فضيلة الشيخ الداعية الواعظ الشاعر محمد جميل العقاد رحمه الله تعالى

درَّةٌ من دُررِ علماء حلب ... حامل العلم والفكر والأدب ... فالشهباء مدينة الإنشاد والطرب .

 

 

والده : الشيخ محمد ياسين العقاد رحمه الله تعالى .

ولد الشيخ الشاعر محمد جميل في حي الجلوم ذلك الحي العريق من أحياء مدينة حلب الشهباء . وجل الوثائق التي بين أيدينا تشير إلى أن مولده كان سنة 1314 هـ 1896م .

فقد نشأ الشاعر في أسرة عرفت بالفضل والعلم والصلاح فوالده الذي كان إماماً وخطيباً في جامع (أبي الدرجين) في حي الجلوم قد رباه على الفضيلة وحب العلم منذ نعومة أظفاره . وما أن ترعرع حتى بعثه إلى كتاب الحي ليتعلم القرآن الكريم ولما يبلغ السادسة من عمره ، انصرف بعدها إلى حلقات العلماء في المساجد ، يعب منها . وإن يكن والده الشيخ ياسين أكثر هؤلاء العلماء تأثيراً في تكوينه العلمي في تلك المرحلة من حياته ، فقد حبب إليه علوم اللغة العربية وآدابها ، حيث قرأ عليه النحو والصرف والبلاغة ، وكان له اهتمام خاص بالشعر العربي القديم فأتقن فن العروض وحفظ الكثير من دواوين الشعراء ، وبدأ يقرض الشعر ولما يبلغ الخامسة عشرة من عمره ، واستمر في تحصيل العلم بشغف واضح مما أتاح له الفرصة لأن يكون معلماً في المدرسة الفاروقية وهو في هذه السن المبكرة من حياته ، وقد نظم للمدرسة نشيد " المدرسة الفاروقية " .

ولم يبلغ العقاد العشرين من عمره حتى ضاقت مدينة حلب عن تطلعاته العلمية ، وكان من الطبيعي آنذاك أن تشرئب نفسه نحو القاهرة وأزهرها ، محط رجال العلماء وموئل رجال الفكر والدين والأدب ، فقصدها عام 1335 هـ ـ 1916 م.

ولقد رأى العقاد في القاهرة بغيته من العلم والمعرفة ، فانصرف إليه بكل جوارحه ، يعب منه عبَّ الظمآن من الماء ، يتلقاه على كبار علماء الأزهر آنذاك أمثال الشيخ محمد بخيت المطيعي ، والشيخ محمد الخضر حسين التونسي ، والشيخ عيسى منون ، والشيخ أبي الفضل الجيزاوي ، وأحمد مصطفى المراغي ، وسيد المرصفي ، وحسين والي ، ويوسف الدجوي وغيرهم ، وقد حصل العقاد من الأزهر على الشهادات التالية :

1 ـ الشهادة الأهلية للغرباء لعام 1345 هـ ـ 1926 م ، وهي تعدل الإجازة الجامعية اليوم .

2 ـ الشهادة العالية للغرباء لعام 1347 هـ ـ 1928 م ، وهي تعدل شهادة الماجستير اليوم .

3 ـ شهادة الاستماع قسم التخصص شعبة البلاغة وذلك عام 1349 هـ ـ 1930 م وهي أرقى شهادة يمنحها الأزهر آنذاك وقد منحت له من قبل الأستاذ محمد بخيت المطيعي ، وأحمد مصطفى المراغي ، وعبد الخالق عمر، ومحمد خضر حسين .

وقد مكث الشاعر في مصر يطلب العلم مدة أربعة عشرة عاماً ، توجه بعدها إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج ، ثم قام بزيارة لفلسطين وشرقي الأردن ولبنان ، عاد بعدها إلى وطنه ومسقط رأسه حلب . ليواصل عمله في الدعوة إلى الله ونشر العلم ، وكان ذلك عام 1354 هـ ـ 1935 م .

ولقد كان للشيخ العقاد موقف مشهور من آراء الأديب الراحل الدكتور طه حسين في التراث الأدبي والإسلامي . يرد عليه في الصحف والمجلات ، ويقف على رأس الجماهير الغاضبة التي أحرقت كتبه في أروقة الأزهر وساحات القاهرة العامة.

ما إن عاد الداعية الشاعر إلى وطنه حتى شمر عن ساعد الجد للعمل في حقل الدعوة إلى الله . وقد استغرق عمله هذا مساحة كبيرة من حياته وجهده فلا يكاد يخلو يوم من أيامه من نشاط يخدم الدين والأمة والمجتمع . ولعل أهم نشاطاته في هذا المجال :

1 ـ الوعظ والإرشاد وإلقاء الدروس الدينية :

فقد كان للشيخ الشاعر جولات مستمرة على مساجد المدينة ، يلتقي بالمصلين بعد صلاة الظهر أو العصر أو المغرب ، يعظهم ويعلمهم أمور دينهم ويرد على تساؤلاتهم في شؤون الدين والحياة .

2 ـ الخطابة الدينية :

كان الشاعر خطيب الجامع الأموي الكبير يتناوب الخطابة فيه مع الأستاذ الشيخ محمد الحكيم ، فإذا كانت نوبة الأستاذ الحكيم اتجه الشاعر إلى غيره من جوامع المدينة ليخطب في الناس ويعظهم .

3 ـ الجولات الدورية في المدن والأرياف :

فقد دأب الشاعر على الخروج إلى المدن والقرى القريبة من حلب والبعيدة عنها ـ على عادته في مصر ـ يلتقي بأهلها ويعظهم ويرشدهم ويشارك في تأسيس مساجد لهم في قراهم ومدنهم ويخطب فيهم إن كان في يوم الجمعة ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم ويختم لقاءه معهم بالإجابة عن تساؤلاتهم .

4 ـ اللقاء الأسبوعي مع نزلاء السجون والإصلاحيات :

يقصدها الشاعر ويلتقي بمن زلت به القدم ، فينصح ويعظ ويرشد . فكم من عاص ومجرم خرج من السجن تائباً عابداً تقياً ، وكم من بعيد عن الله خرج من سجنه حافظاً للقرآن داعياً إلى الله وكم من كافر خرج من سجنه مؤمناً مسلماً .

5 ـ دروسه الخاصة للناشئين والشبان :

وكانت غالباً ما تكون عقب صلاتي التروايح والفجر في شهر رمضان في الجامع الأموي . يجذبهم إليه بأسلوبه الخاص المحبب ويجعلهم يحفظون ما يملي عليهم من آيات وأحاديث وحكم وأشعار. يقيم لهم المسابقات ، ويقدم لهم الهدايا والجوائز من الكتب المفيدة والدفاتر والأقلام .

6 ـ ندوة بيته الأسبوعية :

تنعقد في داره كل يوم أربعاء ، يلتقي فيها أهل العلم والأدب مع طلاب المدارس التجهيزية ودور المعلمين والجامعات وجماهير من تلاميذ الشاعر من عامة الناس ، ويطرح فيها كل ما يهم المجتمع المسلم من أمور، وكان الشباب بصورة عامة لا يدعون هذه الندوة لما يرون فيها من زاد فكري سليم يحصنهم ضد التيارات الدخيلة .

7 ـ إقامة الندوات واللقاءات والمحاضرات :

في المنتديات العامة وفي المساجد لتوضيح رأي الإسلام في كل الأحداث القومية والوطنية والدينية والاجتماعية.

8 ـ حضوره المتميز في مختلف المناسبات الاجتماعية :

يشارك الناس في أفراحهم وأحزانهم ليجعل من هذه المحافل والمجالس ندوة لتصحيح العقائد والأعمال .

8 ـ استغلال كل الأوقات والأمكنة :

الطرق والساحات العامة والحافلات ومكاتب الحكومة وباحات المدارس ، وفي كل مكان ، يستغل ظرفاً من الظروف أو تصرفاً قام به أحد الحضور ليجعل المكان منبراً يدعو فيه إلى الله ويبين السلوك السوي الذي يجب على الإنسان المسلم اتباعه .

10 ـ الكتابات المتنوعة :

كالمقالات والتعليقات والأبحاث الدينية والأدبية ، ونشرها في الصحف والمجلات المحلية .

11 ـ الشعر :

فقد استخدامه سلاحاً في الدعوة إلى الله ، يلقيه في كل مناسبة دينية أو قومية أو وطنية أو اجتماعية . ولقد كان الشاعر مدركاً ما للشعر من أثر في نفوس الناس فكان مجلسه لا يخلو من قصيدة يتناول فيها أحداث الساعة وما يشغل المجتمع والأمة .

ولقد آتت أعماله هذه ثمارها يانعة ، فأحبه الناس على مختلف طبقاتهم وثقافاتهم ، وكثر طلابه والمستفيدون منه ، فلم تكد ترى رجلاً عاصره إلا وله حديث مسهب عن الشيخ الشاعر والداعية أو عن ذكرياته معه أو فائدته منه .

أما عمله في وزارة الأوقاف فكان مقتصراً على خطبة الجمعة في الجامع الأموي ، وقد عين فيها عام 1949م . ودرس ديني في جامع " أبي الدرجين " أسند إليه عقب وفاة الشيخ محمد نجيب سراج الدين الحسيني رحمه الله تعالى عام 1954 أما بقية أعماله الدينية فكانت تطوعاً غير مأجور ، إلى أن كان عام 1964 حيث أسند إليه وزير الأوقاف الأستاذ أحمد مهدي الخضر وظيفة مدرس محافظة ، وذلك لما يعرف من عمله ونشاطه في الدعوة ، وقلة موارده المالية .

وفاته :

ظل الشيخ الشاعر محافظاً على ما نذر نفسه له من الدعوة إلى الله ، وعظاً وإرشاداً وخطبة وشعراً ، إلى أن كان يوم السبت موعده مع الشبان نزلاء إصلاحية سيف الدولة ليعظهم ويرشدهم . ورغم تقدمه في السن ، وضعف جسمه ، وشدة البرد ، وتحذير أولاده له من الخروج لم ينثن عن عزمه في المضي إلى الدعوة والإرشاد . ولكن الشيخ الكبير والطود الشامخ وقع في الطريق ، فعاد إلى بيته محمولاً مثقلاً بالآلام.

ومساء يوم الاثنين 21 من ذي الحجة سنة 1387الموافق 18 آذار عام 1968 صلى الشيخ العشاء قبيل وقتها بدقائق ، ثم أسلم الروح إلى بارئها وهو يوصي أولاده بالمحافظة على هذه الدعوة التي قضى حياته من أجلها .

وخرجت مدينة حلب صباح اليوم التالي لتودع شيخها وشاعرها ، وغصت أروقة الجامع الأموي الكبير بالمشيعين الذين أدوا الصلاة على شيخهم واستمعوا إلى كلمات التأبين من كبار علماء حلب ومثقفيها ، ثم سار الموكب المهيب ، يرى أوله ولا يرى آخره حتى ووري الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في حلب ردحاً من الزمن في مقبرة الصالحين وسط دموع المشيعين ونحيبهم .