما سمعته خرج عن هذه القاعدة إلا مرة واحدة، لا مانع من ذكرها. كان الشيخ يفتي بكفارة يمين الحرام الذي يقع من كثير من المتزوجين بالقمح، وليست بالقيمة كما هو رأي السادة الشافعية، وكان للقمح قيمة في البيوت، وفي العصر الحاضر لا يوجد من يطحنه ويخبزه ، وكثيرون الذين يقعون في يمين الحرام فما دام الشيخ أفتاهم فليأتوا بالقمح كفَّارة إلى دكانه. والفقراء حوله يوزعه عليهم، ولكن الكفارات كثيرة فالين يقع منهم هذا اليمين كثيرون، وكثرت الكفارات في دكانه. ودكانه فيها فئران وجرذان تدخل ليلاً من أسفل الباب خصوصاً وأنها وجدت الطعام قمحاً جيداً. فدخلتُ عليه فوجدته مهموماً. إنها أمانة والجرذان تأكل القمح، وهو مسؤول عن هذا النقص الذي يحصل فكيف يُعوِّض ما نقص؟ وكيف يتحملّ هذه المسؤولية؟ دخلت عليه، فقال لي : يا ابن أخي لا تقول عمَّك قال، لا تقول عمك يجتهد في الدين، ويعيد هذه الكلمة: أظن لو كان الإمام الشافعي اليوم موجوداً ورأى قلة استخدام الناس للقمح، وأنه لا يوجد أحد يعجن ويخبز لقال ـ الشافعي ـ وأفتى بجواز القيمة في هذه الكفارة، ثم عاد وقال: [لا تقول عمّك عمّا يجتهد].

أين هذا الشيخ من ألوف الناس الذين يقولون اليوم: أرى وأرجح، وهو على ضآلته في العلم كماً وكيفاً.

مرضه ووفاته رحمه الله :كانت آخر حياة الشيخ ابتلاء وامتحاناً وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وأصابته هموم عامَّة وخاصَّة كان لها أثرها على الشيخ ،واجتمعت هذه الهموم في جسم هو في شبابه ربع جسم، فكيف وهو ابن السبعين إلى التسعين تقريباً. فمرض عدَّة أمراض وتغيَّر وضعف، وظلَّ على الرغم من مرضه يتابع مهامه التي يستطيع متابعتها، ويتحمَّل فوق طاقته. نعم فوق طاقته بمرات، حتى وافاه الأجل في حمص عام 1414هـ الموافق 1993م.

جنازته المشهودة:

وما أن علمت حمص بالخبر إلا وخرجت من بيوتها، وكانت الساعة التي لا مفرَّ منها، وكانت الجنازة التي لا يتصور إنسان أن تكون بهذا الكم من المشيعين حتى النصارى شاركوا في التشييع، وكان يوماً حاراً خرجت حمص ـ وبدون مبالغة ـ عن بكرة أبيها بأولادها وبنسائها خرجت حمص التي يندر أن يكون واحد من أهلها إلا وللشيخ معه حكاية أو مسأله أو حاجة، خرجت حمص تعلن الوفاء لعالمها ولدينها وإسلامها، خرجت حمص التي تعتبر أنها مدينة لهذا الشيخ، وأن تشييعه يعني تسديد بعض ما للشيخ عليها من حقوق.

خرجت حمص لتبكي لا على الشيخ وإنما على زهده، وعلى تقواه، وعلى جهوده، وعلى علمه، وعلى اهتمامه، وعلى همته، وعلى حبه للناس. كلهم حتى العصاة منهم، تبكي وتسأل الله عزَّ وجل أن يعوِّضها خيراً، وأن يجعل في أولاده الخليفة، والحمد لله فإنَّ الخير لم ينقطع، فالشيخ سهل، والشيخ أحمد، والدكتور الشيخ عبد البر، والدكتور الشيخ محمد ضياء فيهم الخير الكثير إن شاء الله تعالى.

هذا ما سمح لي الوقت ، وسمحت به الذاكرة، وسمح به الظرف الذي نمرُّ فيه، وإلا فإن هناك كلام كثير عن حياة الشيخ، وإني أعتبر أنني ما وفَّيت الموضوع حقه، لأن حياة الشيخ أكبر من أن تحيط بها وريقات أو كلمات، وختاماً أسأل الله عزَّ وجل أن يرزق أمتنا النماذج القدوة التي تسير بها إلى مقام :{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *