الشيخ جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي،

 
في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من سنة 1332=1914 توفي في دمشق، عن 49 عاماً، الشيخ جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي، إمام الشام في عصره، علماً بالدين وتضلعاً من فنون الأدب.
ولد الشيخ القاسمي سنة 1283=1866 في دمشق لأسرة عريقة في العلم والأدب، عُرفت كذلك بآل الحلاق، والقاسمي نسبة للجد الشيخ قاسم، وكان والده الشيخ محمد سعيد المولود سنة 1259=1843 والمتوفى سنة 1317= 1900، أديباً عالماً، كان إمام جامع السنانية وكانت له فيه دروس نهارية ومسائية، ومن أبرز كتبه كتاب بدائع الغرف في الصناعات والحِرف، رتبه على الحروف، وبلغ فيه أواخر حرف السين، فأكمله ابنه الشيخ جمال الدين مشتركا مع خليل بن أسعد العظم، وسمياه قاموس الصناعات الشامية، وله كتاب سفينة الفرج فيما هب ودب ودرج، وقد هذبه وحققه الأستاذ محمد خير رمضان يوسف، ونشره فضيلة الشيخ نظام يعقوبي.
 
أما قاسم جد الشيخ جمال الدين، المولود سنة 1221=1806 والمتوفى سنة 1284=1867، فكان من مشايخ دمشق وفقهائها، ألف منسكاً في فقه الحج، وكان كذلك إماماً في جامع حسان ثم في جامع السنانية، وقد ألف ابنه محمد سعيد كتاباً في سيرته أسماه الثغر الباسم في سيرة الشيخ قاسم.
 
نشأ الشيخ جمال الدين القاسمي في كنف والده، وتلقى عنه مبادئ العلوم العربية والشرعية، وما أن أكمل الثالثة عشرة حتى كان قد حفظ القرآن الكريم وأتقن الخط العربي، ودرس على كثير من علماء دمشق في زمانه من أبرزهم الشيخ بكري بن حامد العطار، المتوفى سنة 1321، وهو محدث من أشهر علماء دمشق وفقهاء الشافعية فيها، وصحب الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري، المولود سنة 1252=1858 والمتوفى سنة 1338=1920، فاستفاد من صحبته علماً بحال العصر، ومعرفة بنوادر الكتب وغرائب المسائل، وحضر مجالس الشيخ عبد الرزاق البيطار، المولود سنة 1253=1837 والمتوفى سنة 1335=1916، وتأثر به في منهجه السلفي، وصحب العالم المفتي الشيخ سليم البخاري، المولود سنة 1268= 1851 والمتوفى سنة 1348= 1928.
 
وأخذ القاسمي الطريقة النقشبندية عن الشيخ المحقق محمد بن محمد الخاني، ولازم حلقته مدة ثم تركها لأمر لم يوضحه هو، ولكنه قال عن الشيخ الخاني: من أفضل أشياخي الذين انتفعت بمجالسهم ... وكان يحضني دائماً على تأليف رسائل في بعض مباحث علمية، وأريته كثيراً مما جمعته فسُرَّ به.
 
وكان من لِدات جمال الدين القاسمي في شبابه رجالُ النهضة العلمية مثل الأستاذ المحقق المفكر رفيق بك العظم، المولود بدمشق سنة 1284=1867 والمتوفى بالقاهرة سنة 1343=1925، والأستاذ العلامة محمد كرد علي، المولود سنة 1293=1876 والمتوفى سنة 1372=1953، الذي نشر للقاسمي في مجلته المقتبس كثيراً من كتبه، وكان يرسل إليه المجلة لينظر في أخطائها النحوية والصرفية.
 
وانتدب الوالي العثماني الشيخ القاسمي سنة 1308 ليرحل في القرى والبلاد السورية وإلقاء الدروس الدينية العامة، فأقام في عمله هذا أربع سنوات، ثم عاد إلى دمشق، وشارك في جلسة علمية مع بعض علماء دمشق وطلبة العلم فيها، فاتهمهم بعض الحساد لدى الوالي العثماني في دمشق ببعض التهم الباطلة، وعلى رأسها تأسيس مذهب جديد في الدين، فاستدعي في سنة 1313 للتحقيق أمام مفتي دمشق وقاض من قضاتها، وتشدد المفتي معه، ولم يقبل منه ما قاله من ردٍّ للتهمة، وأوقع العقوبة به لكونه أصغر المشاركين، ولكن القاضي كان منصفاً عادلاً فنقل للوالي زيف الادعاء وبطلان التهمة، فأخلي سبيله، واعتذر إليه والي دمشق. وقد رد رحمه الله هذه التهمة مبيناً أن غرضه إحياء الاجتهاد العلمي فقال في كتابه إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق، والذي كتبه عندما تردد بعض العلماء في الأخذ بالاتصالات السلكية وسيلة لنقل الكلام والمعلومات من بلد إلى آخر: وإن مراد الإصلاح العلمي بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد، وإنما المراد إنهاض رواد العلم، لتعرف المسائل بأدلتها.
وحول تهمة المذهب الجمالي نظم الشيخ القاسمي رحمه الله هذه الأبيات:
 
زعم الناس بأني مذهبي يدعى الجمالي
وإليه حينما أفتي الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني ... سلفيّ الانتحال
مذهبي ما في كتاب الله ربي المتعالي
ثم ما صح من الأخبار، لا قيل وقال
أقتفي الحق ولا ... أرضى بآراء الرجال
وأرى التقليد جهلاً ... وعمى في كل حال
 
وبعد هذه المحنة الوجيزة توجه نشاط الشيخ للتحقيق العلمي وانقطع في منزله للتصنيف إلى جانب خطبة الجمعة وبعض الدروس في التفسير والعلوم الشرعية والعربية، ونشر بحوثا كثيرة في المجلات والصحف، وقد وصفه بذلك السيد محمد رشيد رضا في معرض حديثه عن زيارته لدمشق سنة 1326= 1908فقال: الأستاذ العامل المجِدُّ الذي يقتل وقته كله في التدريس والتصنيف وتصحيح الكتب النافعة: الشيخ جمال الدين القاسمي، أدام اللهُ النفعَ بعلمه وعمله.
 
وقد جعلت هذه المحنة القاسمي يلاحظ الجمود الذي صار إليه كثير من علماء عصره، واعتمادهم على أقوال الفقهاء من قبلهم دون بحث أو مراجعة، فأدرك أن إصلاح هؤلاء يتم ليس بالاستشهاد بالقرآن الكريم والسنة النبوية فحسب، بل بأقوال الفقهاء الأقدمين، لذلك عمد إلى الإكثار من النقل عنهم، فإذا اعترض خصومه على أقواله فما كان لهم أن يعترضوا  على أقوال أئمة السلف من الفقهاء الكبار.
 
كان القاسمي مثالا لعلماء السلف في تعدد معارفه، وإلمامه بكل ما ينبغي علمه للمجتهد، دون أن يشغله ذلك عن التدريس والوعظ واللقاء بالناس، قال الأستاذ محمد كرد علي: وبينما ترى القاسمي على قدم السلف الصالح، عالما كبيرا بين الفقهاء، والأصوليين، والمحدثين، والمفسرين، إذا هو من المختصين بالأدب، وبينما تراه يؤلف إذا بك تراه يواظب على التدريس لطلبته، أو وعظه المستمعين في دروسه وخطبه، ومع كل هذه الأعمال تراه يهش ويبش كل ساعة، ويفسح من وقته شطرا ليغشى مجلسه أخلاؤه وطلاب الفوائد منه.
 
زار القاسمي مصر سنة 1321 مع الشيخ عبد الرزاق البيطار والتقى بالإمام محمد عبده، فاغتبطا بلقائه واغتبط بلقائهما، وصارت المكاتبة بعد ذلك متصلة بينه وبينهما، وزار المدينة المنورة في سنة 1328، مع صهره خليل بك العظم، والتقى فيها بالسيد أحمد البرزنجي مفتي الشافعية فيها، وكعادة العلماء زار فيها مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمة والمكتبة المحمودية، وتمنى لو يتاح له الإقامة في المدينة المنورة نحو عام، لينسخ تلك الكتب المهمة الموجودة فيها، ولا يفوته بروح الرحالة الدقيق أن يذكر في مذكراته عن الرحلة عدد ما في هذه المكتبات وغيرها، نذكرها هنا للفائدة: مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمة 5404 كتب، المكتبة المحمودية 4569 كتاباً، مكتبة بشير آغا عند باب السلام 2063 كتاباً، مكتبة شيخ الإسلام فيض الله أفندي 1246 كتاباً، مكتبة عمر أفندي قره باش 1269 كتاباً.
 
وقد أخرج الشيخ جمال الدين القاسمي في عمره الذي لم يتجاوز 50 عاماً مجموعة من الكتب والرسائل، وهي مجموعة مباركة في هذا العمر غير الطويل، لمن له زوجة وسبعة أولاد، وإمامة للأوقات الخمس، سيما إذا عرفنا أنه كتب تفسيره بيده؛ الآيات القرانية بالأحمر والتفسير بالأسود، وهذه بركة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أورد السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار قرابة 80 مؤلفاً للشيخ القاسمي ما بين كتب كبيرة ورسائل صغيرة، وأشار أن له رسائل مختصرات لا تغني عنها المطولات، وقد ذكرنا من قبل إكماله لكتاب والده عن الصناعات الدمشقية، ونورد هنا بعض مؤلفاته متوخين إظهار تنوع مواضيعها وشمولها للتفسير وأصول الفقه والفقه ومصطلح الحديث والحديث والعقائد والأدب: تفسيره المسمى محاسن التأويل،  وهو في 17 مجلدًا، وأشرف على طباعته الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، كتاب إصلاح المساجد من البدع والعوائد، كتاب قواعد التحديث من فن مصطلح الحديث، كتاب تاريخ الجهمية والمعتزلة، كتاب العقود النظيمة في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه العظيمة، ومحاسن شريعته القويمة، رسالة في أوامر من مشايخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي، بيت القصيد في ديوان الإمام الوالد السعيد، تعطير المشامّ في مآثر دمشق الشام، في أربع مجلدات، كتاب شرف الأسباط.
 
وحول هذا الكتاب الأخير كتب الأستاذ محمد رشيد رضا: ووالدته علوية يتصل نسبها بنسب الشيخ إبراهيم الدسوقي الشهير، وقد عُنيَ الفقيد في آخر عمره بإثبات هذا النسب، وكتب له شجرة، وجاء مصر في العام الماضي لشؤون تتعلق بذلك فسررنا بلقائه، وجددنا ما لا تُخلِقه الأيام من عهود إخائه، وكتبنا له كما أحب كلمات على نسبه. وقد صار بعض تلاميذه وأصحابه يطلقون عليه لقب (السيد) بعد تحرير هذا النسب؛ بناء على القول بعموم شرف الأسباط، ولكن العرف الذي عليه أكثر المسلمين على خلاف هذا القول، والشيخ غني عن هذا اللقب، الذي لا يفهم المراد منه أحد.
 
وقد تتلمذ على الشيخ جمال الدين القاسمي عدد غفير من علماء وطلبة العلم في الشام ومن دمشق بخاصة،  ومنهم العلم مؤلف الأعلام الأستاذ خير الدين الزركلي الذي وصفه ترجمته بإمام الشام في عصره، وأشار إليه في أكثر من موضع بلفظ شيخنا، ومنهم الفقيه المؤرخ محمد جميل الشطي، المولود سنة 1300= 1882 والمتوفى سنة 1379=1959، وممن درس عليه وينبغي الإشارة له الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن مانع المولود في عنيزة بنجد سنة 1300=1883 والمدفون بقطر سنة 1385=1965، والذي انتهت به مسيرته في التعليم والقضاء أن صار رئيس الإفتاء والقضاء في قطر.
 
واجه الشيخ جمال الدين معارضة من المشايخ التقليديين في دمشق، وذلك لاعتراضه على الأسلوب السائد بينهم والذي يعتمد على اتباع أقوال كتب المذاهب الفقهية دون الرجوع إلى مصادر الاستدلال أومقارنة الأدلة، ومن الطبيعي أن مثل هذه الدعوة لو اتسع نطاقها لتشمل كل القضايا الفقهية لأدت إلى نشوء مذهب فقهي جديد، في حين أن القاسمي في نظر نفسه ونظر معاصريه لم يكن إماماً ممن يحق لهم فتح باب الاجتهاد والاستدلال، ورأى كثير من المشايخ في اجتهادات القاسمي تحقيراً للأئمة وكثير من علماء الأمة، والحق أن الشيخ جمال الدين القاسمي كان بحاثة محققاً يحق له الاجتهاد فيما بحث من قضايا، ولكن أسلوب معارضيه خرج بالقضية من اجتهاد علمي إلى خصومة عبثية لا طائل من ورائها، وقضية الاجتهاد خارج المذهب قضية تكررت في كل بلد وتعود في كل بضعة عقود، وهناك إشكالان كبيران فيها يساهمان في جعلها قضية حساسة لدى قطاع كبير من العلماء: أولهما الأسلوب الهجومي الذي يتبعه عادة الطرف المجتهد ويستهدف في الغالب آراء المذهبين الحنفي ثم الشافعي، والثاني اتجاهها في الغالب للقضايا الثانوية، وتركها القضايا الأساسية والجوهرية في مصالح البلاد والعباد.
 
والشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى مجتهد في بعض كتبه، مقلد في بعضها، فقيه دقيق في بعضها، وأديب مسترسل في بعضها، ولكنه مصلح اجتماعي في كلها، فكتبه ليست على نسق واحد أو منهج التزمه فلم يحد عنه، وقد تحدث عن ذلك السيد محمد رشيد رضا فقال: سيقول كثير من الناس: إنك عددت القاسمي من رجال الإصلاح، وإن أسماء كثير من هذه الكتب التي صنفها أو شرحها تدل على أنها ليست من الإصلاح في ورد ولا صدر، ولا تشتمل على عين منه ولا أثر؛ فكيف يضيع العالم المصلح وقته في شرح لغز، أو ما يعد أبعد عن الإصلاح من اللغز؟
 
ثم أجاب السيد عن ذلك بقوله: إن الرجل كان من خيار مصلحي المسلمين في هذا العصر، وإن لم يدخل كل ما كتبه في باب الإصلاح الذي يفهمه قراء المنار، فمسمى الإصلاح ومفهومه واسع، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان ... فهل يطلب ممن عاش خمسين، ترك فيها من هذه الكتب والرسائل نحوًا من سبعين، أن يكون جميع ما كتبه أو شرحه إصلاحاً في الدنيا والدين، مرضياً عند الكهول المجربين، والشيوخ المحنكين؟
 
وقد يكون التفسير الأقرب لاختلاف المنهج في مؤلفات الشيخ القاسمي أنه ابتدأ تقليدياً وانتهى مجتهداً، وأيا كان فلا شك أن عدداً من مؤلفاته تحمل سمة التفكير والبحث المستقل بعيداً عن التأثر بآراء الآخرين، وأبرزها في هذا المجال كتابيه تاريخ الجهمية والمعتزلة وكتاب ميزان الجرح والتعديل، فقد تناول الموضوع بطريقة علمية بحتة تبتعد عن الأحكام المسبقة والأقوال الشائعة، فأحسن فيه وأنصف، قال السيد محمد رشيد رضا عن كتاب تاريخ الجهمية والمعتزلة: لم يكتب أحد في هذا العصر كتابة أعدل منها في التأليف بين فرق المسلمين الكبرى، وهم أهل السنة الأثرية والأشاعرة والمعتزلة والشيعة والخوارج ... وقد اتهم الفقيد بعض السلفيين بأنه خالف مذهب السلف في رسالته، وقد كتب بعض علماء الشيعة ردًّا عليها قبل إتمام نشرها.
 
أما كتاب ميزان الجرح والتعديل، فلعل من الخير أن ندل عليه بفقرة منه، قال الشيخ رحمه الله: وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي، فلا تكاد تجد اسمًا لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن، وإنْ كنت أعدّ ذلك في البعض تعصبًا، إذ يرى المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمل عنه، ويستفاد من عقله وعلمه، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية، تسعى في القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في جميع مآتيها، وتستعمل في سبيل ذلك كل ما قدر لها من مستطاعها كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم، ومظاهر ما أوتيته من سلطان وقوة، ولقد وجد لبعض المحدثين تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم التخالف، ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفاً على فئة معينة دون غيرها، والمنصف من دقق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بعد.
 
تعرض الشيخ جمال الدين القاسمي في رمضان سنة 1327، قبل وفاته بخمس سنوات، إلى إشكال آخر مع الحكومة العثمانية، فقد جرت الإطاحة بالسلطان عبد الحميد قبل بضعة أشهر فيما سمي بالانقلاب العثماني، وجاء السلطان محمد رشاد الذي أعلن الدستور العثماني، وأعقب هذا عودة كثير من الحريات التي كانت مقيدة، ومعها كثير من الفوضى والاضطراب، وانتهز بعض الخصوم في الشام الوضع ليتهموا خصومهم بالتآمر على الدولة، وكان سهم الاتهام موجهاً إلى الأستاذ محمد كرد علي ومجلة المقتبس، ولكنه طال القاسمي والشيخ عبد الرزاق البيطار والوجيه عبد الرحمن بك اليوسف الزركلي، ومدار التهمة أنهم يسعون لتكوين دولة عربية وخلافة جديدة، فبادر الوالي العثماني إلى استجوابهم والتحقيق العلني في القضية، دون تروٍ أو تأمل، مما سبب لغطاً كبيراً وإحراجاً شديداً للمتهمين، ثم ما لبث أن تبين زيف هذه الادعاءات وبعد هؤلاء عنها، فطوي التحقيق واندثرت المسألة.
 
وصف الشيخَ القاسمي الأستاذُ محمد رشيد رضا في تأبينه له في مجلة المنار فقال: كان من أكمل ما رأيت في أخلاقه وآدابه وشمائله: كان أبيض اللون نحيف الجسم ربعة القد، أقرب إلى القصر منه إلى الطول، غضيض الطرف، كثير الإطراق، خافض الصوت، ثقيل السمع، خفيف الروح، دائم التبسم. وكان تقيًّا ناسكًا، واسع الحلم، سليم القلب، نزيه النفس واللسان والقلم، برًّا بالأهل، وفيًّا للإخوان، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، عائلاً عفيفاً قانعاً.
 
كان له رحمه الله تعالى دروع سابغات من أخلاقه وسيرته تقيه بغي أعداء العلم والإصلاح من حسّاده؛ إذ كان نزيه اللسان، بعيداً عن المراء والجدال، متجنباً للإزراء بغيره، والتعريض بغميزة خصمه أو مدح نفسه، غير مزاحم لوارثي العمائم على الحطام، ولا مسابق لهم إلى أبواب الحكام، إلى ما كان عليه من العبادة، والعفة والاستقامة.
 
ومن أبرز أولاد الشيخ جمال الدين ابنه الأستاذ ظافر القاسمي رحمه الله تعالى، الذي ولد في سنة 1331=1913 قبيل وفاة والده، ودرس المحاماة في دمشق، وانتخب نقيباً للمحامين في سورية سنة 1375=1955، وتوفي سنة 1404=1984، وكان من أصدقاء والدي رحمهما الله تعالى، وقد تابع نشر كتب والده فنشر سنة 1353كتاب قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، وألف كتاباً عن والده، أورد فيه بعضاً من أقوال والده تدل على روحه ومشربه نوردها لتكون مسك الختام:
 
لا نسرُّ بشيء مطلقاً كما نسر بالانتقاد، لأنه إما أن يبين خطأ ارتكبناه نحن فنصلحه، أو خطأً ارتكبه المنتقد في إدراك غرضنا فنصلحه له.
الحق يُصرع إذا عُمِد إلى إظهاره بالسباب والشتائم.
العاقل لا ينتصر لرأيه الذاتي، ولا يصر عليه، بل يعتبره خاطراً سنح له، فربما كان صواباً أو خطأً.
نشرت الترجمة 2009 وأعيد نشرها اليوم