بمناسبة مرور قرن على هجرته إلى مصر الكواكبي يعيد اكتشاف الذات وترتيب البيت


الدكتور عدنان زرزور

- 1 -

عاش عبد الرحمن الكواكبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث كانت الأفكار الإصلاحية يتردد صادها في العالم الإسلامي، ولكنها سرعان ما تجد مستقرها في مصر التي كانت تتمتع في ذلك الحين بقدر من الحرية أو البعد عن الاستبداد الذي كان وما زال يقض مضجع المصلحين!

ولد الشيخ الكواكبي في حلب في شمال سوريا عام 1855، وتنقل بين حلب وأنطاقية للدراسة والتحصيل، حيث تلقى علوم الشريعة واللغة والفلسفة والاقتصاد والسياسة، وأتقن الفارسية والتركية إلى جانب لغته العربية الأم. ولم يجد أبدًا بعد أن اشتغل بالصحافة عاملاً في صحيفة «فرات» ثم مؤسسًا لصحيفة «الشهباء» وهو في الثانية والعشرين من عمره، ثم لصحيفة «اعتدال» بعد إغلاق الشهباء.. لم يجد بدًا من الهجرة إلى مصر عام 1898 قبل مائة عام! وكان يحمل معه مخطوطَتَيْ كتابَيْه الشهيرين: أم القرى وطبائع الاستبداد حيث نشرهما فصولاً في الصحف المصرية وكان لهما وقع كبير في مصر وسائر بقاع العالم الإسلامي.

ونشير فيما يلي إلى معالم دعوته الإصلاحية التي تجعل منه أحد رواد التنوير الحقيقي في العالم الإسلامي. مع بيان منزلة مصر ومكانتها في نظر الكواكبي. ويمكننا أن نعده رحمه الله خير من عبّر عن هذه المكانة في تلك المرحلة الحاسمة أو الخطيرة في حياة العرب والمسلمين. وهي المكانة التي نعتقد أن الأيام لا تزيدها إلا رسوخًا وتمكينًا حتى باتت مصر- كما عبرنا عن ذلك في مناسبة سابقة- هي دليل العالم العربي والإسلامي إلى المستقبل.

احتفظ الكواكبي لمندوب مصر أو لمن كان يُنطقه باسمها في كتابه «أم القرى» أو في جمعية أم القرى بلقب: العلامة المصري، وأجرى على لسانه كما لاحظنا أدق المسائل الفكرية والفقهية. كما اختار لجمعيته الإسلامية التنويرية التي لخص قانونها الداء والدواء.. اختار لها مركزًا مؤقتًا مصر التي وصفها بأنها «دار العلم والحرية». وأشار في سياق حديثه عن آل بيت عباس الثاني أو الأسرة الحاكمة في مصر إلى قصب السبق الذي حازوه في «الاطلاع على أحوال الدنيا، فاجتهدوا في الترقيات السياسية والعمرانية والتنظيمية والمدنية..» بل وصل الأمر به إلى القول: «إن النهضة العثمانية بكل فروعها مسبوقة في مصر ومقتبسه عنها، ولا غرو فقد يحمل الابن أباه على الرشد وإن أباه»! ثم يقول: «ولولا تهاون سعيد وتطاول إسماعيل وسقوط نفوذ الفرنسيين بحرب السبعين، وانفراد الإنجليز.. وتهاتر قوات الدول بتوازنها لبقيت تلك الحركة- النهضة- مستمرة، ولما رجع الشيخ إلى دور الانحلال، ولا وقع الابن في دور الاحتلال».

وهنا نحن اليوم نشهد شعب مصر بعد مائة عام من هجرة الكواكبي إليها يصفع العدوان الهمجي على العراق.. حيث انطلقت جماهيرية وطلائعه الطلابية بكل عزم وتصميم وعفوية ودوافع ذاتية في مظاهرات حاشدة لا من الجامع الأزهر وجامعة القاهرة فحسب، بل من الجامعة الأمريكية كذلك وفي موسم الامتحانات لتعلن أن تلقي العلوم والمعارف في هذه الجامعة لم ينتقض من وطنية شباب مصر ولا من انتمائهم إلى عروبتهم وإسلامهم، وأن واحدًا منهم لن يتخلى في يوم من الأيام عن شعبه ولا عن أمته العربية والإسلامية أيًّا كانت السياسات وأيًّا كانت الأهواء والمصالح. علمًا أن هذا يحصل في زمن الاستكانة والتطبيع، والخنوع والاستسلام الاستراتيجي!!

لم يخطئ الكواكبي ولا غيره من أعلام النهضة وروادها في العالم العربي والإسلامي- وما أكثرهم- حين اتخذوا من أرض الكنانة مهاجرًا ووطنًا.. ولسوف تبقى مصر دارًا للعلم والحرية كما وصفها الكواكبي رحمه الله. ولسوف تبقى كذلك خير من يحمي العروبة ويدافع عن الإسلام.

- 2 -

أما معالم الدعوة الإصلاحية التي نهض بها الرحّالة كافٍ- كما سمى الكواكبي نفسه في كثير من مقالاته- فقد أسسها على تصويره للداء الذي انتهى بالمسلمين إلى حالة الركود التي كانوا عليها في أواخر العهد العثماني أو في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، وهي التي أسماها حالة الفتور أو الانحطاط. ويتصدر الاستبداد أو «استحكام الاستبداد في الأمراء» بحسب عبارته أسباب هذا الداء، بحيث يمكننا القول أن الكواكبي يرى أن الاستبداد هو علة العلل. وفي ذلك يقول في الصفحة الأولى من كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»: «قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء- الانحطاط- هو الاستبداد السياسي، ودواؤه: دفعه بالشورى الدستورية». وقد ارتقى الكواكبي في فهمه للاستبداد وضيقه به وبصره بدوافعه وآثاره في الدين والعلم والمجد والأخلاق والتربية على النحو المعهود في فصول كتابة المذكورة إلى الحد الذي وضع له التعريفات والحدود في اللغة والاصطلاح! ويكفينا من هذه التعريفات قوله إن الاستبداد في اللغة هو استئثار المرء فيما تجب عليه المشاركة فيه. وفي الاصطلاح: «هو تصرف فرد في حقوق القوم بلا حسيب ولا رقيب» وإن كان قد ذكر أن الاستبداد يمكن أن يقوم به فرد أو جماعة، الأمر الذي يدل على رفضه للحكم الشمولي وديكتاتورية الحزب الواحد في هذا الوقت المبكر، مع تركيزه الشديد على الاستبداد السياسي حتى إنه قال: «ويراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصة» أي الاستبداد السياسي. وقد وصف المستبد بأنه «الذي يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإراداتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم والذي يعلم من نفسه أنه الغاضب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته» ومع ذلك فإن المستبد كما يقول أو كما يضيف الكواكبي: «يود أن تكون رعيته كالغنم درًا وطاعة وكالكلاب تذبلاً وتملقًا»..

في القاموس: تذبل: تلوّى وتذبل فلان: ألقى ثيابه إلا واحدًا.

ولا يصعب على الناظر في أسباب الفتور العام التي ذكرها الكواكبي إلى جانب حديثه الموسع عن الاستبداد وعن علاجه بالشورى الدستورية، أن انتهاك حقوق الإنسان في نظره هو جوهر الاستبداد وأن المشاركة هي جوهر الشورى ومن هنا اشتدت حملته على أهل الحل والعقد الذين يتركون «الاحتساب جهلاً وجبانة»! وعلى «العلماء المتملقين المنافقين الذين يتصاغرون لدى الأمراء ويتذللون لهم، ويحرفون أحكام الدين ليوفقها على أهوائهم»! ولهذا فإنه لم يشك في أن أفضل الجهاد في الله: الحط من قدر هؤلاء العلماء عند العامة وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين! في الوقت الذي لاحظ أن ترقي الحكومات الإسلامية من عهد الرسالة إلى الآن وانحطاطها كانا تابعين لقوة أو ضعف احتساب أهل الحل والعقد ومدى اشتراكهم في تدبير شئون الأمة.

- 3 -

لقد عدد الكواكبي عشرات الأسباب الدينية والسياسية والأخلاقية للفتور العام أو للانحطاط الذي وقع فيه العالم الإسلامي إلى جانب الأسباب السياسية والإدارية الجارية في المملكة العثمانية، وقد ذكر هذه الأسباب جميعها وصنفها على هذا النحو في الاجتماع السابع لجمعية أم القرى، والذي أرّخه بيوم الأربعاء في 24 من ذي القعدة 1316هـ.

وعد من الأسباب الدينية تأثير عقدية الجبر في أفكار الأمة والذهول عن سماحة الدين وسهولة التدين به وإدخال العلماء المدلسين على الدين مقتبسات كتابية وخرافات وبدعا مضرة والتعصب للمذاهب ولآراء المتأخرين وهجر النصوص ومسلك السلف، واعتقاد منافاة العلوم الحكيمة والعقلية للدين.

وكان قد أجرى على لسان بعض أعضاء جمعيته وهو الرياضي الكردي أن من هذه الأسباب المهمة «أن علماءنا اقتصروا على العلوم الدينية وبعض الرياضيات وأهملوا باقي العلوم الرياضية والطبيعية.. فقد أهلها من بين المسلمين واندرست كتبها وانقطعت علاقتها.. بل صار المتطلع إليها منهم يُفسق ويرمي بالزيغ والزندقة، على حين أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب وعلى كر القرون ترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في كافة الشئون المادية والأدبية حتى صارت كالشمس لا حياة لذي حياة إلا بنورها..

وذكر أن «الأمل بعناية الله أن المسلمين بعد زمان قصير أو طويل لابد أن يلتفتوا لهذا لعلوم النافية فيستعبدوا نشأتهم بل يجلبوا إلى دينهم العالم المتمدن، لأن نور المعارف على قدر إبعاده العقلاء عن النصرانية وأمثالها يقربهم من الإسلامية لأن الدين المملوء بالخرفات والعقل المتنور لا يجتمعان في دماغ واحد».

قلت: ولا تحتاج هذه الدعوى إلى العناية بالعلوم التجريبية والأخذ بأسباب التقدم العلمي في دين يرفض الخرافة إلى تعليق. كما أن محاربته لعقيدة الجبر ودعوته للسماحة ونبذ التعصب وإلى إعادة الاعتبار للعلوم الحكيمة أو الفلسفية والعقلية لا تحتاج إلى تعليق أيضًا.

وربما كان في وسعنا ملاحظة أثر هذه العلوم عنده في تحديد «وظائف الشورى العامة» التي قال إنها ينبغي ألا تخرج عن تمحيص أمهات المسائل الدينية التي لها تعلق مهم في سياسة الأمة وتأثير قوي في أخلاقها ونشاطها لأنه ربط هذه الوظائف بما أسماه مقتضيات الحكمة الزمانية ويعني بذلك ضرورات العصر أو إملاءات الواقع التي نلاحظ بالعقل والاجتهاد مثل «سد أبواب الانقياد المطلق ولو لمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكفتح بابًا أخذ العلوم والفنون النافعة ولو عن المجوس! وسد أبواب الغارات والاسترقاق».

- 4 -

وتبقى الإشارة أخيرًا إلى أن هذه الدعوة الإصلاحية التي قامت على نقد الذات أو على إعادة اكتشافها مرة أخرى بعيدًا عن قوالب العلمانية والتقليد وأزياء الفكر الغربي تمثلت عند الكواكبي أو توجت بالدعوة إلى الخلافة العربية أو إلى وحدة الملك والدين على يد العرب أو بعبارة أخرى: اقتران السياسة العربية الشورية بالإسلام الصحيح، وقد أشار الكواكبي في أكثر من موضع في كتابه «أم القرى» إلى أن إدارة الدين وإدارة الملك لم تتحدا في الإسلام تمامًا إلا في ظل الحكم العربي وقد ذكر بعض مزايا للعرب لغةً وجنسًا وأخلاقًا تجعل منهم «الوسيلة الوحيدة لجمع الكلمة الدينية بل الكلمة الشرقية» و«أن حضرات آل عثمان العظام أنفسهم إذا تدبروا لا يجدون وسيلة لتجديد حياتهم السياسية أفضل من اجتماعهم مع غيرهم على خليفة قرشي».

قلت: وتفصيل القول في هذه الدعوة التي لم تكن تحمل في طياتها أي معنى من معاني التعصب أو المفهوم الجاهلي للقومية.. يحتاج إلى مقالات أخرى وعلى الله قصد السبيل..