الداعية الرحالة عبد الرشيد إبراهيم

 

عبد الرشيد ابراهيم رمز من رموز النهضة الاسلامية الأخيرة ،تكاد حياته تكون أسطورة من أساطير البذل والعطاء ،مئة عام أمضى أكثرها رحالة في بلاد الاسلام داعيا إلى الله عزوجل ومنافحا عن دينه في وجه أعدائه.


ولد الشيخ عبد الرشيد في مدينة تارا في سيبريا سنة 1846 م ،درس على يد علماء مخلصين الاسلام ثم ارتحل إلى الحجاز و أقام في مكة المكرمة والمدينة المنورة  ليمضي فيهما عشرين عاما ينهل فيهما من علوم العربية والدين، ويعيش مع ذكريات السلف الصالح فيعمل بما علم وتشتعل فيه جذوة الغيرة على الرسالة السماوية والرغبة في نشرها وتبليغها ،عاد بعد ذلك إلى موطنه في سيبريا ليعلم الناس دينهم وليدحض شبهات وأباطيل المشككين والمضللين ،ولما شاع أمره انتخب قاضيا في المحكمة الشرعية ثم وكيلا للافتاء الديني فلم يثنه المنصب عن مجاهرة القيصرية بوجوب العمل على مساواة المسلمين بغيرهم في الحقوق والواجبات مما جعل بعض المغرضين يدبرون له من المكائد ما جعله يفر الى استانبول، لا لكي يركن لنفسه وشؤونه وإنما ليجهر في مقر الخلافة آنذاك بمآسي قومه في القيصرية مدعما كلامه بالوقائع والأسانيد.
عندما شعر الشيخ عبد الرشيد بأن الحال هدأت بعض الشيء عزف عن المنصب في استانبول وعاد إلى وطنه يجالد لنشر الدعوة واستطاع الحصول على رخصة بإصدار رسائل مؤقتة تقوم مقام الصحافة، وراح ينشر هذه الرسائل بالتركية القازانية مركزا جهوده على الدعوة الجريئة  إلى الاصلاح الديني ،والتمسك بمبادئ الاسلام وهويته، واليقظة المتنبهة إلى مايدبره أعداء الدين من مكايد وحيل ،ثم قام بنشر عدد من هذه الرسائل باللغة العربية ليصل صوته حاملا مأساة قومه إلى الأصقاع العربية .


تعددت رحلات الشيخ عبد الرشيد منذ 1905 الدعوية الى تركستان ومنشوريا وبلاد المغول واليابان وكوريا والصين وسنغافورة وغيرها  في مجاهل افريقيا ممعتمدا على نفسه دون أن يكون وراءه سند أومال ،وقد لاقى في رحلاته من المصاعب والأهوال ما جعل الكتاب يدعونه إلى كتابة رحلاته ومشاهداته فأنشأها في كتاب من جزئين أسماه (عالم اسلام) وقد نعى الأستاذ عبد الوهاب عزام على الأمة أنها تطبع وتدرس رحلات كرحلة ابن بطوطة بمافيها من خرافات وأعاجيب ولاتدرس رحلات الشيخ عبد الرشيد وقد ركب البر والبحر والجو وتحمل عنت ذوي الجهالة وسفاهة أولي الضلالة لينشر دين الله عزوجل ولينافح عن المسلمين مطالبا بحقوقهم ومدافعا عن وجودهم .


كتب بعض القساوسة في الصين إلى وزارة الخارجية يسر إليها بأن المسيحية تعاني كثيرا من جهود عدو يزحف عليها بقوته فراحت هذه الأخيرة تتساءل عن قوة هذا العدو ونفوذه المالي والحربي فإذا بالإجابة مخزية تعلن أن العدو هو رجل واحد ذو منطق وإيمان.
ولم يكتف الشيخ بذلك بل ساهم بنفسه في الجهاد في طرابلس ضد العدوان الايطالي سنة 1912 م وحين قامت الحرب العالمية الأولى أخذ مكانه في الجبهة الاسلامية في القوقاز مع الجيش العثماني ثم دلف إلى ألمانيا ليتصل بأسرى المسلمين ولما انتهت الحرب على غير مايود لم ييأس بل ذهب داعيا إلى دين الله تعالى إلى اليابان.
وفي اليابان استطاع في عام 1939 م أن يجبر البرلمان الياباني على الاعتراف بالاسلام واحدا من أديان الدولة الرسمية وتحقق حلم الشيخ في بناء مسجدين في طوكيو وارتفاع مئذنتين ترددان كل يوم خمس مرات نداء الاسلام الخالد .

 

أحصى المحصون عشرات الآلاف ممن دخلوا الاسلام في آسيا وافريقيا  على يد الشيخ وكان يقف بنفسه يعلم الناس الوضوء والصلاة ويعلم الأطفال حتى بعد كبر سنه قراءة القرآن الكريم وحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 

والغريب أن مجالس الشيخ كانت تجمع المختلفين في المذاهب والمآرب كل يجد فيها مشربه الذي يروق له ،وكان مع هيبته وبهاء أنوار ايمانه لا يجلس مجلسا إلا ويقول فيه: لست واعظا ولا عالما حسبكم علماؤكم يفقهونكم في أمور دينكم ولكن سلوني عن الاسلام والمسلمين في أكثر بقاع الأرض فعندي علمهم وفي قلبي همهم. 


محطات في حياة الرحالة الداعية


ماالذي يبقى لنا من سيرة الرحالة الداعية عبد الرشيد ابراهيم في محاولة لتتبع خطى النهضة  الاسلامية الأولى على يد روادها ؟فأما كتابه (عالم اسلام ) فقد صدر مترجما إلى العربية ترجمة أمينة في المجلس الأعلى للثقافة في مصر ضمن المشروع القومي للترجمة ،وهو موجود على شبكة الانترنيت يمكن لأي امريء أن يقرأه، سيما وأن أسلوبه كما يقول المترجمان شيق أخاذ يدعو القارئ إلى الاستطراد في قراءته باهتمام وشغف دون ملل أو سأم ،وهو كتاب علمي دقيق بعيد عن الموضوعات الانشائية والسطحية يصور واقع المسلمين في بدايات القرن العشرين مليء بالمعلومات والمواقف والأفكار والآراء واللقاءات والمقابلات والزيارات والمفاجآت التي تتناول الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية.


أول مايلفت الانتباه في سيرة الرجل أنه أمضى حوالي الأربعين عاما في تعلم العربية وعلوم الدين فقد أنهى تعليمه الأساس في( تارا )في العشرين من عمره ثم ذهب الى استانبول فأقام فيها فترة قصيرة ثم قصد مكة والمدينة وبقي فيهما عشرين عاما يتعلم ويعمل بما يتعلمه ،وفي مكة التقى بالشيخ شامل الذي ألهب الكفاح ضد الروس في بلاد القوقاز فأثر فيه تأثيرا كبيرا مما جعله يعود إلى بلاده ليدفع عن المسلمين الأتراك في سيبريا أذى القيصرية الروسية ،ولعل الصلة بواحد من أهل العلم والفضل مما يكثرفي حياة المبدعين وحملة الرسالات فقد كان شمس الدين التبريزي وراء تحول جلال الدين الرومي وكان الأفغاني وراء تألق محمد عبده وهاهو الشيخ شامل يزرع في نفس عبد الرشيد جذوة الغيرة على الاسلام والمسلمين مما حمله معه طوال عمره مضيفا إليه من إبداعه وحسن عمله وإقباله على الله تعالى الشيء الكثير.


وجد الشيخ عبد الرشيد في بلاده سوء أحوال المسلمين المهملين من قبل القيصرية الروسية ،فراح يدافع عنهم وعن حقوقهم مما جعله عرضة لمكائد جعلته يفر إلى استانبول ،فمن جهة أوصل صوت أهله إلى الخلافة الاسلامية يستنصرها على الروس، ومن جهة أخرى التقى بشخصيات كبيرة في مجال العلم والأدب والتعليم واستفاد من تجارب نامق كمال وأحمد وفيق وجمال الدين الأفغاني وأحمد مدحت وخاصة في مجال تنظيم برامج التعليم والتعلم والجمع بين العلوم الدينية والعلوم التطبيقية ،مما جعله ينشر مشروعه لتعليم أتراك سيبريا من المسلمين في صحيفة البصيرة  في استانبول على شكل مقالات حملت عنوان (برامج التدريس والتعليم في المدارس الاسلامية).


عاد الشيخ بعد ذلك إلى بلاده ليحقق برنامجه فسعى في افتتاح المدارس ومخاطبة الجماهير في المساجد بقصد توحيد جهود المسلمين وتنمية وعيهم ومداركهم .


أثمرت جهود الشيخ باكتسابه ثقة وتقدير التشكيلات المركزية لمسلمي عموم روسيا ،ثم أصبح رئيسا للمنطقة ثم عين نائبا للوالي العام على الأقضية الاسلامية المركزية ب (أوفا ). 


كان إهمال القيصرية الروسية للأتراك المسلمين سببا في توجه الشيخ عبد الرشيد لربطهم بالخلافة العثمانية فراح ينشر ما أسماه بنشرة (لواء الحمد ) يطبعها في استانبول طبع حجر ويحملها إلى روسيا بالزنابيل(أوعية القش) ويوزعها في كل ناحية، وكان يشجع عبرها الأتراك على الهجرة الى الدولة العثمانية مما جعل حوالي السبعين ألف شخصا يتركون أوطانهم ويهاجرون إلى تركيا .


عين الشيخ عبد الرشيد رئيسا لمحكمة شرعية أنشأتها كاترينا الثانية قيصرة روسيا عام 1787 لتجعل منها آلة بيد الحكومة ،فبقي في المنصب ثمانية أشهر خابت بعدها آماله عندما وجد نفسه بدون سلطة حقيقية، فقد كانت المحكمة أشبه بالفخ تمتلكه الحكومة لتوقع به المسلمين فعاف المنصب وعاد بعدها  إلى استانبول حيث طبع كتابا بعنوان (كوكب الزهرة) تحدث فيه عن مستقبل المسلمين في روسيا وفضح فيه المحكمة التي كان فيها وقد هرب الكتاب إلى روسيا ليقرؤه مسلموها . 


وهكذا جمع الشيخ بين التأهيل العلمي المكين و الصلة برجل من المخلصين ومنهجيته الاصلاحية في التعليم بالإفادة من خبرات الخبراء في المجال ،ولم يثنه منصب ولا مال عن كفاحه في سبيل نصرة الاسلام مع قلة المال و انعدام السند إلا من الله تعالى  . 


 الرحالة المسلم ومنجزاته    
 

خرج عبد الرشيد إبراهيم في عام 1907 م للسياحة في مناطق تركستان و بخارى وسمرقند، ثم سيبريا ومنغوليا ومنشوريا واليابان وكوريا والصين وسنغافورة والهند والحجاز والشام ، وهو يقول في ذلك :فضلت أن أقوم بسياحة طويلة امتثالا للأمر القرآني الشريف :(سيروا في الأرض فانظروا) ولم يكن أمامي قائد أو ورائي سائق ،إلا أنني حزمت أمري وأخذت بيدي عصا التوكل وجريا وراء الآمال المقدسة  و إعلاء لكلمة الله بنية خالصة وترويجا لفكرة الاعتصام بحبل الله ،تركت أهلي وعيالي وأطفالي الأعزاء وديعة لله وخرجت إلى الطريق وأنا أقول :يا الله ).


كان هم الشيخ في سياحته الاطلاع على أحوال المسلمين والبحث عن علاج لمشكلاتهم المعيشية والتعليمية و سبر فهمهم للإسلام ومعايشتهم له لتصحيح وتقويم ما اعوج منه ،وكان  يقصد في كل بلد مدارسها ومساجدها ليوجه ويعلم ويصحح ويقوم ،ثم يقابل من يجد إليه سبيلا من المسؤولين وولاة الأمور منافحا عن الإسلام والمسلمين مطالبا بحقوق هؤلاء الأخيرين، ليس معه إلا اعتماده على رب العزة وثقته به تعالى.
 

يعتبر كتاب (عالم اسلام ) الذي جمع فيه عبد الرشيد إبراهيم  رحلاته ومشاهداته أول أثر تركي مكتوب عن المسلمين في قارة آسيا ،وهو يتميز بكونه في معظمه قام على مشاهدات صاحبه وتثبته من الحقائق في مواقع الأحداث ،انتهى المسير بالشيخ في استانبول وكان قد عرف فيها بعد أن نشر قسما من مقالاته عن رحلاته في عدة مجلات ومنشورات فقام بعقد عدة مؤتمرات في مجال التعليم وقام بالوعظ في المساجد ،ولكنه لم يهنأ له عيش عندما علم باحتلال الايطاليين لطرابلس الغرب في ليبيا فرحل إليها  ليشارك في مقاومة المحتل ،وفي عام 1915 شارك في حرب (صار بقامش )بعد أن احتلها الروس وأرسل بعدها من قبل التشكيلات الخاصة من الجيش العثماني إلى ألمانيا ليطلع على أحوال أسرى المسلمين الذي كان يقدر عددهم  بحوالي المئة ألف أسير ،فمكث بينهم يمارس عليهم الوعظ والإرشاد ،وعندما قامت الثورة البلشفية عام 1917 م بذل جهودا كبيرة لدى مسلمي تركستان وما حولها للوقوف في وجه محاولات زعزعتهم عن دينهم وإسلامهم .
 

بعد ذلك عاد إلى استانبول ثم إلى مكة المكرمة حيث التقى بالمسلمين القادمين من اليابان ، فقرر الرحيل إلى اليابان والمكث فيها وبقي فيها داعيا إلى الله تعالى معلما المسلمين دينهم من 1934 إلى 1944 حيث فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها بعد أن استطاع انتزاع اعتراف الدولة بالإسلام دينا رسميا في اليابان وبعد أن قرت عيناه بمسجدين للمسلمين في وسط طوكيو ،وقد أذاعت الإذاعات اليابانية خبر وفاته واهتمت الدولة بدفنه .
 

قيد للشيخ عبد الرشيد إبراهيم شاعر تركي كبير هو محمد عاكف الذي كتب ملحمة بعنوان (من فوق منبر السليمانية ) من 1003 بيتا أو مصراعا ، تروي رحلات عبد الرشيد في آسيا وغيرها ،يقول محمد عاكف في مقدمة ملحمته :من ذا الذي اعتلى المنبر ،إنه شيخ لا أعرفه ،ولكن تلك الملامح التي تجذب القلب، ليست هي وحدها بل عمامته البيضاء ولحيته الطاهرة ناصعة البياض وتلكم جبهته المهيبة ومحياه شديد الايناس كأنه البدر الدوار أحاط بكل مكان ،ما هذه الشهامة التي يبديها وما هذه الملاحة يا رب .
 

إن المرء لا يملك إلا أن يقف مسحورا بتلك الحرية التي انتزعها الشيخ عبد الرشيد من أغلال الأهل والولد و شؤون الحياة ليتحرك بخفة كأنه على بساط ريح يطوي الأرض جيئة وذهابا ،لا يحمل في قلبه إلا غيرته على الإسلام والمسلمين ،ثم إن هذا الاهتمام بأمور المسلمين ليس الدينية فقد بل وحتى المعيشية والتعليمية  والقانونية كم يشير إلى قلب كبير مفعم بحب الله عز وجل والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم ،وهكذا تنتهي سيرة عملاق من عمالقة النهضة الإسلامية فإلى جنة الخلد.