بنان الطنطاوي في ذكراها الثالثة والثلاثين

بنان علي الطنطاوي: خالتي التي فقدتها

فقدتها في (السابع عشر من آذار) قبل ثلاث وثلاثين سنة، قتلوها قتلهم الله. اغتالها المجرمون الجبناء كما اغتالوا الوطن كله بما فيه ومَن فيه طَوال نصف قرن من الزمان، رحمها الله، لا رحمهم الله.

 

كان رحيلها المفاجئ الجرحَ الأول في حياتي، لم أكن قد ألفت بعدُ جراحَ الحياة، وأول جراحات النفس هو أقساها وأبقاها، إنه الأسى الذي لا يُنسى على مَرّ الأيام. لقد فارقَت دنيانا وهي قريبة من عمر أكبر أولادي اليوم، ولكني ما أزال أراها بعين الخيال الخالةَ الكبيرة العَطوفة التي أشتاق إليها وأحنّ إلى بسمتها الجميلة وقلبها الحنون.

 

أحببتها في طفولتي حباً عظيماً، أحببت رقّتها السابغة وكرمها العظيم وعطفها اللامحدود. كانت زياراتها لنا أعياداً ننتظرها كما ننتظر العيد السعيد، ولكنها كانت دائماً زياراتٍ قصيرةً معدودة بالأيام، بل بالساعات، فلا نكاد نفرح باللقاء حتى نشقى بالفراق، وما فارقَتنا يوماً إلا وأغرقَتني في بحر الدموع والأحزان.

 

نعم، لقد أحببتها حباً عظيماً، وبلغ من حبي لها وتعلّقي بها وأنا صغير أني غضبت منها يوماً في سرّي لأنها تضنّ علينا بأيام قليلة تمدّد بها زياراتها القصيرة الخاطفة، ثم أدركت -لمّا كبرت بعد حين- أنها كانت أشدَّ ألماً لفراقنا منّا لفراقها، وأعظمَ حرصاً على لقائنا منّا على لقائها، ولقد رأيتها من بعدُ في بعض لحظات الضعف التي قَلّ أن تسمح للناس، حتى لأقرب الناس، أن يشاهدوها فيها، حينما كانت تودعنا فتبكي لفراق الأهل والأحبة بكاء يشقّق الحجر ويفتّت القلوب. لعنة الله على مَن فرّقَ الشملَ الجميع وشتّتَ الأحبة بين القارات المتباعدات، لعنة الله على نظام الاحتلال البعثي الأسدي الذي أشقى الملايين.

 

كانت أبداً راكضة في درب الحياة، قد وهبت وقتها كله للدعوة والعمل الإسلامي مع زوجها الداعية المجاهد والعمّ العزيز الأستاذ عصام العطار، فلا تكاد تجد وقتاً لتفكر بنفسها أو لتهتم بما يهتم به عامة الناس من متاع الدنيا الزائل. شغلَتها عظائمُ الأمور عن الصغائر، وتنقّلت مع زوجها وولدَيها بين البلاد، وعاشت أزمنةً في غرفة أو غرفتين، فلم تَشْكُ من ضيق منزل ولا قلّة أثاث ولا شدّة حال، ولم تهتمّ بتسلية أو راحة ولا حرصت على طعام أو منام، وما أكثرَ ما صَرّمَت النهارات الطويلةَ في عمل لا ينتهي، فتنسى الجوعَ وتدافع النعاسَ وتصبر على المشاقّ صبر أجلاد الرجال.

 

كانت أمثولة في نكران الذات لم أرَ لها مثيلاً في الناس من بعدها قط، على كثرة من عرفت من الناس. اغتربَت فمنحت الغرباء العطفَ والحنان وهي الغريبةُ المحتاجة إلى العطف والحنان، ومرضت فمَرَّضَت المرضى وهي المريضة المحتاجة إلى الرعاية والتمريض. أطعمت الجائعين وهي جَوْعَى، وقبل أن تكسو ولدَيها كست أولاد الناس. لا أظن أنها عرفت السعادة الحقيقية يوماً إلا من خلال إسعاد الآخرين.

 

لم أرها يوماً مهتمة بشيء من عالم المادة سوى اهتمامها بالأناقة في اللباس، فقد كان ذلك هو همّها الوحيد من دنيا الناس. ولعل هذا "الضعف الدنيوي" الوحيد فيها كان سببَ خير عميم عظيم، فقد نشأت في زمن نبذت فيه النساءُ اللباسَ الموروثَ الذي كانت تستتر به المسلماتُ في الشام قديماً واستبدلنَ به لباساً جديداً يُخفي من بدن المرأة أكثرَه ويظهر أو يجسّم بعضَه، فلم تشأ أن تجاريَهنّ فيه ولا ساغت اللباسَ التقليدي القديم، لا سيما وهي تعيش في دول أوربا الغربية، فلم تلبث أن ابتكرت ذلك الزيّ السابغ الذي طرح الله فيه البركةَ فانتشر في ديار الشام كلها، في الأردن وفلسطين أولاً ثم في سوريا ولبنان، حتى وصل إلى مصر وغيرها من البلاد، وهو ما صار يُعرَف اليومَ باسم "الجلباب".

 

هي التي اخترعته لمّا عاشت في أوربا في بداية السبيعينات، وخاطت نماذجَه الأولى منه بنفسها. ولا غرابة، فقد كانت تصنع كل شيء وتتعلم كل شيء؛ تعلمت الفرنسية لمّا أقامت مع زوجها وأولادها في بروكسل وجنيف، ثم تعلمت الألمانية حين انتقلت العائلة إلى آخن. وكانت طباخة من أمهر وأسرع الطباخات، حتى لتعدّ المائدة الطويلة العريضة في ساعة أو نحوها. وكانت سائقة محترفة، فهي التي تنقل الأولاد وتقضي حاجات البيت وتنقل زوجها بين البلدان لحضور المناسبات والمؤتمرات. وكانت خير سكرتيرة له، تنظم المواعيد وترتب اللقاءات، كما كانت قارئة نهمة متدبرة وكاتبة ذات خط جميل وأسلوب رشيق، وكانت في الكتابة سريعةً كما كانت سريعة في كل شيء، حتى لتكتب في الأسبوع عشرات الرسائل للأهل والأخوات.

 

كنت وأنا طفل صغير أظن أن البسمة جزء من تقاسيم وجهها، لأنها لا تُرى أبداً إلا باسمة، لكني كبرت من بعدُ وعلمت أنها كانت تنتزع البسمةَ من وسط الدموع، وتجتهد لترسم الفرحة على صفحات القلوب وقلبُها ضحيةٌ للهموم والأحزان. حملَت هَمّ زوجها وولدَيها وهَمّ أسرتها الكبيرة وهَمّ الأمة كلها، وأنكرت حق نفسها في نفسها فمنحت كل طاقتها ووقتها ومحبتها وعنايتها للآخرين، فكانت لزوجها زوجة فريدة في الزوجات، ولولدَيها أمّاً فريدة في الأمهات، ولوالديها بنتاً فريدة في البنات، ولبني أخواتها خالة فريدة في الخالات، وكانت في الغربة أمّاً لكل البنات وأختاً لكل الأخوات، مع كرم وعطاء وعطف بلا حدود، حتى أحسّ كلُّ مَن شملته بعطفها ورعايتها أنها كانت تخصّه بما لا تخص به سواه وأنه كان هو محبوبَها الأثير.

 

لا أنساها أبداً في هذه الأحداث، فقد كانت تتوهج بالحماسة والتفاؤل، ولو أنها كانت بيننا اليوم لملأت قلوبنا بالإيمان والأمل. كانت أمنية عمرها أن ترجع إلى الشام فتعيش فيها وفيها تموت، كما كانت أمنيةُ أبيها رحمه ورحمها الله. أسأل الله أن يعوّضها ويعوّض أباها عن هذه الدار خيراً من هذه الدار، وأن يَحْرم مِن رحمته وعفوه مَن حرمها وحرم أباها من تحقيق هذه الأمنيات.