الشيخ عبد الحليم بسيوني

الشيخ عبد الحليم بَـسْيوني

كتاب أعلام وعلماء للأستاذ العلامة الشيخ محمد أبو زهرة عناية المشرف على الموقع : الشيخ مجد مكي

الجندي المجهول:

تنعى مجلة »لـواءِ الإسلام« إلـى قرائها الكـرام، رُكنـاً ركينـاً من أركانِ أُسرتِهـا، وعالماً جليلاً ساهمَ في إقامةِ دعائِمها، ذلكم هو الأُستاذُ المغفورُ له الشيخُ عبدُ الحليمِ بسيوني.

فقد كان رحمهُ الله جنديَّ هذه المجلةِ المجهول، فإنْ كان القارئُ لا يرى في »اللواء« عبارةً نابية، أو فكرةً شاردةً، أو مَيْلاً عن الحقيقة، فَلْيعلمْ أنّ الشيخَ عبدَ الحليم كان عنصراً قويّـاً في ذلك.

كان يقرأُ مقالاتِها وبحوثَها قراءةَ فاحصٍ دقيقِ الفكرة، عميقَ النظرة، له ذوقٌ علميّ، وذوقٌ بيانيّ؛ فإنْ وجدَ كلمةً تخرجُ عن حدِّ الاعتدال الذي اتَّسمتْ به هذه المجلّة، أو فكرةً تَنْـبُو عن بعضِ مَقَاصدِ الإسلام، نبَّـهَ كاتبَـها في لطفِ مودّة، وحُسْنِ مَدخل، وكياسةٍ رفيقةٍ هادئة، تجعلُ أشدَّ الناسِ استمساكاً برأيِه يقبلُها مطمئنَّ النفس، وإنْ وَجَدَ في بعضِ المقالاتِ أُسلوباً قد يصعبُ على القارئ فهمُه، بيَّنه بزيادةِ كلمةٍ أو حذفِها، فيبدو المقصدُ واضحاً جليّـاً، فيحمدُ الكاتبُ لهذا المحرِّرِ العميقِ حسنَ صنيعِه.

جهوده في ندوة لواء الإسلام:

ولقد كان للفقيدِ الكريم جُهْدٌ مشكورٌ في »ندوةِ اللواء«، فقد أسهمَ فيها برأيِـهِ السَّديد، وعلمِـهِ الغزير، ونقْدِه البريء، ومواقفِـهِ الطريفةِ مع أعضائِها.

ذلك جزءٌ من عملِ الشيخِ عبدِ الحليم في المجلّة؛ لقد كان »رحمه الله« عصبَها وقوّتَها، وكم من مقالاتٍ دبَّـجها قلمُـه، ونُسِبتْ لهيئةِ التحريرِ مجتمعة، وهي له وحدَه؛ وكانَ يقبلُ ذلك في اطمئنانِ العالمِ الذي يريدُ أنْ يصلَ الحقُّ إلى الناس، سواءٌ نُسِبتْ تلكَ المقالاتُ إليه أم لم تُنسَبْ.

العالم المخلص والموجِّه البصير:

كان عالماً مخلصاً، أخلصَ لله، وأخلصَ للحقيقة، فاستقامَ على الجادّةِ في كلِّ أعمالِه، منذُ أنْ تخرّجَ في الأزهر، إلى أنْ قبضَه اللهُ إليه.

كانَ مدرِّساً بالأزهر، فكان الـمُربِّـيَ الـمُخلِص، والـمُوجِّـهَ البصير، وكان بينَ تلامذتِه الأبَ الوَقور، يُنبِّـهُـهم إلى الحقائقِ العلميَّة في رفْقٍ وهدوء واطمئنان؛ يأخذُ بيدِهم إلى ما يهديهم ويُرشِدُهم، يُؤثِّر فيهم بروحِه وفكرهِ، ولسانِه وقلمِه، وإخلاصِه لله في رسالتِه.

إدارة معهد القراءات:

اخْتُبر الشيخُ عبدُ الحليم في العملِ الإداريّ فظهرتْ مواهبُه بأجْلى معانيها؛ تولَّى إدارةَ معهدِ القراءات، فكانَ مُرشداً للَّذين يَتَولَّـوْنَ التدريسَ فيه، ومُرشداً لطلّابِه، وعن طريقِـهِ اتَّصل بالقـرّاءِ يُرشدُهم ويُبيِّـنُ لهم التلاوةَ الحسنةَ الجيِّـدَة، كما عاونَ معاونةً صادقةً في إنشاءِ مجلةٍ لهم كانتْ تُسمّى »كنوزَ القرآن«.

إدارة مكتب شيخ الأزهر محمد الخضر حسين:

وتولّـى الشيخُ عبدُ الحليم عملاً آخرَ جليلاً خطيراً؛ تولّـى إدارةَ مكتبِ »شيخِ الأزهر« عندما كانَ الأستاذُ الأكبرُ الشيخُ »محمدُ الـخَضِر حسين« شيخاً للأزهر، فتجلّى فيه الإداريُّ الكيِّس، لم يحجُبْ طالبَ حاجةٍ عادلةٍ عن الشيخ، ولم يُثبِّـطْ عزيمةَ ذي حقٍّ عن المطالبةِ به، بل كانَ الـمُعينَ الصَّادقَ في معونتِـه، يُعالجُ الأمورَ التي يضيقُ وقتُ الشيخِ عن علاجِها بروحِ العدالةِ والرِّفْقِ والإنصاف.

الأليف المألوف والـمُحبُّ العطوف:

ولقد كان ـ رحمه الله ـ الأليفَ المألوف، والـمُحبَّ العطوف، يُرشد بمحبَّتِـه كما يُـبيِّـنُ بحُجَّتـهِ؛ كان ذا شخصيّـةٍ زاهدةٍ هادئة، وإيمانٍ قويٍّ عميق، عَزُوفاً عن الدنيا ومباهجِها، مُعْرِضاً عن المادةِ ومفاتِنها، شاغِلاً نفسَه بالباقياتِ الصَّالحات.

هذا هو الشيخُ عبدُ الحليم في علمه، وفي خُلُـقِه، وفي ديـنِه، وفي كفايـتِه في كلِّ عملٍ تولاه، فرحمهُ الله، ورضيَ عنه وأرضاه.

الامام محمد الخضر حسين ومدير مكتبه الشيخ عبد الحليم بسيوني في مشيخة الازهر، رحمهما الله

* * *

رثاء الشيخَين: عبد الحليم بسيوني، وسلامة العزّامي([2])

العلامة الشيخ سلامة العزامي

الندوةُ تشاركُ الأستاذَ الكبير أحمد حمزة في إحساسِه بأنّ المجلةَ فقدتْ ركناً من أركانِـها التي قامتْ عليها منذُ إنشائها، فلقد كان المرحومُ الشيخُ عبدُ الحليم بسيوني قوّةً في المجلّةِ مثابرةً عاملة، ولا يمكنُ أنْ يَنسى الذين حرَّروا في هذه المجلة ما كان يقومُ به الأستاذ عبد الحليم من مجهودٍ جبَّار.

فإذا كانتِ المجلةُ تخرجُ منذُ عشراتِ السنين في تلك الديباجةِ الـمُمتازة، التي اختصَّتْ بها أو في ذلك الفكرِ القويمِ الذي عُرِفتْ به، فإنه من الإنصافِ أنْ نقولَ: إنَّ للشيخِ عبدِ الحليم عملاً في هذا جليلاً يُذكَـرُ ويُشكر.

والواقعُ يا إخواني أنّ المسلمين كلَّما تُوفِّـيَ رجلٌ عاملٌ من بينِهم أحسُّوا بالفراغِ الذي تَـركَه، فهذا زميلُنا المرحومُ الشيخُ عبدُ الحليم، وقد تركَ فراغاً في هذه المجلةِ التي تحملُ اللواءَ الإسلاميَّ الآن.

وهذا مكانُ أستاذِنا الجليلِ الشيخِ سَلَامة العزَّامي قد خلا، لأنّ المتصوِّفةَ الذين يجمعونَ بينَ علمِ الشريعةِ وعلمِ الحقيقة جمعاً متناسِباً، لا يكادون يُوجدون إلّا نادراً، ومن هؤلاء النادرين: الشيخُ سلامةُ العزَّامي رضي اللهُ عنه.

التصوُّف الحقيقي:

فقد كانَ يفهمُ حقَّ الفهم أنّ التَّصوُّفَ الحقيقيَّ هو في الشريعةِ الحقيقية، وأنّ علمَ الحقيقةِ لا يمكنُ أنْ ينفصلَ عن علمِ الشريعة، وأنّ الشريعةَ هي النُّورُ الذي يهدي إلى الحقيقة هدايةً كاملةً لا زَيْـغَ فيها، فإذا كان للشيخِ سلامةَ مَزِيّـةٌ بينَ العلماء، فهي أنه فهم الإسلامَ فهماً حقيقياً كما جاءَ به النبيُّ ﷺ، واتَّـخذَهُ سبيلاً للورعِ والزَّهادةِ الحقيقية.

إنَّ الناسَ كانوا يفهمون، وما زالوا يظنُّونَ أنّ التصوُّفَ شعوذةٌ ومواكبُ تسيرُ في الطُرقات، فقيَّـضَ اللهُ الشيخَ سلامة العزامي ليُعلِّمَهم أنّ التصوفَ روحانيةُ الإسلامِ الحقيقية، وأفْـهَمَهم الشيخُ سلامة بعملِه وبنفاذ بصيرتِـه أنّ المتصوِّفَ ليس هو المنقطعَ عن الناس، فقد كانَ رضيَ اللهُ عنه، دائمَ الاتِّصال بالناس، ولا أنسى إذْ لقيتُه أوّلَ مرَّة، وكانتْ معَ الأسى والأَسَفِ هي الأُولى والأخيرة، فوجدتُه يستمِـعُ إلى شخصٍ يقرأ له أخبارَ الصُّحف، ويستمعُ إلى ما تنشرُه المجلاتُ الحديثة... فيرى أنه من واجبِـهِ أنْ يعلمَ ما يكتبُه هؤلاء، ولقد سمعتُـه يقول وهو يستمعُ إلى بعضِ هذه الصحف: »لقد سمعْنا العلمَ النافع، فأَسمِـعْنا الكلامَ الفارغ«، وما قَصَد باستماعِـهِ إليها أنْ يأخذَ علماً بما فيها، إنما أرادَ أنْ يأخذَ علماً بما يُقالُ على الناس ليستطيعَ أنْ يدفعَ عن الناسِ مضارّه.

ولقد رُوي أن عمر بنَ الخطّاب رضي الله عنه؛ قيل له: إنَّ فلاناً لا يعرفُ الشرّ، قال: ذلك أحْرى أنْ يقعَ فيه، فذلك الهادي الـمُرشِد في عصرِنا كان يعلم الخيرَ حقَّ العلم، وكان يريدُ أنْ يعرفَ الشر الذي يتواردُ على نفوسِ الناس، ليستطيعَ أنْ يضعَ حواجزَ بينَ القلوبِ الطاهرة، وبينَ أنْ يدخلَها ذلك الشرُّ المستطير.

ومهما نُحاولْ في هذه الصفحات، فلن نستطيعَ أنْ نُحصِيَ الآثار التي يتركُها مثلُ الشيخِ سَلَامةَ العزامي في نفس مُريديه، من حيثُ اتجاهُـه إلى العلمِ النافع بكلِّ ضروبِه: علمِ الشَّريعة، وعلمِ التَّصوُّفِ الحقيقيّ.

وفاة الشيخين علي الغاياتي ونور المشايخ الـمُجَدِّديّ:

وإننا نشكرُ الشيخَ صبري عابدين إذْ ذكّرَنا في هذه الجلسة التي نتذكَّرُ فيها النافِعين للإسلام برجلَيْن جليلَيْن خَدَما الإسلامَ خدمةً جليلةً في الشَّرقِ والغرب، أمّا أولُـهما: فهو الشيخُ علي الغاياتيّ، وهو رجلٌ آثرَ رضاء الله على رِضَاءِ الناس، وآثـرَ الآخِـرةَ على الدنيا، وآثـرَ إرضاء ضميرِه الدينيّ على إرضاءِ ذوي الأهواء والشهوات.

وأمّا الثاني: فهو نُورُ المشَايخِ الـمُجَـدِّديّ، فقد عَرَفْناهُ من أخيهِ السَّفيرِ التَّقيِّ الشيخِ محمد صَادق الـمُجَدِّديّ، الذي أعلنَ أنه من أرومةِ التقوى وسلالةِ الـهِداية، فأحبّـهُ المسلمون. وعَرَفْناهُ من مَسْعاهُ الجليل، في مَنْعِ الفتنةِ التي كان يدسُّها أعداءُ الإسلامِ بينَ الأفغانِ وباكِسْتان، مُـنَـفِّذاً قولَ الله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9].

* * *

([1]) مجلة »لواء الإسلام«: العدد السادس، من السنة العاشرة: (صفر) 1376هـ = 1956م.

([2]) ندوة مجلة »لواء الإسلام« المنعقدة في مساء الثلاثاء 13 من صفر سنة 1336هـ، الموافق 18 سبتمبر سنة 1956م، والمنشورة في العدد السابع، من السنة العاشرة: 1376هـ = 1956م.

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 4/7/2019