الدكتور : منصور فهمي

 

منصور فَهْمي([1])

 

(1303-1378هـ)

انحرافه الفكري في فرنسا وتوبته:

اختـار اللهُ للقائِه عالماً عظيماً، ومؤمناً تقيّـاً، ورَجُلاً ذا خُلُقٍ قويم، هو الدكتور منصور فهمي الذي ينتهي نسبُه إلى الحسنِ بنِ علي.

ابتدأ حياتَه في تربيةٍ مدنيَّة، حتى تخرِّج في الجامعةِ المصريّةِ القديمةِ في فَوْجِها الأوَّل، وذهبَ إلى فرنسا، ونفسُه الحسَّاسةُ قد تأثَّرتْ بما في فرنسا من انحرافٍ فكريّ، فَـبَدتْ في كتاباتِه عباراتٌ مُنْحرفةٌ عن الإسلام، ولما قاومَه المتديِّنون وغيرُهم، ازدادَ عُنفاً فيما أصيبَ به عقلُه من انحراف، وكان عَجَباً أنْ يكونَ ذلك من سُلالةِ النبيّ ^، حتى لقد شكَّ العارِفون في هذه النِّسبة، وظنُّوها من أخطاءِ التاريخ، أو افتراءاتِ بعضِ الناس.

ولكنْ فُوجِئ الناسُ بالدمِ الطاهرِ يتغلَّب على انحرافِ فرنسا، فإذا منصور فهمي هو النقيُّ الطاهر، والمحتسبُ كلَّ أعمالِه لله.

كيف دخل الإيمان قلبه؟

لقد تابَ وأناب، وكان كلَّما تذكَّر ما كان منه ذرَفَ الدموع، فكان يُحسُّ بألمِ المعصيةِ إحساسَه بِرَوْعةِ التُّقى.

ولقد ذاكرْناه مرة: كيفَ دخلَ الإيمانُ قلبَك؟ فقال: «لقد ابتلاني اللهُ بالانحرافِ الذي سمَّيْته رِدّة، ولكنَّ اللهَ الذي اختبرني بالانحراف، هداني بالإيمان. ولقد كان انحرافي فكرياً، ثم اشتدَّت بي اللَّجَاجةُ عندما رُميتُ بالكفر، واستمرَرْتُ على ذلك حتى لقيتُ المرحومَ الشيخَ الأكبرَ حسُّونةَ النَّواوي([2])، زرتُه في منزِلِه في سنةِ 1925، فوجدتُ شيخاً وقوراً يملأ القلبَ بمَهَابتِه وتقواه، وكنت أسمعُ الكثيرَ عن شجاعتِه وهمِّتِه واستهانتِه بشؤونِ الدنيا، فلمّا قدمْت إليه قالَ لي: أأنتَ الذي يُقالُ عنك مُلْحِد؟ فقلت: نعمْ يا مولاي، فربَّتَ على كَتِفيّ، وقال لي: «اقرأ القرآن، واقرأ البخاري، إنْ لم تكنْ قرأتَه», فوعَدْتُ الشيخَ الوقورَ بذلك.

عكوفه على قراءة صحيح البخاري:

ولما خرجْتُ اسْتَحْييْتُ ألّا أَفيَ بعهدي، فَعَـكَفْتُ من بعدِ ذلك على قراءةِ البُخاريّ، وعَجِبْتُ لِغَفْلتي الأُولى، وَجَدتُ حِكَماً ونَظْماً، وأخذتُ أقارِنُ ذلك بما دَرَسْتُ من فلسفة، فوجدتُ ما جاء به محمدٌ ^ أعلى من كلِّ فلسفة، وأنَّ الإلهامَ الإلهيَّ يبدو في كلِّ حديث، فلم أجِدْ إلّا أنْ أقول: «أشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا الله، محمدٌ رسولُ الله، تُـبْتُ إلى الله، ورَجَعْتُ إلى الله».

قيامه بالدعوة إلى الإسلام ومشاركته في ندوة «لواء الإسلام»:

من ذلك الوقت، والدكتور منصور فهمي يقوم بحقِّ الإسلامِ عليه، يدعو، ويُرشد، ويَهدي، ولا يهمُّه أنْ يقولَ عنه الناس: إنه رجعيٌّ أو مُجدِّد، إنّما يهمُّه أنْ يُعرِّفَ الناسَ بحقائقِ الإسلام.

وكان أحبَّ المجالسِ إليه المجالسُ التي فيها إعلاءٌ للإسلام، ولهذا دأبَ رحمهُ الله على المشاركةِ في ندوةِ «لواءِ الإسلام» من يوم إنشائِها([3])، وإنّا نقول: إنّ الدكتور منصور فهمي آمنَ بالإسلام كما آمن الصِّدِّيقون، لأنه لم يرثْهُ وِراثة، بل اعتنقَه دراسةً وتفكيراً.

رحمهُ الله، ورضيَ عنه، ورضي عن السُّلالةِ الطاهرةِ الـمُحَمَّدِيَّـةِ كلِّها.

* * *

 

 

عباس العقاد يصافح الأستاذ منصور فهمي

كلمةٌ أخرى في رثاء منصور فهمي([4])

الوطنيُّ الخطيب:

أريدُ أن أتكلّم عن الدكتور منصور فهمي وطنيّاً وجامعيّاً وعالماً، فقد التقيتُ به حيثُ كان يخطُب خطبةً وطنيةً آخر سنةِ 1919، فوجدْتُ رجلاً مديدَ القامة، يُلقي خطبةً بصوتٍ مُهدِّجٍ جيّاش، يصلُ إلى النفوس، فسألتْ: من الرجل؟ فقيل لي: منصور فهمي، وكان يُذكرُ اسمُ رجلٍ آخر، وهو مرقص فهمي، فقلْتُ لـمَنْ بجانبي: أهذا هو الذي يقولون: إنه كان محامياً؟ قال: لا، إنَّ هذا مسلم، فقاطعَنا ثالثٌ وقال: ولكنّه ملحد، ولكنّي معَ كلِّ هذا أنِسْتُ في الرجلِ معنىً كنتُ أتمنّى له الهداية بعدَ هذا الضَّلال.

مدرس الفلسفة بالجامعة المصرية:

واتَّصلتُ به بعد ذلك تلميذاً له؛ ذلك أنه في آخر سنة 1920 عُيِّن مدرساً للفلسفة بالجامعةِ المصريّة، فكان يُلقي هذه الدروس، وبأسلوبٍ عربيٍّ فصيح، يجمعُ بينَ المحاضرةِ والخطابة، وكانتْ تَبْدُو منه عباراتٌ أحياناً لا تخلو من انحراف، ولكنّه سرعانَ ما يَطْويها طيّاً ويسترسل، ولا يلجُّ في الدعوة إلى الشرّ، كما يفعلُ غيرُه من زملائِه الذين ما زلْنا نسمعُ منهم ذلك الضَّلالَ إلى اليوم.

من الأشراف الحسنيين:

بعد ذلك التقيْتُ بفضيلةِ مولانا السيد محمد البِـبْلاويّ رحمةُ الله عليه، فَذَكَرْتُ له ما أُحسُّ به نحو ذلك الرجل، فقال: إني لأرجو ما ترجو لأنه حَسَنيٌّ، وهو عندَنا من الأشراف الحسنيين الثابتي النَّسَب، فقلتُ له: إذنْ فإني مطمئنٌّ بأنّ ذلك الرجلَ سيهديه الله سبحانَه وتعالى.

وأعتقدُ أنه لو لم يشتهرْ بالإلحاد، ولو لم يُناوئهُ ناسٌ بأنه مُلحد، لسَارَعَ إلى الهداية.

من مآثره في كلية الآداب بالجامعة:

بعد ذلك علمْتُ أنّ الله تابَ عليه.. وهو في الجامعة كان حِصْنَ الإسلامِ من سنة 1927 إلى أنْ تركها في سنة 1935، ولعلّ من مآثرِه: أنَّ كليةَ الآداب، : انتْ أولَ كليةٍ كَثُر فيها الطالباتُ مع الطلبة، فأصرَّ على أنْ يكونَ للطالبات غُرُفاتٌ خاصّة للدراسة، واسْتَمْسَكَ بذلك، ولم يحدثْ الاختلاطُ إلّا بعد أن تركَ الدكتور منصور الجامعة.

تديُّـنه عن حُجَّةٍ وبرهان:

لقد أدخلَ اللهُ الإيمانَ إلى قلبِ منصور فهمي بعد أنْ أكثرَ من قراءةِ القرآن وتعمَّق في دراسـةِ البخاريّ، ولقـد قلتُ مراراً في غيـرِ حضرتـه: إنـه آمَنَ كما آمنَ الراشِدون، لأنه لم يرثِ الإيمانَ ميراثاً، بل اعتنقَه بالـحُجّةِ والبُرهان.

رحمه الله ورضي عنه، وأثابه بمقدارِ إخلاصِه وبأكثرَ من عملِه.

من كتاب أعلام وعلماء تحقيق وإشراف؛ المشرف على الموقع الشيخ : مجد مكي.

* * *

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 21/7/2019

 

 

([1]) مجلة «لواء الإسلام»: العدد الثاني، من السنة الثالثة عشرة: 1378هـ = 1959م.

([2]) مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر حسُّونة بن عبد الله النَّواوي الحنفي الأزهري المولود في نواي من قرى أسيوط بمصر سنة 1255 والمتوفّى سنة 1343 الموافق 1925 رحمه الله تعالى.

([3]) انعقدت الندوة الأولى في الليلة الحادية عشرة من جمادى الأولى سنة 1372هـ بدار اللواء، ونشرت في العدد العاشر من السنة السادسة: (جمادى الآخرة 1372هـ = 15 فبراير 1953م).

([4]) ندوة مجلة «لواء الإسلام» المنعقدة في مساء الثلاثاء 13 شوال سنة 1378هـ، الموافق 21 إبريل سنة 1959م، والمنشورة في العدد الثالث، من السنة الثالثة عشرة: ذو القعدة 1378هـ = 1959م.