السيد أبو أيوب الأنصاري

محمد محمد أبو شهبة

من ذا الذي يذكر الهجرة، ولا يذكر المضيف الأول، والرجل الذي نال من الشرف الرفيع ما لم ينله أحد من أهل المدينة أوسها وخزرجها، وهو السيد الجليل، أبو أيوب الأنصاري، فقد أبى الله ورسوله إلا أن يكرم بنو النجار أخوال جد رسول الله صلى الله عليه وسلم،و كان تكريمهم في شخص الرجل الكريم أبي أيوب رضي الله عنه.
ولو أن فضل أبي أيوب رضي الله عنه تمثل في إضافته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكفى، فما بالك وقد تمثل في شخصيته شتيت من المفاخر والفضائل، فهو رضي الله عنه فضلاً عن كرمه ـ مرهف الحس والشعور، ذو أدبٍ عالٍ، شجاع أبيٍّ مجاهد من الطراز الأول، يرى أن نفسه ونفيسه شيء هين في سبيل نصر دين الله وإعزازه، وقد كانت وفاته بجوار أسوار القسطنطينية شهادة حق على مبلغ حبه لله، وإعزاز دينه، وأمارة صدق على ما ينبغي أن يكون عليه المجاهد في سبيل الله.
وإن في التحدث عن الرجل الذي صدق الله فيما عاهد عليه لوفاء ببعض الذكر لرجل الوفاء.
نسبه:
هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار، واسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو ابن الخزرج الأكبر، أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، معروف باسمه وكنيته، وأمه السيدة هند بنت سعيد بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.
فإلى الخزرج ينتهي نسبه من جهة أبيه وأمه، وبنو الخزرج إحدى القبيلتين المشهورتين اللتين يتكون منهما عرب المدينة، وبنو النجار في الذؤابة من أهل المدينة نسباً وفضلاً، وإلى هذا يشير الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة وفي كل دور الأنصار خير) ولم يكن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجاملة أو محاباة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا ينطق إلا بالصدق، وليس للمحاباة إلى نفسه سبيل.
ولعل من الأسباب التي حملت هاشم بن عبد مناف سيد قريش على أن يصاهر بني النجار ما لهم من فضل ومنزلة بين قومهم، وقد تزوج هاشم سلمى بنت عمرو النجارية وهي والدة عبد المطلب جد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي بيوت بني النجار تربى عبد المطلب فلما كبر وترعرع عاد إلى موطن آبائه، وإليه انتهت الرياسة في قريش.
إسلامه:
كان أبو أيوب رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام من الأنصار. فبعد بيعة العقبة الأولى أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه مع من أسلموا، وقد كان له أثر حميد في إسلام كثير من أشراف المدينة وسادتها، فانتشر الإسلام في المدينة حتى لم يبق بيت من بيوت المدينة إلا وقد استضاء بنور الإسلام.
وكان أبو أيوب رضي الله عنه ممن شهد بيعة العقبة الثانية من مسلمي المدينة، وأخذ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وقد وفى أبو أيوب بما عاهد عليه، فكان مثالاً عالياً للجهاد والكفاح على كل حال.
روايته الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
روى أبو أيوب رضي الله عنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بن كعب، وروى عنه من الصحابة ابن عباس وابن عمر والبراء بن عازب وأبو أمامة وزيد بن خالد الجهني والمقداد بن معد يكرب وأنس بن مالك، وجابر بن سمرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار وغيرهم وقد خرج له أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، وله في صحيح البخاري سبعة أحاديث.
المآثر الخالدة:
 لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق إلى المدينة نزلا أول ما قدما بقباء، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف حتى بنى مسجد قباء، وهو المسجد الذي أسس على التقوى.
وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضعة أيام أو تزيد خرج يوم الجمعة متوجهاً إلى المدينة المنورة فأتاه رجال من بني سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة. وتعلقوا بزمام الناقة، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار يحفون به متقلدي السيوف، وكان كلما مر بدار من دور الأنصار تعلق أهلها بزمام الناقة وتضرعوا إليه أن ينزل عندهم في العدد والعدة والمنعة، فيقول لهم: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) وما زالت الناقة تسير حتى بركت في موضع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام دار أبي أيوب رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله هذه داري وهذا بابي، قال: فانطلق، فهيء لنا مقيلاً. فاحتمل أبو أيوب رضي الله عنه ـ وهو قرير العين ـ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، ثم جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين تحل؟ فقال له: (المرء مع رحله حيث كان) فكانت مكرمة لأبي أيوب رضي الله عنه خالدة على وجه الدهر.
وجاء أسعد بن زرارة رضي الله عنه فأخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب مكرماً معززاً، مدة سبعة أشهر، حتى بنى المسجد وبيوت نسائه فانتقل إليها، وفتح أبو أيوب رضي الله عنه بابه على مصراعيه لاستقبال زوار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرحب والسعة، وتسابق الأنصار رضوان الله عليهم في إكرام رسول الله وصحبه، وما من ليلة إلا وعلى باب أبي أيوب الثلاثة والأربعة يتناوبون القصاع، وكان أبو أيوب يرسل بقصعته ولا يتناول العشاء حتى يتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحر هو وأم أيوب موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسان بذلك البركة، وفي ليلة من الليالي بعثا لرسول الله بعشائه وفيه بصل أو ثوم، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ليده فيه أثر، قال أبو أيوب فجئته فزعاً فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك، فقال إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجَى، وأما أنتم فكلوه، قال أبو أيوب: فأكلناه، ولم نصنع له تلك الشجرة بعد.
ومن أدب أبي أيوب رضي الله عنه الرفيع أنه تحرج أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في سِفل البيت وهو في العلو فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي فأظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فأعتذر له رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً الحكمة في اختيار السفل قائلاً: (يا أبا أيوب بأن أرفق بنا و بمن يغشانا أن أكون في سفل البيت) لكن أبا أيوب لم يطب نفساً بأن يعلو رسول الله فتنحى هو وأهله فباتوا في جانب غير مسامت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل أبو أيوب يرجو رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون في العلو حتى قبل رجاءه وحقق له رغبته.
وكان أبو أيوب رضي الله عنه شديد الحرص على راحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزواره، فقد انكسر حب لهم فيه ماء في الغرفة، قال أبو أيوب رضي الله عنه فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه، ومن فضائل أبي أيوب رضي الله عنه التي تدل على العفة في القول ورجاحة العقل أن السيدة زوجه لما قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ فقال لها: أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ فقالت: لا والله، فقال: و الله لهي خير منك، فأنزل الله سبحانه تصديقاً لمقالته، [لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ] {النور:12}. كما يروى أن أبا أيوب هو الذي أرضى سهلاً وسهيلاً صاحبي المربد الذي بنى موضعه المسجد النبي عن ثمنه من حر ماله ـ فتح الباري جز 7 ص196 ـ.
وهكذا نجد أبا أيوب قد سجل لنفسه مآثره خالدة في سجل الخالدين فرضي الله عنه وأرضاه.
عرفان الجميل لصاحبه:
وتدور الأيام دورتها، ويقدم أبو أيوب البصرة، وكان واليها يومئذ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما نائباً عن علي كرم الله وجهه، فيتلقاه بالبشر والترحاب، ويقول له: يا أبا أيوب إني أريد أن أخرج لك عن مسكني، كما خرجت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنك، وأمر أهله فخرجوا وملكَّه كل شيء أغلق عليه بابه، ولما أراد الإنصراف أعطاه ابن عباس رضي الله عنهما عشرين ألفاً وأربعين عبداً، وقد صارت دار أبي أيوب إلى مولاه أفلح، فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار وأصلح ما وهي من بنيانها ووهبها لأهل بيت فقراء من أهل المدينة.
بلاؤه في الجهاد:
كانت حياة أبي أيوب رضي الله عنه سلسلة متصلة من الكفاح والجهاد والبطولة، وقد شهد بدراً والمشاهد كلها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزم الجهاد بعده، ولم يتخلف عن غزاة إلا وهو في أخرى، ولما حدثت الفتنة بين السيدين علي ومعاوية رضي الله عنهما، انحاز إلى جانب علي وشهد معه قتال الخوارج، ولما أرسل معاوية ابنه يزيد على رأس جيش لغزو القسطنطينية تحرَّج في أول الأمر أن يخرج في جيش تحت إمرة يزيد ولكن نفسه التواقة للجهاد نازعته إليه، وقال: ما ضرني من استعمل عليَّ، فلحق بالجيش وأبلى بلاءً حسناً، ثم مرض فعاده يزيد فقال له ما حاجتك ؟ قال: حاجتي إذا أنا مت فاركب بي ما وجدت مساغاً في أرض العدو، فإذا لم تجد فادفني ثم ارجع، ثم قال: سأحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حالي هذا ما حدثتكموه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) فلما توفي صلىَّ عليه يزيد ودفن بجوار أسوار القسطنطينية وكانت وفاته في سنة اثنتين وخمسين، وهي السنة التي وقعت فيها هذه الغزاة، وقيل سنة خمسين أو إحدى وخمسين، والأكثرون على الأول، ولا يزال موضع قبره معروفاً إلى اليوم.
بعض آرائه:
وقد كان أبو أيوب رضي الله عنه في ملازمته للجهاد وحرصه عليه يصدر عن علم بكتاب الله ومعرفة بالآيات التي وردت في التحريض على الجهاد، وقد حفظت لنا كتب التفسير والحديث بعض هذه الآراء، فقد كان يستدل على لزوم الجهاد على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر والشباب والشيخوخة بقوله تعالى:[انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {التوبة:41}. وقد ذكر ابن جرير في تفسيره: أن أبا أيوب شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاماً واحداً، قال: وكان أبو أيوب يقول: قال الله تعالى: [انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {التوبة:41}.وكان يرى ـ وحقاً ما رأى ـ أن في الرغبة عن الجهاد والاشتغال بالأهل والمال إلقاء باليد إلى التهلكة.
روى أصحاب السنن والحاكم في مستدركه عن يزيد بن حبيب عن أسلم أبي عمران، قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه معنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فلنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيها، فنزل فينا: [وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {البقرة:195}.فكانت التهلكة في الأهل والمال وترك الجهاد، وصدق السيد أبو أيوب فما أتى المسلمون وغلبوا على أمرهم إلا يوم أن تخلوا عن الجهاد، واشتغلوا بالأموال والأولاد، ورضوا بالراحة، وأخلدوا إلى الضعف والاستكانة.
وبعد: فهذه سيرة يتمثل فيها الطهر والعفاف وكرم النفس وسجاحة الطبع وأصالة الرأي وأدب الضيافة العالي وحب الجهاد والاستشهاد، ولعل فيها نبراساً للذين ينشدون مكارم الأخلاق ومحاسن الفعال، ووازعاً للذين يجاهدون في سبيل الله ويطلبون الشهادة في سبيل الحق وعز الأوطان، وعزاء للذين يفقدون الأحبة وفلذات الأكباد وهم بمنأى عنهم في ساحات الكرامة والخلود.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر: مجلة الأزهر مجلد 25 محرم 1373هـ الجزء الأول.