الأستاذ أنور الجندي … قائد الكتيبة الإسلامية للمقاومة الفكرية

مقدمة

 

رجل محب لأمته .. مدافع عن دينه . ..غزير العطاء .. زاهد في الشهرة والمال ..

 

هذه السمات هي ما تحلى بها هذا الأنموذج الإخواني الطيب الذي تخرج من مدرسة حسن البنا ..إذا طالعت سيرته وتتبعت إنتاجه رأيت شخصا شديد التجرد ..عميق الفكر .. غير متطلع لسفاسف الدنيا ..

 

غاية ما يرجو هو أن يقول كلمته ويعيش لفكرته التي جند لها كل ما أتاه الله من مواهب وقدرات..

 

هو فارس صنديد في ميدان الغزو الثقافي أبلى بلاءً حسنا ..قاوم هذا الغزو الذي استولى على كثير من العقول والقلوب في إنحاء متعددة من بلدان العالم العربي والإسلامي ..عارف بخطط الغرب التي حاكها لإفساد وتدمير القيم الإسلامية .. مفند لترهاتهم و أساليبهم التي أثاروا بها الشبهات والأباطيل ..

 

بذل الرجل في ذلك الجهد الوافر الضخم ..وتصدى للهجمة الشرسة التي وجهت لأبناء الأمة فكان له الدور البارز في صيانتها وحمايتها من الانحراف..

 

فاستحق أن يكون قائد الكتيبة الإسلامية المدافعة عن الحصون الثقافية للأمة.. إنه الأستاذ الفاضل والأديب البارع.. أنور الجندي..

 

اسمه ومولده ونشأته

 

هو من مواليد عام  1917م بمدينة ديروط، حيث كانت تقيم أسرته، نشأ الأستاذ أنور الجندي في بيت علم وأدب فكان جده لوالدته قاضيا شرعيا يشتغل بتحقيق التراث ووالده يشتغل بتجارة الأقطان لكنه كان مهتما بالثقافة الإسلامية ..

 

حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية في سن صغيرة وواصل دراسته إلى المرحلة الجامعية حيث درس الاقتصاد والمصارف وإدارة الأعمال، وتخرج في الجامعة الأمريكية مجيدا للغة الإنجليزية التي درسها خصيصا ليستطيع متابعة ما يثار من شبهات حول الإسلام من الشرق والغرب ويقوم بالرد السديد عليها ومنها اتجه إلى العمل الحكومي خلال عشر سنين، ثم انتقل بعد ذلك إلى الصحافة،

 

وفي خلال هذه الفترة كان قد درس في مجال التعليم التجاري والصحافي واتصل بعدد من الجامعات المصرية والأجنبية غير أنه كان حريصًا على أن يعمل في الصحافة الإسلامية، وقد تحقق ذلك منذ عام 1946 م حيث كتب فصولا عن الدعوة الإسلامية والتاريخ الإسلامي؛

 

كما اشترك في عديد من المؤتمرات الإسلامية التي عقدت في:الرياض، الجزائر، المغرب، جاكارتا، مكة المكرمة، الأردن، الخرطوم.

 

ومنذ بدأ عمله في مجال الصحافة رسم لنفسه مخططًا يهدف إلى تقديم خطة كاملة لمقاومة التغريب والغزو الثقافي، ثم اتجه بعد ذلك إلى العمل في مجال أسلمة العلوم والمناهج وتأصيل الفكر الإسلامي وبناء البدائل الإسلامية ورصد عمره لنصرة الإسلام، فوقف على أخطر الثغور التي ولج منها الأعداء إلى ديار المسلمين وعقولهم.. ألا وهو ثغر الغزو الفكري ..فكان نعم الحارس الأمين المانع لجحافل المد الأجنبي نحو الأمة .

 

طلبه للعلم وثقافته

 

كان الرجل موسوعياً في المطالعة والتحصيل ويكفي هنا أن نذكر هذه السطور من كلامه التي تدلل عل ذلك يقول رحمه الله :

 

 “ قرأت بطاقات دار الكتب، وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها.

 

 راجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، راجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاماً، وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ.. والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عرفتها في بلادنا في خلال هذا القرن، كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على (موضوع) معين في وقت ما“.

 

كما كان له موقع محدد بدار الكتب لا يغيب عنه إلا لضرورة.. وليس أدل على هذا من أن بيت الأستاذ أنور الذي توفي به يعد عند المشاهدة لكل غرفه وطوابقه دائرة معارف متنوعة في شتى الشئون والفنون. .

 

الأحداث التي أثرت في تكوينه الفكري والثقافي

 

يعد عام 1940 م نقطة تحول في حياة الأستاذ أنور الجندي.. فبعد قراءته لكتاب “وجهة الإسلام”لمجموعة من المستشرقين الأمر الذي كان له أثر كبير في تحول حياته من الحياة الهادئة الناعمة إلى حياة مجاهد بالقلم يتصدى لما يوجه نحو الأمة من حملات تغريبية ..

 

فقد لفت هذا الكتاب نظره إلى حجم المؤامرة على الإسلام، فما كان من أنور الجندي إلا أن قال:

 

 “هذا قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري والأجنبي والغزو الثقافي.. وأكد أيضا أنه تولد لديه تحد كبير يخبر عنه فيقول: ذلك هو التحدي الذي أذهلني ودفعني إلى معرفة أبعاد هذا الخطر وما هي القضية كلها أساسًا وما هو الدور الذي يمكن لكتَّاب الإسلام أن يقوموا به في سبيل تحطيم هذه الخطة وتدمير وجهتها.

 

 وخص هذه السنة بقوله :

 

 عام 1940 م تقريبًا ..وقد أخذت أبحث عن هذه المخططات (الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي) والتغريب والدخول في قضية كبرى هي “تصحيح المفاهيم”، وأمضيت عشر سنوات كاملة بين أضابير دار الكتب ودورياته فقد كان ضروريًّا أن أعرف جذور العملية ممثلة في الصحافة التي كانت تُعايش ذلك العصر منذ الاحتلال البريطاني 1882م وإلى ذلك اليوم كانت أعمالي قائمة أساسًا على التعريف بعظمة الإسلام وتاريخه وتراثه وتقديم صورة الأمة الإسلامية في مجال عظمة تاريخها وأمجادها، وكان هذا مفهومي للدعوة الإسلامية..

 

مع الإخوان

 

التقى هذا العملاق بالإمام الشهيد حسن البنا في بداية طريقه، فكان لهذا اللقاء أثر كبير في شخصيته وتوجهه، و قد كان تشجيع البنا له على مواصلة الكتابة دافعا حفزه على الكتابة عن المنهج الإسلامي فأخرج في ذلك 10 أجزاء ضخمة بين فيها مسألة مرجعية القرآن والسنة وكيف واجه أبناء الأمة المخلصين وعلمائها محاولات التأثير التي روج لها البعض من خلال ترجمة الفكر اليوناني والفارسي والهندي، وكيف قاوم مفهوم “أهل السنة والجماعة” هذا الأمر ..

 

وهكذا عاصر الجندي الأستاذ البنا وأفاد منه كثيرا وحفلت كتابته بذكره في مواضع عدة ومن ذلك قوله:

 

 “كان حسن البنا كاتبا وخطيبا ومحدثًا من آيات البيان والتعبير ، ووراء ذلك كله المحصول الضخم من القراءات والثقافات والتجارب ، فقد أحاط بالتراث الإسلامي إحاطة طيبة ، وعرف من الناس العشرات ، استمع إليهم وحدثهم وعرف تجاربهم وما وعوه من سير الدعوة والدعاة“

 

 وبلغ الأمر ذروته حين ألف كتاب “حسن البنا الداعية المجدد والإمام الشهيد” ..بل لقد ألف كتابا كاملا بعنوان “الدعوة الإسلامية في مواجهة التحديات” ذكر في مقدمته أنه يقصد بالدعوة هنا .. دعوة الإخوان المسلمين.. وقد عافاه الله سبحانه وتعالى من محنة سجون ناصر ليكون اللسان المدافع عن هذه الدعوة في مقالاته وليبقى بفضل الله ومنته خارج السجون من يحمل الراية ويواصل السعي..

 

وقد أشاد بذلك الأستاذ عمر التلمساني في كتابه ذكريات لا مذكرات فقال:

 

 إن كتابات الأستاذ أنور الجندي هي أحد محفزاته على إخراج كتاب ذكريات لا مذكرات ليكون خطوة في طريق بيان فضل هذه الجماعة والذي بدأ التعريف به أنور الجندي ..وفي هذا يقول التلمساني :

 

أن ما تفضل به بعض الكتاب أمثال الأستاذين الفاضلين: أنور الجندي ومحمود عبدالحليم في الدفاع عن الإخوان المسلمين يحفز الأقلام على السير فى هذا الاتجاه ..

 

 داعية الوحدة الإسلامية

 

حمل الجندي لواء الدعوة للوحدة الإسلامية .. وكان دائما يؤكد أن من أهم أهداف النفوذ الأجنبي إثارة قضية الإقليميات والأقليات، وإثارة النعرات والعصبيات بين العرب والترك وغيرها من القضايا .. وكان يرى أن وحدة الفكر الإسلامي شرط أساسي للوحدة الإسلامية الكبرى، ولما كان هذا الفكر قد لوث بكثير من الأفكار الهدامة فقد انبرى له الجندي وسطر في ذلك الكثير من الكتابات لعل أبرزها كتاب (الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي).

 

ليمهد بذلك الطريق لهذه الوحدة المنشودة ..

 

جهوده في مواجهة كبراء التغريبين

 

تعرض أنور الجندي رحمه الله تعالى للعديد من الرموز التغريبية في شجاعة منقطعة تدل على أن الرجل كان صاحب قضية إسلامية .. ورغم أن هناك بريق يحيط الكثير من الأسماء كأمثال طه حسين والعقاد وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى وجورجي زيدان وتوفيق الحكيم وغيرهم إلا أنه تصدى لهم مفندا مزاعمهم الباطلة..

 

لقد دخل أحد أشرس الميادين في حينها ومن أكثرها زخما ..فواجه كبراء هذا الميدان، ، وأخرج عشرات الكتب مثل: “أضواء على الأدب العربي المعاصر و“أخطاء المنهج الغربي الوافد“، و“إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام“.. اختص منها “طه حسين” وحده بكتابين كبيرين.. هما: “طه حسين وحياته في ميزان الإسلام“، و“محاكمة فكر طه حسين“؛ فقد كان الجندي يرى أن طه حسين” هو قمة هرم التغريب ..ولذلك كان توجيه الضربة له هو أكبر خطوة لتحرير كثير من أبناء الأمة من آثار هذه الهجمة ..

 

الزهد طريقته ومذهبه

 

كان أنور الجندي زاهداً في الشهرة والأضواء وعاش بعيدا عن الثراء .. لا يقبل شيئا على محاضراته وأفكاره، بل حتى الجوائز التقديرية كان يرفضها ويأباها، و عندما سُئل عن ذلك قال:

 

 “أنا اعمل للحصول على الجائزة من الله ملك الملوك”؛ ولذا كان غير حريص على الأضواء وليس محبذا اللقاءات التلفزيونية ، وكان كل تركيزه على التأليف، وكان يدعو ربه دائماً بأن يعطيه الوقت الذي يمكنه من كتابة ما يريد.

 

وهكذا عاش الرجل حياته كلها زاهدا في الدنيا متخففاً منها ..لا يعنى بجمع المال ولو أراد لكان هذا سهلا ميسورا فقد كان يكتب بشكل ثابت في صحف الخليج وعلى رأسها مجلة منار الإسلام الظبيانية وغيرها فكان لا يحرص على استيفاء المال حتى كتبت المجلة له في أحد الأعداد تطلب منه أن يوافيها بآخر عنوان له حتى ترسل له مستحاقته المالية التي كانت متراكمة لدى المجلة .. ومن زار منزله بشارع عثمان محرم بمنطقة الطالبية بالجيزة، وعاين تواضع المنزل تأكد من هذا.

 

وفاته

 

رحل أنور الجندي في هدوءٍ ربما فاق هدوء حياته الطويلة الحافلة ..

 

في ليلة الأثنين الرابع عشر من ذي القعدة سنة 1422هـ الموافق الثامن والعشرين من يناير سنة2002 م .

 

عن عمر يناهز 85 عاماً قضى منها في حقل الفكر الإسلامي ما يقارب 70 عامًا يدافع فيها عن الهوية الإسلامية ويرد الشبهات والمزاعم وحملات التغريب والغزو الفكري المتوالية طوال هذه السنوات .. فرحمة الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة ..