الشيخ علي الحانوتي رحمه الله تعالى

 

شيَّعت بغداد وبالأخص جمهور المصلين في مدينة البياع أخيراً وبموكب مهيب عالماً فاضلاً من علمائها، وأستاذاَ عاملاً شهدته أروقة مساجدها، يتقلب بين حلقات الدرس ومجالس الوعظ ومنابر الخطابة، وشيخاً معمَّراً لم يذق طعم الراحة طيلة حياته المديدة حتى أقعده المرض في الشهرين الأخيرين السابقة لوفاته، هو الشيخ الفاضل علي بن محمد بن علي الحانوتي الفلسطيني رحمه الله تعالى.

ولد الفقيد عام 1908 في قضاء طرشيحه التابعة لمحافظة عكا بفلسطين، من أسرة كريمة عرفت بمحبتها للدين ولعلمائه، و لما بلغ عهد الصبا درس القرآن الكريم على الشيخ محمد المصري في مدينة حيفا، ثم درس العلوم العربية والشرعية على كبار علماء عصره وفضلاء بلده منهم: الشيخ صالح العشماوي، والشيخ المجاهد عز الدين القسام، ثم تتلمذ على المحدث الكبير العلامة بالحديث الشيخ محمد الحافظ التيجاني، وأخذ عنه الطريقة التيجانية من طرائق أهل التصوف وكان داعيتها في العراق.

لجنة الدعوة والثقافة:

وكان من شيوخ الفقيد وأساتذته المعروفية الشيخ كامل القصَّاب وهو من أعمدة ثورة القسام عام 1936 في فلسطين ومسؤول لجنة الدعوة والثقافة من تنظيمات الثورة، وكان الحانوتي الشاب من مجموعة المجاهدين الذين نذروا أنفسهم لله والعمل تحت أمرة شيخه القصَّاب.

وكانت تقوم هذه اللجنة بدور التثقيف العقائدي وتعبة الجماهير والدعوة للجهاد ومقاومة الاحتلال، فكانت تعتمد على حلقات التدريس والوعظ والارشاد في المدارس والمساجد، في حلقات وخلايا سرية يجري فيها توجيه الشباب والأعضاء توجيهاً ثورياً سليماً، أساسه إفهام العضو معنى الجهاد في سبيل الله ومكانة المجاهدين عند الله تعالى وما أعده لهم من أجر وثواب كبيرين.

وكان أساس هذه الدعوة القرآن الكريم والسُّنة المطهرة وسيرة السلف الصالح، وقد التفَّ حولها الكثير من شباب وأبناء فلسطين من مختلف الأعمار واستعد الجميع لمجابهة خطر التهويد والاحتلال.

ثورة القسَّام:

ولما قامت ثورة القسام ضد الاحتلال الانكليزي في فلسطين في أواخر عام 1935م وتطورت الأحداث ونشبت المعارك الضارية واستعد لها الثوار ورابط المجاهدون ودارت رحى المعارك غير المتكافئة بين الطرفين، وصمد المجاهدون الأبطال ضد أعنف مجابهة من الانجليز حيث حشدوا لها الكثير من الجند والسلاح انتهت باستشهاد القسام واشاعة جو من الارهاب بين صفوف المواطنين واعتقال الكثير من المجاهدين الذين وقعوا في قبضة الانكليز ومنهم فقيدنا الحانوتي حيث أودع السجن ليقضي فيه سنة وقد خرج منه وهو أصلب عوداً وأقوى إيماناً من السابق، وكان تلامذة القسام على العهد أوفياء لما عاهدوا الله عليه فمنهم من استشهد ومنهم من واصل السير على درب الجهاد.

وفي سنة 1947 عيَّن الفقيد في مدرسة (جبع) في قضاء حيفا من قبل معارف فلسطين، فوقعت معركة شديدة مع اليهود في تلك المنطقة وكان لأساتذة المدرسة دور فعال في إذكاء روح المقاومة للاحتلال في هذه المعركة فأغلق البريطانيون أبواب هذه المدرسة وكان ذلك بتاريخ 14أيلول 1947، كما اشترك الفقيد بمعركة ضد اليهود المغتصبين في حيفا بتاريخ 18تموز 1948 فكان انتصاراً رائعاً خذل فيها اليهود خذلاًناً كبيراً وفقدوا كل أمل من أن يعيشوا مع المسلمين بعد اليوم لولا قرار التقسيم وحدوث النكبة بتهجير أهل فلسطين إلى البلدان العربية الأخرى وكان الحانوتي وأهل حيفا من نصيب العراق.

الفقيد في العراق:

   استوطن الحانوتي رحمه الله تعالى العراق وتعيَّن فيه إماماً وخطيباً في جامع الشطرة التابع للواء المنفك آنذاك (محافظة ذي قار) اليوم، وذلك في بداية سنة 1949، وفي أواخرها نقل إلى بغداد حيث عيَّن مدرساً في مدرسة تعليم القرآن الكريم التابعة لمديرية الأوقاف العامة، ثم بعدها درَّس في ثانوية الأوقاف الدينية (النجيبية) لمدة عشر سنوات درَّس خلالها اللغة العربية والوصايا والفرائض والفقه وأصول التجويد والتفسير، و اصول الحديث، انتهت خدماته فيها بانتهاء عقد استخدامه.

وفي سنة 1960 عيَّن إماماً وخطيباً في جامع المأمون في بغداد، وفي السنة نفسها نقل إلى جامع الحاج زيدان في حي السلام، وفي 2/8/1964 نقل إلى جامع فتاح باشا في مدينة البياع وبقي فيه حتى وفاته.

من خلق الفقيد وسجاياه:

كان الفقيد رحمه الله تعالى عالماً عاملاً متمكناً من علوم اللغة والشريعة مع تقى وصلاح واستقامة وتمسك شديد بآداب الإسلام... محباً لعمل الخير وخدمة المسلمين، وكانت مدرسته التي لا يفارقها مسجده في البياع، وغرفته الخاصة فيه مفتوحة للسائلين والطالبين الدرس وبخاصة الشباب الراغبين في التفقه في الدين.

وحديث الوعظ العام بين المغرب والعشاء من كل يوم أربعاء لم ينقطع في هذا المسجد، كما أن حديثه بعد صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك مستمر لم ينقطع أيضاً رغم شيخوخته وبعد محل سكناه في حي السلام، وكذلك اعتاد رحمه الله تعالى أن يعقد حلقات الذكر في ليالي الجمع وبعد صلاة العصر من ذلك اليوم ليشحن روادها بالإيمان والخشوع العام، كما كان يساهم في جميع الأنشطة وأعمال الخطابة ودروس الوعظ والارشاد في المدن والقرى والأرياف والتي كانت تنظمها جماعة من العلماء في بغداد في أيام الاثنين من كل أسبوع فعرف الكثير من الناس وتعرفوا عليه واستفادوا من دروسه القيِّمة.

كذلك كان الفقيد رحمه الله تعالى اجتماعياً يتفقد أحوال الناس ويسأل عنهم ويزورهم في بيوتهم ويعود مرضاهم ويحث الأغنياء على مساعدة الفقراء منهم.

الجرأة في الحق:

كان الفقيد رحمه الله تعالى مع ما عرف به من جرأة في الحق، يغار على الإسلام وأهله ويقارع المبطلين الذين يروجون الأفكار الهدامة، وتشهد له بغداد تلك الوقفة الجريئة التي لقَّن بها أحد دعاة الهدم والتخريب درساً لا ينساه أبداً، وذلك في الستينات يوم وفد إلى بغداد يدعو إلى ما يثير المسلمين ويستفزهم ويطعن في عقيدتهم، فقاد جموع المصلين في مساجدهم مع بعض إخوانه من العلماء في مظاهرة احتجاجية كبيرة متجهة نحو أحد النوادي التي أعلن عن إلقاء المحاضرة فيه، استعملت فيها القوة في منع هذا الوافد من ترويج أفكاره وفرَّ ناجياً بنفسه وعاد من حيث أتى.

أيامه الأخيرة:

رقد الفقيد في البيت يعاني من مرض ألمَّ به بتاريخ 1/1/1984 فأقعده عن الذهاب إلى المسجد ليزاول فيه حياته المعتادة، وكان لأهالي البياع من رواد مسجده كل الوفاء في تفقد أحواله ودوام زيارته والسؤال عن صحته، ولما استبدَّ به المرض نقل إلى مستشفى الكرامة ومن ثم إلى مدينة الطب وفيها كان أمر الله قدراً مقضيا فأسلم الروح إلى بارئها ظهر يوم الأربعاء 5 جمادى الآخرة 1404 الموافق 7/3/1984، وشيع عصر ذلك اليوم بموكب يليق بمقامه رحمه الله تعالى من داره في حي السلام إلى مثواه الأخير في مقبرة الشيخ جنيد البغدادي.

وكان قد أوصى أن يدفن فيها، وأن لا يقام مجلس الفاتحة على روحه وتم تنفيذ وصيته في ذلك.

رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جناته وأكثر من العلماء أمثاله ولا يسعنا إلا أن نقول: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلنصبر ولنحتسب ولا حول ولا قوة إلا بالله).

المصدر: مجلة الرابطة الإسلامية بغداد ـ شوال 1404 هـ - آب 1984م).