الرحيل الأخير...الشيخ سعيد الكحيل

 

                                           
بقلم : د. أحمد الفاضل
 
 رحل العارف بالله الشيخ محمد سعيد الكحيل اليوم الرحيل الأخير...رحل إلى خالقه سبحانه بعد أن رحل من بلده حمص الأبية الصامدة المكلومة...
 
 و لعله كان يود أن يحط رحاله في بلده لكن الله تعالى اختاره لجواره ونعم الجوار...ولعله يكرمه بأن يدفن بقرب خير جار المصطفى المختار...
 
 و قد اجتمعت إلى الشيخ مرات عدة في حمص وفي المدينة المنورة في بيت أحد الصالحين حيث كان ينزل...ورأيت من خصاله أو سمعت ما يجعلني أعتقد أنه من كبار الصالحين...
 
   فمع علو سنه ومرضه كان يقوم من الليل فيتهجد ويذكر الله تعالى ذكراً كثيراً مع ضعف في النطق وحركة اللسان...و مما لحظته عليه أنه كان قليل الكلام كثير الصمت لا يتكلم إلا بطلب أو لدعاء..و كثرة الصمت من سجايا الربانيين.. وكان إذا سمع كلاماً (بسيطاً) من متحدث أمامه أظهر إعجابه منه تطييباً لخاطر المتحدث فيقول: ما شاء الله ما شاء الله!!
 
 وكان شديد الحرص على الصلاة في المسجد النبوي الشريف فكان يذهب قبل المغرب فيبقى إلى وقت متأخر بعد العشاء ليحظى بالوقوف بين يدي المصطفى والسلام عليه والدعاء عنده...
 
 وفي يوم تأخر وقد سبقناه للدار التي ننزل فيها فلما دخل إلينا تجلت أنوار على وجهه فقال صاحب الدار لما رآه : قوموا فقبلوا لحية الشيخ سعيد ففيها رائحة النبي صلى الله عليه وسلم..!! فسكت الشيخ سعيد ولم ينطق بكلمة لكن وجهه ازداد لألاء وضياء و علته حمرة من الخجل لم يستطع إخفاءها...
 
 ومن أخلاقه الباسقة: التواضع الشديد الجبلي فإذا سلم عليه الصغير أو الكبير وأراد أن يقبِّل يده حاول الشيخ أن يقبل يده أيضاً وكلمه بكلمات وكأنه بعمره وقدره...!!
 
 و كان غزير العلم يدهشك عندما يخوض في مسألة علمية أو تاريخية و يستشهد لما يقول بشواهد كثيرة من القرآن والسنة والشعر...و قد سمعت من أبي عمر_و هو أقرب الناس له_ :أن أحدهم ممن يرى أن الشيخ (درويش) في علمه سأله ممتحناً ،فأخذ الشيخ سعيد في الجواب والتحليل و التفصيل وذكر الأدلة حتى جحظت عينا السائل وخجل من سوء أدبه..!
 
 و أخبرني أبو عمر عن كرامة من كرامات الشيخ قال: طلب مني الشيخ أن نسافر لطرابلس قبيل العصر لحضور عرس لأحد أحبابه وقد ألحَّ على الشيخ ورجاه أن يكرمه بذلك..قال أبو عمر : ولم أكن أقول للشيخ إذا طلب مني أمراً هذا صعب أو نؤخره..ولم تكن عندي سيارة فاستعرتها أو كانت لكن رخصتها قد انتهت (والشك مني) ولا يمكن أن نسافر بها لطرابلس أبداً ،لكن طلب الشيخ ولا بد من الاستجابة، فانطلقت بالشيخ على هذه الحال وعندما انتهينا إلى الحدود طُلب منا تخريج السيارة، فإذا الأوراق غير صالحة لذلك فعجبوا ، فقلت لهم: الشيخ سعيد!! ثم سألوني مرة ثانية، فقلت: الشيخ سعيد!! و الشيخ بجانبي لم ينطق بكلمة بل كان مستغرقاً بذكر الله تعالى وقد احمرَّ وجهه وكأن حب الرمان قد فقئ فيه...!!
 و فجأة قال المسؤول عن الأمر: تفضلوا...لاحول ولا قوة إلا بالله...!!
 
   قال: فدخلنا وحضرنا العرس وفرح الشاب العروس وفرح الناس ثم رجعنا في الليل وكان إيابنا أيسر من سفرنا...
 
 و من عجيب أمر الشيخ أن حاله ربما انتقلت لمحبيه المخلصين...فمن ذلك أن أبا عمر_ لما مرض الشيخ و أصابته أزمة قلبية_ أصابه ما أصاب الشيخ وكان من قبل لا يشكو أبداً...!!
 
 و هذا الحال لا ينكره إلا معاند فما أكثر ما يكون عند المحبين...و كل ما يفعل المحبوب محبوب...
 
  بين المحبين سرٌّ ليس يفشيه.....قول ولا قلم للخلق يحكيه !
 
   وقد تحمل قلوب المحبين ما لا تستطيع فتصاب بمرض لكنه مرض الحب..!!
 
 فليت هوى الأحبة كان عدلاً.....فحمّل كل قلب ما أطاقا
 
 رحم الله تعالى الشيخ وأسكنه فسيح جنانه وأكرمه بجوار المصطفى في الدنيا والآخرة.
 
 و كأني بأحبابه يقولون وقد غصّت عيونهم بالدموع:
 
 ودّعتُه وبوُدّي لو يودعني....صفوُ الحياة وأني لا أودعهُ
 
 وكأني بحمص الأبية تبكيه فوق بكائها ،فقد ازدحمت عليها المصائب و النوائب...وكأنها كانت ترجو أن تضمّه وهو وليدها وابنها لكنها آثرت به طيبة المصطفى...وهذا شأن حمص وأهلها آثروا على أنفسهم غيرهم و قالوا:دعوا البلاد لا تمسوها بسوء وصوّبوا أسلحتكم نحونا...و خذوا من دمائنا ما يكفي عطشكم للدماء ففي سبيل الله تعالى يعذب انهمار الدماء...!!
 
 و خير من حياة الذل موت.....و بعض العار لا يمحوه ماحِ