العالم الطبيب عمر خياطة - الشيخ العالم
ترجمة العلامة الطبيب الشيخ عمر خياطة رحمه الله

مولده ونشأته:

ولد رحمه الله في حي الجلوم بحلب في اليوم الخامس من أيام عيد الأضحى عام 1328هـ الموافق شتاء سنة 1910م، من بيت عُرف بالفضل والتقوى، ومن أب اشتهر بالصلاح هو الحاج محمد خياطة، ومن أم انتهى نسبها إلى فاطمة البتول السيدة أمينة جودة، وكان والد المترجم له حافظاً للقرآن الكريم محباً للعلم، موقّراً للعلماء، حريصاً على تعليم أولاده العلم الشرعي، فكان منهم شيخ قرّاء حلب الذي أدخل إلى مدينة حلب القراءة عن طريق "طيّبة النشر" الشيخ نجيب خياطة فَرَضي حلب وشيخ قرّائها.

حفظ الدكتور عمر القرآن وهو ابن ثمان سنوات على يد الشيخ نور المصري، وبعد أن أنهى الدراسة الابتدائية انتسب إلى المدرسة الخسروية التي كانت يومها تُعرف بالكلية الشرعية، والتي يُنسب إليها جل العلماء الأفذاذ في مدينة حلب وما حولها، وبعد أن تخرّج منها دفعه ذكاؤه الحاد إلى نيل شهادة الفرع العلمي والانتساب إلى كلية الطب البشري في مدينة دمشق.



شيوخه وعلمه:

أخذ علم الحديث والسيرة على العلامة المحقق الشيخ محمد راغب الطباخ، وكان الشيخ راغب يوليه اهتماماً بالغاً وعناية لما وجد فيه من علائم النجابة والذكاء، وقد أجازه بثبته المسمّى "مختصر الأثبات الحلبية".

وأخذ الفقه الحنفي على العلامة الشيخ أحمد الزرقا نجل الشيخ الكبير محمد الزرقا، حيث قرأ عليه حاشية ابن عابدين وغيرها من كتب الفقه الحنفي. وأخذ علم العربية عن الشيخ محمد الناشد، والأصول والتفسير على العلامة الشيخ أسعد العبه جي مفتي الشافعية بحلب، وعلم التوحيد والمنطق على الشيخ العلامة فيض الله الكردي، وقرأ الفرائض على الشيخ محمد عبد المعطي، والفلك على الشيخ ياسين موقت. وأجازه أخوه شيخ القرّاء الشيخ نجيب خياطة بقراءة حفص عن عاصم. وأخذ الطريقة النقشبندية عن الشيخ العارف أبو النصر خلف الحمصي، وكان الشيخ خلف مُحباً ومُجلاًّ له كثيراً.

في سنة 1937 سافر الدكتور إلى دمشق لدراسة الطب، ونزل في غرفة بجامع التعديل، وكان خلال تواجده بدمشق لا يتأخر عن حضور دروس العلماء هناك، فقد حضر دروس العلامة المحدث بدر الدين الحسني، والشيخ أبي الخير الميداني، والشيخ الزاهد علي الدقر، والشيخ العلامة عبد الوهاب دبس وزيت، الحافظ والعلامة سعيد البرهاني، والشيخ المفتي أبي اليسر عابدين وغيرهم.

وبعد أن حصل على إجازة الطب بلقب دكتور باختصاص الأمراض الداخلية عاد إلى حلب، وافتتح بها عيادة لممارسة مهنة الطب وخدمة أهل بلده حيث كان أغلب الممارسون لهذه المهنة من غير الديانة الإسلامية.

لاشك أن المترجَم له حضر على كبار علماء الديار الشامية في عصره، واستفاد منهم في شتى مجالات العلوم، وبقي حتى آخر عمره طالباً للعلم والمعرفة، فما كنت تراه في عيادته أو في بيته إلا والكتب العلمية المختلفة بجانبه، يطالع فيها ويبحث في بطونها، ولا يتأخر عن درس علم يعقد في مدينة حلب أبداً.

وقد قام بتدريس مادة الحديث في المدرسة الشعبانية التي عرفت فيما بعد بدار التعليم الشرعي، وقد تخرج فيها كثير من العلماء طلبة العلم، وقد كان إلى جانب ذلك عضواً مؤسساً فيها.

وكان إلى جانب علمه الشرعي والطبي مجيداً للغتين الفرنسية والإنكليزية، ومرجعاً في علم الفلك وحساب الأهلة لمديرية أوقاف حلب، يرجع إليه في تعيين أوقات الصلوات الخمس وفي إثبات هلال شهر رمضان، وقلّ ما كان يخطئ حسابه الفلكي.

وقد كانت له كتابات في بعض المجلات العلمية، ومشاركات في مؤتمرات طبية كمؤتمر القاهرة عام 1960، ومؤتمر الخرطوم عام 1965.



عبادته وأخلاقه:

كان مضرب المثل في العبادة، لا يعرف كللاً ولا مللاً في أدائها فلا تراه إلا في ذكر أو تلاوة أو صلاة، كان _كما عهدته_ لا ينام من الليل إلا قليلاً، وكان محافظاً على صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع. وقد حج أكثر من 20 حجة، وقد نقل عنه صحبه العَجَبَ العجاب في جَلَده على العبادة وصبره عليها حتى أن أحدهم قال لي: كنت أظن ما يحكى عن عبادة السلف أسطورة حتى رأيت عبادة ذاك الرجل ونسكه.

كما كان متعقباً لأخلاق رسول الله r خطوة خطوة، متواضعاً رغم علمه ومعرفته ومكانته يحترم الناس ويجلهم، بعيداً كل البعد عن التكبر والعجب حتى إنه كان كثيراً ما يحضر دروس تلامذته ومن هو دونه في العلم، ويجلس أمامه بأدب واحترام، وما كان قط يغتاب أحداً أو يذمه، وإن كان ظالماً له، بل يدعو له بالصلاح ويزجر من يدعو عليه، ولم يذكر عنه أنه خاصم أحداً أو عاداه أو اغتابه، بل كان سليم الصدر كل السلامة ويعتقد الخير في الكل.

كان سمح الأخلاق، لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله، آلفاً مألوفاً، يحبه مَرْضَاهُ لحلو حديثه وطيب لسانه ورفقه بهم وكشفه الدقيق لمعرفة الداء، وقد كان سخياً جواداً بماله وراحته في سبيل الآخرين، ولأجل إعانة الفقراء والمحتاجين حتى إنه في أكثر الأحيان لا يأخذ أجراً من الفقراء ومن طلاب العلم مطلقاً، بل كان كثيراً ما يقدم للفقير الدواء من خزانته أو يعطيه ثمنه، وكان يُشاهد في حجه وهو يحمل حقيبة قد ملئت بأنواع الأدوية يطوف في الحرم وفي المناسك الأخرى يقدم الدواء للمرضى حسبة لله تعالى.

وكان من خوفه من سؤال الله له عن مرضاه وما قدّم لهم من الأدوية يقوم بتجربة بعض الأدوية على نفسه أولاً ليتحرى مدى فعاليتها وعوارضها رغم أنه يعاني من ذلك ما يعانيه.

لم يكن من عادته المراء والجدل العقيم خوفاً من إضاعة الوقت ووقوع الضغينة في القلوب.

كان كثير الخوف من الله سبحانه وتعالى يتحرّى المال الحلال ليأكله يطعمه أولاده، وإذا وجد في المال شبهة أنفقه ولم يدخر منه شيئاً.

وكان عازفاً كل العزوف عن ملاذ الدنيا ومباهجها. وكان آيةً في العدل بين زَوْجتَيه وأولاده في العطاء غير مفضل واحداً منهم على الآخر، وكان يحمل في جيبه دفتراً صغيراً يكتب فيه ما يعطي كل ولد من المال ليعطي بقية إخوته ذكوراً وإناثاً مثله مهما بلغ هذا العطاء من الصغر والقلة.



وفاته:

بينما كان الشيخ الطبيب يلقي درساً في حديث رسول الله r بعد صلاة العصر من يوم الخميس السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 1409هـ الموافق للسابع والعشرين من تشرين الأول سنة 1988م، في الجامع القريب من عيادته إذا به يقطع الدرس فجأة ليكرر الاسم المفرد (الله الله)، ثم يسلّم الروح إلى بارئها.

شُيع جثمانه الطاهر في اليوم الثاني قبيل صلاة الجمعة بموكب مهيب حضره جلُّ علماء حلب، وعلى رأسهم مدير أوقاف حلب الذي ألقى كلمة أمام الجثمان ذكر فيها مآثر الفقيد وحياته العلمية، في الجامع الكبير حيث صُلي هناك على الفقيد، ثم غادر الموكب الجامع إلى مقبرة السفيرة، حيث وارى الجثمان مثواه الأخير.

رحم الله الفقيد فقد كان علماً من أعلام عصرنا جمع في علمه بين المعقول والمنقول وبين علم الأديان وعلم الأبدان.

كتبه:صهره محمد مجاهد شعبان
رحمه الله