من مآثر الشيخ محمد علي المراد

من مآثر الشيخ محمد علي المراد (1)
 
هناك من تلتقي به فيترك له بصمة رائعة في نفسك، وذكرى عطرة في وجدانك، وكأن ذلك انعكاسا عن أثر قبول أكرمه الله به ، أو إشعاع نور صدق وإخلاص صادر من مرآة قلبه فلامس أفئدة من عاشره ، ومن هؤلاء الذين تبقى لهم صورة محببة لا تغيب من الخيال الشيخ محمد علي المراد الرئيس السابق لجمعية علماء حماة ، والمهاجر لمدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم ودفين البقيع.
 
تعود معرفتي به لأيام الطفولة عندما كان يزور الوالد رحمه الله في بيت ضيافته العامر المسمى بعرف أهل حماة بـ (المنزول) ، فكنت أرى هيبة العلم وجلالته، فيتحول المجلس عند حضوره لحلقة علم وأدب ، وموعظة وإرشاد ، ثم عندما أصبحت شابا يافعا صرت أراه في زيارة مجلس العارف الرباني الشيخ محمود الشقفة رحمه الله مع كوكبة من العلماء منهم الشيخ وهبي سليمان غاوجي الألباني رحمه الله، فتشعر كأنك أمام شمس ساطعة بالتقى والنور، حولها كواكب علم متلألئة .
 
ثم مرت السنون وتوثقت العلاقة فتبين لي جوانب من شخصية الشيخ ما كنت أدركها فأصبحت أرى فيه الفقيه المدقق وكأن الفقه يجري في عروقه، والثبات على الحق ، وإذا ما زرته لا يخلو مجلسه من دعابة لطيفة ، فيباسطك بكلمات رقيقة قائلا: (هل لا زلت متمسكا بجنسيتك الحواضرية – نسبة إلى حي الحاضر في حماة-) وذلك لأني تزوجت من عائلته السُوَقِية – نسبة لمنطقة السوق في حماة- ، فأجيبه مازحاً  : وهل يليق يا سيدنا أن يتخلى المرء عن أصله ، فيُسر أيما سرور  ، وبجانب هذا كله يتميز بقلبه الرقيق، وإحساسه المرهف ، ودمعته الغزيرة،  وأسجل هنا موقفين عايشتهما من حياة الشيخ:
 
الموقف الأول : وفاء عجيب ، وغيرة وحمية على علماء الأمة لا توصف:
 مكالمة هاتفية مع الشيخ لا أنساها في حياتي، حيث إنني اتصلت بالشيخ لأستوضح منه موقفا حول ما أثاره بعضهم عن علاقة بين عالمين ربانيين كانا لحماة كالوالدين ، لقيا الله وكان لهما فضل كبير على البلد وأهلها علما وتربية ، فعندما بادرته بالسؤال عن ذلك الشيخ ، وإذا بي أفاجأ كأن سؤالي وقع عليه كالصاعقة ، لمجرد أنني سألته هل كان بين الشيخين قطيعة ، وإذا بالشيخ محمد علي يبكي بكاء مراً، فوالله إني لأسمع له نحيباً وشهيقاً، وتحولت المكالمة وكأنها مناحة، وصرت أعتذر من الشيخ عن سؤالي!! ، وتمر دقائق أتكلم وأعتذر ولا أسمع إلا نشيج البكاء، فلقد نسيت الموضوع الذي لأجله اتصلت ، ثم هدأ الشيخ قليلا وقال لي: (هل من المناسب أن تسألني هذا السؤال في هذا الوقت ولم يمض على وفاة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة إلا أيام ، وقلبي محزون على فقده ، يا خلدون أتريد أن تجرح فؤادي مرتين ؟ ، ألا يكفي ما حل بي ؟، ثم تزيد على ذلك سؤالك عن هذا الشيخ الجليل الذي أتقرب إلى الله بذكره ، وأرجو أن يرحمني به، ثم قال : إن هؤلاء لا يريدون أن يتركوا عالما إلا ويحالون تشويه سمعته، نعم قل لهم : كان الشيخان متواصلين متحابين، وشهدت ذلك بنفسي إلى آخر فترة من حياتهما).
 
اعتذرت من الشيخ أشد الاعتذار ، وكم أكبرته في نفسي، وعظم في عيني ، ثم خاطبت نفسي قائلا: لو سمعت عن بعض شيوخك أو إخوانك كلاما لا يليق هل تتأثر مثل هذا التأثر، وهل تبكي مثل هذا البكاء المر، وهل عندك مثل الحمية والغيرة على علمائنا الكرام.
 
الموقف الثاني : حسن ظنه بربه ، واستبشاره بلقاء الله
في زيارة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبعد التشرف بالسلام عليه ، والصلاة في روضته المباركة ، وإذا بأحد الأحبة المجاورين للحبيب ، يشع وجهه نوراً وإيماناً، يدعى بالحاج إسماعيل والملقب بـ (أبي السباع)، معروف بالنخوة والشهامة ، والإدلال على الله سبحانه، وتقديم الفطور للصائمين في المسجد النبوي، يقول لي : ألا تزور الشيخ محمد علي في بيته، فلقد بلغ به المرض مبلغا عظيماً، فذهبت في معيته لعيادة الشيخ ، فوصلنا البيت واستأذنا بالدخول فأُذن لنا، وإذا بالبيت مستلق على فراشه ، تعتريه الآلام ، وقد ثقلت حركته، فسلمنا على الشيخ وتأكدنا من معرفته لنا ، وإذا بالحاج إسماعيل يتكلم بطريقة عجيبة مع الشيخ ، فيقول له: بلغني أنك خائف من الموت ؟ ، فأجابه: هذا غير صحيح ، فيعيد له : أنا هكذا سمعت ، لماذا تخاف ؟ سبحان الله أمثلك يخاف من الموت؟ طيب يا شيخ موت ما المشكلة؟  أنت الذي ربيت الأجيال ، وعلمتنا وأدبتنا ثم تخاف الموت ؟ أنت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وجواره ؟ أنت على مسافة قريبة من البقيع ؟ والله لو أنك جئتني ضيفاً لذبحت لك طليا (كبشا من الغنم ) ، فكيف لو نزلت بضيافة أكرم الأكرمين ، فينهض الشيخ وكأنه نشط من عقال ويخاطبه قائلا بثقة واستبشار : الحمد لله ، أنا لست خائفاً، أنا أرجو رحمة ربي .
 فقلت له: سيدي أتأذن لي أن أقول أمامكم أبياتا أوصى بها ابن الجوزي رحمه الله أن تكتب على قبره ، فقال: قل .
 
 فتلوت عليه هذه الأبيات:
يـــا كثـــير العفـــو عمــن
***
كــــثـر الــــذنب لـديـــه
جــــاءك المـــذنب يرجـــو
***
الصفـــح عـــن جــرم يديــه
أنـــــا ضيـــف وجــــزاء
***
الضيــــف إحســــان إليـــه


 
وإذا بالشيخ يتهلل وجهه ويرفع صوته : نعم والله، هو ضيف الله ، ولن يخيب الله رجاه ، والحمد لله ، ونسأله أن يتولانا برحماته.
ثم طلب مني أبو السباع قصيدة في حب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : سيدي إنني أحب قصيدة للشيخ محمود الشقفة قال في حب الحبيب يقول فيها:
 
ألا يا رسول الله يا خير شافعا***ومن هو حقا للأنام رسول
شفاء سقامي من علاك بنظرة *** فهل منك إنعام بها وقبول  
على بابك العالي وقفت مؤملا ****وما خاب في باب النبي نزيل
 
..........، وإذا بالشيخ يتهلل وجهه ، وتشرق أنوار الإيمان في محياه ، ويعبر عن حبه ورضاه قائلا :
هنيئا هنيئا للمحبين لرسول الله ، وأنعم علينا بالقبول ، وأكرمنا بالرضى ، والحمد لله ، ورضينا بقضائه وقدره.
ودعنا الشيخ فكان في أهنأ حالة رأيناه ، وبعد أيام بلغنا وفاته ، فأكرمه ربي بالصلاة عليه في مسجده رسوله، والدفن في جنة البقيع، فرحمة الله عليه ، وأجزل مثوبته .