العلامة المحقق الشيخ أحمد تيمور

بقلم العلامة محمد أبو زهرة 

ورسالته «نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهيّـة»( )
عالمان عظيمان: أحمد تيمور وأحمد زكي:
كنـا نَشْدُو في طلب العلم، وعالمان عظيمان يتردَّد اسماهمـا في مجالس العلم، وأحدهما: لا نكاد نلقاه، وهو «أحمد تيمور»، وثانيهما: نلقاه في النَّدوات، وفي المجلات وفي الصُّحف، وهو المرحوم العلّامة «أحمد زكي».
ولقد كنَّا ونحن في دروس التَّاريخ في مدرسة القضاء الشرعي، إذا عزّ علينا العلم باسمٍ تاريخي، وشاركنا أستاذنا المحقِّق في ذلك، اقترحنا أن نرسل إلى «أحمد زكي» عن طريق الصحافة سؤالاً، فيُعاجلنا بالجواب كأنه مُهيَّـأ حاضر، يستعدُّ له، كما يستعدُّ الجنديُّ للقتال إذا دعا دَاعيه.
وأما «أحمد تيمور» فإنه كان قد ارتضى عندما شَدَوْنا في طلب العلم ألا يكون إلّا في النَّدوات الخاصّة التي لا يحضرها إلا عِلْيةُ العلماء، ولا يحضرها الطلبة وإن كانوا شادين ـ فقد ظهر اسمه بين أوساطنا يتردَّدُ بالإكبار والتقدير، فتُـذْكَر مكتبته وما حَوَتْ، وتُـذكَر إسلاميّـاته، وتذكُر علاقاته بالعلماء، ومُدارَسَاته معهم، وانصرافه للعلم الإسلامي، وجَـمْعُ كل آثاره التي تناولها بيده، سواء أكانت مخطوطة أم كانت مطبوعة، وتركُه المناصب العُليا، ليتفرَّغ لعلم الإسلام، وإحياء مآثر علومه، ونشرها بين الناس في هَدْأة العالِـم، واطْمئنان المتثبِّت.
دراسته على أكابر العلماء:
ولقد ابتدأ يُـكمِّل نفسه بالدراسة على أكابر العلماء أمثال العالم المتفكِّر الزاهد الشيـخ حسن الطويل؛ إذ جعل مزرعتـه مُسْتراضاً للشيخ يستجمُّ كل أسبـوع، ويَسْتذكران الـمُغْلَقات مما يتعسَّر على الأستاذ تيمور الوصول إلى دقيق معناه من مُعْضلات «المنطق» و«الأصول» والأدلة ما بين عقلية ونقلية.
ثم اتصاله بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فَجَعل داره مُلتقىً لتلاميذه، وما كان الإمام يضنُّ عليهم بدرسٍ من دروسه التي أشعل بها نور الحق في الأزهر وبين طلابه، وأراهم بها الحياة، وقال لهم فيها كلمته المشهورة: «العلمُ ما علَّمكَ مَنْ أنت مِـمَّن مَعَك».
كانت حياة أحمد تيمور نوراً يضيء، وفَيْضاً غير هادر يفيض، يعرفه ناس من أهل العلم ويعشون إليه، ولكن ما كان يأنس به إلّا الخاصّة.
وفاة أحمد تيمور:
استمرَّت تلك الحياة الهادئة دائبةً في دراسة كنوز الإسلام، واستخراجها، غير وانية، ولكن في غير ضَجّة، حتى انطفأ ذلك المصباح المنير في مطلع صيف سنة 1930، فكانت رنّة النَّاعي مُعَرِّفة للناس مكانةَ مَنْ فقدوا من رجالات الإسلام.
كنت أجلس مع بضعة من شيوخنا الأمجاد الذين كانوا يُصَادِقونه ويذاكرونه، وقد تعوَّدت أن أقبسَ من مجالسهم، وآنَسَ بأخبارهم، وكان لهم في كلِّ يوم ندوة من الأحاديث الـمُطْـلَقة التي يجمعها العلم ولا تضيق بموضوع مُعيَّن، بل إنها سمَرٌ أدبي ودينيّ يجمع بين فكاهات أدبيَّـة، وبيان حقائق إسلاميَّـة وردودٍ على ما يجري على أقلام بعض الكتاب من انحراف في القول.
ولكن في مساء اليوم الذي شُيِّعت فيه جنازة العالم أحمد تيمور صار هو موضوع تلك الندوة المباركة، ومن بينهم مَنْ كان يجاوره، ومنهم من كان يَصْطَفيه ويَسْتفتيه، ومكثنا على ذلك أكثر من ثلاث ليال سَوِيّاً لا حديثَ لنا إلّا عن تيمور، وكنَّا نعود إليه الفَيْنة بعد الفَيْـنة، لأنه لا يُنْسَى.
كتاباته عن أعلام عصره:
وكانت تُنشر له مقالاتٌ مُسَلْسلة عن أعلام عصره في إحدى المجلات الأدبية، فكنت ألمح صِدْقَ القصص، ودقَّة الخبر، واتِّصال السند، في لفظ بَـيِّنٍ من السَّهلِ الممْتنع، لا يعلُو على العامّة، ولا يَنْبـُو عن آذان الخاصّة، ويجد فيه القارئ نوافذ تُطلّ على آفاق واسعة تكشف عن عصر أولئك الأعلام من غير تَـكَلُّف، في عبارات مقَـرَّبة.
وكنت ترى في الكتابة تصويراً دقيقاً وواضحاً للعَلَم من الأعلام، من وراء تنقُّلاته الفكريَّـة.
ولقد أنصف بهذه الكتابة التي كانت تنشرها المجلات وتسجل في كتب رجال عصرنا.
ومَنْ ذا الذي كان يعرف حياة الإمام حسُّونة النواوي الذي سجّل له التاريخ مواقف مملوءة بعزّة العلم وكرامته.
وما الذي يعرفه الناس عن العالم الذي اعتزَّ بالعلم فقط والذي كان يُقْصد من آفاق الأرض لعلمه، وهو الإمام حسن الطويل؛ لولا قلم أحمد تيمور.
إنَّ الأفاضل من علمائنا وكبرائنا الذين عَمِلوا بالعلم، وبالعلم وحده، لا يُـذْكَروُن في أوساط الناس كما يُـذْكَرُ غيرهم، وكان من الوفاء للعلم والعلماء أن يُسَجِّلهم إمامٌ جليل مثلهم في كُـتُب منشورة.
أهمية التعريف بالعلماء المعاصرين:
ولكنَّ الذين أدركهم تيمور، والتقى بهم، وكان لهم النَّصيب الوفير، جاؤوا بعدهم، يحتاجون إلى مَنْ يلتفت إليهم في وَسَط ضجّة غيرهم ممن لم يكن لهم فَضْلُهم، وليس لهم في الدين والـخُلُق والعلم مآثرُهُم، فهل من مُنْصفٍ مُحقِّق ينصفهم، كما أنصفَ أسلافَهم من الأكرمين أحمدُ تيمور رحمه الله تعالى؟!
إنَّ تاريخ علمائنا الذين اتَّصلتْ حياتنا بحياتهم، ونهلنا من معارفهم، وقدَّموا لنا أرْسال الفكر سائغة نقيّـة سليمة، لم يُـرَ فيها رَيْب، ولم يُـخالطها انحراف، إنهم في ذمّـة التاريخ، والتَّعريفُ بهم في أعناقنا.
كتابات أحمد تيمور:
تَـتَّسم كتابة تيمور بِسِمات ثلاث لعلَّه قد اختصّ بها في عصرنا:
السِّمَة الأولى: الدقَّة، وكأنّ اللفظ فيها قد وُضِعَ على قدر المعنى، نسق عليها تنسيقاً حِيكَ عليها، بحيث لا يمكن أن يتَّسع لسواها، ولو أردت أن تضعَ كلمةً مكان أخرى لكان ذلك عسيراً مع السهولة والوضوح، وقُرب المعنى بلا تعقيدٍ ولا إعضال، بل إنك تجد الكلام سهلاً ميسَّراً على طرف الثُّمام( ).
السِّمَة الثانية: الإيجاز من غير إخْلال، تقرأُ الكلام، فتحسُّ بأنه ما ترك مما تصدَّى له أقلَّ جزء من المعنى، وذلك من غير إبهام.
وإنَّ هذا النوع من الإيجاز الوافي أصعب من الإطناب تُـكتب فيه المعاني عند ورودها مُرْسَلة، وكلما جاءت على الخاطر سطرت على القرطاس، من غير ملاحظة لأن تكون الألفاظ أوسع من المعاني أو لابسة لباسها لا تسع غيرها، أما الإيجاز غير الـمُخلّ، فإنَّ المعنى يُجمع، ويُـبْحث له عن أقلِّ لفظ يلبسه من غير إسراف في الثياب، ولا تَـخَلْخُل فيها.
وتعجبني في هذا المقام كلمة للمغفور له سعد زغلول في خطاب أرسله إلى صديق له، وكان فيه إطناب: «اُعذرني في هذا الإطناب فإنّه ليس عندي وقت للإيجاز».
السِّمَة الثالثة: جمالُ العبارات جمالاً هادئاً، ربما لا يكون له بريق، ولكنه جمال يلتقي فيه جمال اللفظ مع جلال الحقائق، فلا يدري القارئ أهو مُـعْجَبٌ بالمعنى وحده أم بها مع كسائها غير البرَّاق، وإن كان متناسقاً منسجماً.
إنشاء دبلوم للشريعة بالدراسات العليا في كلية الحقوق:
في شهر أكتوبر سنة 1944، أنشئت بكلية الحقوق بجامعة القاهرة دبلوم للشريعة بالدراسات العاليـة، لأنَّ الحاجـة العلميَّـة استدعت وجودهـا، إذ إنَّ طلاب هذه الدراسات اتَّجهوا إلى الشريعة يكتبون رسائلهم فيها، ومنهم [من] كان يتعسَّر عليه فهم مصادرها، وفتح مغاليقها، فكان لا بدَّ من دراسةٍ تُوجِّهُهم وتُـهيِّئ لهم السُّبل لذلك، ولأن الأنظار اتَّجهت إلى كلية الحقوق بالقاهرة لتنهل من عَذْبها في الشريعة، ولأنه وَجَبَ أن تقرَّبَ دراسة الشريعة بتعمُّق لطلاب القانون، ليستقيموا على منهاجها، ولأنه وَجَبَ أن يتَّصل حاضرها بماضيها بدراسة المجتهدين، وليرى فيها الطلاب نورَ الشَّرق ومن انبثق منه، فكانت دبلوم الشريعة موئل الطلاب والباحثين.
وضع مناهج الدراسات العليا:
وقد أُلِّفتْ عند وضع مناهجها لجنةٌ من كبار رجال القانون وأساتذة الشريعة بالكلية، وعلى رأسهم أستاذنا المرحوم أحمد إبراهيم، ومن المصادفات الطيِّبة أنه كان من أصدقاء أحمد تيمور، ومن علماء الشَّرق الأخيار.
وكان من المنهج الذي وَضع دراستُه أحدَ المجتهدين، بحيث يُدرَس كل عام إمامٌ من الأئمة أصحاب المذاهب المشهورة في الأمصار وأصولهم التي تُصوِّر ناحية فكرية من نواحي الفقه الإسلامي، من غير ابتعاد عن مصادره، وإن اختلفت الأنظار حولها، كلّ يقطف منها ويمتص، ثم يخرج من بعد ثماراً مختلفاً ألوانها، وإن اتَّحد في الجملة مذاقها، لأن الينبوع واحد، والتربة خِصْبة، والبذر متشابه وأكُلُه مريء غير وبيء.
الكتابة في تراجم الأئمة المجتهدين:
ولقد عهد إليَّ دراسة مادة أحد المجتهدين، وسرْتُ فيها في طريق سويّ أو أحسبه كذلك، وكنت أجد للتاريخ مصادره مستوفاة وإن كنت أحياناً أجده ركاماً قد اختلط فيه الجوهر بالحجر، فكان الانتقاء ليس يسيراً سهلاً، والأصول لها بواطنها.
البحث عن البلاد التي انتشرت فيها المذاهب الفقهية:
ولكن أمراً أعياني البحث فيه، وهو البلاد التي حلَّ فيها المذهب من المذاهب بقدر كبير أو قدر قليل، وذلك واجب لتعرُّف مواطنه وأراضيه التي أخذ أعْرافها واتِّجاهاتها في الأمور التي لا نصَّ فيها، ولأنَّ معرفة ذلك من معرفة أحوال المسلمين، وهو واجبٌ على كلِّ مسلم يشتغل بالدراسات الإسلامية، ولقد ورد في الآثار عن النبي ﷺ: «مَنْ لَـمْ يَهتمَّ بالمسلِمين فَلَيْسَ مِنْـهُم»( ).
كتاب «المذاهب الفقهية الأربعة» للعلامة أحمد تيمور:
ولكني وأنا أبحث في المكاتـب، وأتَّجه إلى صغير الأحجـام من الكتب ـ دون الضخم كثير الأوراق ـ وجدتُ طلبتي في كتاب «المذاهب الفقهيَّـة الأربعة»، وفي غيره من كتب التراجم. فتحقّقت فيها الغاية، وسَهُل عليّ ما صَعُب، وقَـرُب ما بَـعُد، فأخذتُه.
ومن الحقّ عليّ أن أقول: إنَّ كثيراً مـمّا في كتب المذاهب الأربعة التي هداني الله تعالى إلى كتابتها، كثيرٌ مما فيها لكتاب الأستاذ أحمد تيمور حظٌّ فيه موفور، فأخذتُ منه مع غيره الكثير.
وفي هذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير فيما اشتمل عليه، وجدتُ ما يُعتمد عليه، وما يُـطْمَأن إليه، لأنّه يُرجع الكلامَ إلى مصادره، والحقائقَ إلى ينابيعها من غير تفريط، شأن العالم الثَّبْت الـمُنَقِّب عن الحقائق خفيِّها وجَلِـيِّها.
والكتابُ يبتدئ بمُقدِّمةٍ مُوجَزة في تاريخ الفقه الإسلامي وينابيعه، حتى يصل إلى أكبر الأئمة الأربعة وهو أبو حنيفة، فيذكر موطنه الذي وُلد فيه وعاش، وتلاميذه الذين تلّقوا عليه، ويذكر البلاد التي شاع فيها مذهبه وإيثار أصحابه بالقضاء، ويَـتَـتَبـَّع البلاد التي انتشر فيها بلداً بلداً، يسترسل اسْتِرسالاً مُحكماً دقيقاً في بيان ما يجري بين هذا المذهب وغيره من المذاهب من منافسة، ويخصُّ مصرَ ببيان مقام المذهب مع المذاهب الأربعة، ويَـتَـتَـبَّعه في المواطن التي انتشر فيها، مُتقصِّياً حتَّى يصل إلى البلاد التي يقلُّ فيها ويستعصي عليه أن يعرف مقدار نسبته فيها ومبدأ وجوده، فيقول رحمه الله:
انتشار المذهب الحنفي:
«أما بدء دخول المذهب الحنفي في سائر البلاد، فغاية ما وقفنا عليه من انتشاره في القرن الرابع ما ذكر المقدسيّ في «أحسن التَّقاسيم»، في كلامه في كل إقليم، ومنهُ يُعْلم أنه كان الغالب على أهل صنعاء وصَعْدة باليمن، والغالب على فقهاء العراق وقُضَاته، وكان منتشراً بالشام، تكاد لا تخلو قصبة أو بلد من حنفيّ.
وربما كان القضاة منهم، إلّا أنَّ أكثر العمل فيها كان على المذهب الفاطمي في زمنه، أي كما كان في مصر في عهد الفاطمييّن.
ويسترسل في بيان أماكن المذاهب ما كان فيها شائعاً، وما كان فيها من غير شيوع.
انتشار مذهب مالك:
ثم يتَّجه من بعد إلى مذهب مالك، ويُسمِّيه مذهب «أهل الحديث»، فيبيّن موطنه الأصيل، وهو المدينة، ثم ظهوره ببغداد، وضعفه في القرن الرابع الهجري.
ثم ظهوره منتشراً في غرب البلاد الإسلامية، وسيطرته وشيوعه في مصر وما والاها من شمال إفريقيّـة، حتى يصل إلى الأندلس والـجُزر التي تصاقبها من البحر المتوسط، ويتتبَّع المذهب في الشرق، حيث يدخل «الرَّيَّ»، وزيارته للهند... إلى آخره.
ويتقدّم بالتوضيح للمذهب المالكي في مصر، فيبيّن أول دخوله ومن أدخله، ويحقِّق في ذلك مقارِناً بين النصوص جامعاً بينها ـ ثم يشير إلى الحال في العصر الحاضر ـ وسيادة المذهب الحنفي في إفريقيّـة (تونس)، ثمّ غلبة المذهب المالكي عليه.
ويُبيّن أنَّ أوّل ما دخل إلى الأندلس من المذاهب الفقهيَّـة مذهبُ «الأوزاعي» وقد غَلَب عليهـا، ثم أدخل المذهبَ المالكيَّ الأمويُّون بالأنـدلس، وزال مذهـب الأوزاعيِّ حَوْل المائتين.
ويُبيِّن أنَّ شيوع المذهب كان بإلزامٍ من أميرها الأمويّ، لأنه أثنى عليه ثناءً طيِّباً، وفضّله على حكّام الحرَم المدني، وقال لمحدِّثه: «نَسْألُ الله تعالى أنْ يُزيِّن حرمَنا بملككم».
ويتقصّى شيوع المذهب المالكي لا يغادر بلداً كان فيه إلّا ذكره.
وهكذا يسير على طريقته في بيان أماكن انتشار المذهبين الشافعي والحنبلي من غير تقصير في بيان المواضع، كما فعل في المذهبين الحنفي والمالكي، وقد ضربنا بهما الأمثال.
ملاحظات على الكتاب:
ويلاحظ في هذا الكتاب القيّم ثلاثة أمور:
أولها: أنه لم يُـعْنَ بدراسةِ حياة الإمام دراسة تحليليَّـة مُـتَـقَصِّية، ولم يدرس أصول فقهه، ذاكراً ما بنى عليه آراءه، لأنَّ هذين الأمرين لم يكونا غايته، إذ أنَّ فقهه عملٌ فقهيٌّ يُترك للفقهاء يدرسونه، ويُبيِّنون مبادئه ونهاياته، ويقابلون بينه وبين غيره، ولأنّ تاريخ الأئمة كان قائماً في مناقبهم، وما كان من شأنه أن يُـكرِّر ما هو مجموع مَبْسوط في إطار واحد، إنّـما كانت عنايته مُتَّجهة إلى ما هو منثور غير مجموع، وفي وقت لا نكاد نجد فيه كتاباً جُمع فيه بين ما هو منثور من أماكن المذاهب وبين ما هو شائعٌ في أرضه، وما هو قليل فيها، وقد سدّ الأستاذ أحمد تيمور تلك الثَّغْرة، وملأ ذلك الفراغ، وهو في ذلك محمودُ الصَّنيع.
الأمر الثاني: إنك لا تجد مذهباً من المذاهب قد استولى استيلاءً كاملاً على بلد من البلدان، بل كان يُزاحمه غيرهُ أحياناً، ويُجاوره في أماكن تمكُّنه أحياناً أخرى، ولذلك تراه قد ذكر المذهب الواحد في عدَّة أقاليم، وذكر غيره أيضاً في هذه الأقاليم، ولكن أحدهما يكون كثيراً في هذا الإقليم، والآخر قليل فيه.
الأمر الثالث: الذي يُلاحظ في هذا الكتاب المفيد القيِّم: كثرة نقوله، وذلك من فَضْل التثبُّت عند الكاتب الجليل، وهو يتكلّم في حكايةِ نُـقول؛ فكان لا بد أن يكون ذكرها بالنصِّ مَقْصُوداً، ليأخذ بيد القارئ، ويكون على مَقْربة من المصادر الإسلاميَّة، ولكي يتأكَّد من صدق الحكايـة، وسلامـة النَّـقْل، ولكي ينقـل علم الأسلاف إلينا ليخاطبوا خيالنا، وفي كلام الكثيرين منهم مَشرِق الحكمة.
عبقرية التَّصنيف:
وإن عبقرية التَّصنيف التي اتَّسم بها الكتَّاب السلفيُّون هي في هذا النوع من التأليف المحْكَم، إذ يَصُفُّون النقول القديمة متناسقة يأخذ بعضها بحُجز بعض بحيث لا تجد تنافراً في أجزائها، ولا تَضَارباً في معانيها، ولا تجد كلمة تكون نائية عن الأخرى غير مُؤْتلفة معها، ولا ناشزة عنها، بل هي [تامةٌ] ( )في طَوْعها وانقيادها وسَلاسَتها.
وليس ذلك هيِّناً ليّناً، إنّما هو صنيعٌ لا تقوم به إلّا يد ماهرة، ومثلَه مثَل عالم الآثار الذي يجيء إلى الجدار المتناثر في بقعة الآثار، وكأنه حجارة منثورة، فيجيء إليها ويجمع متناثرها، ويؤلِّف بينه، ويجعل منه إناء يُمثِّل أواني عصره، وقد جمعه من قطع غير متآلفة فجعلها متآلفة.
الكتابة العلمية:
فليست الكتابة العلمية إنشاءً فيه جَمال ألفاظ، أو سَبْك عبارات، إنّما الكتابة العلمية تأليفٌ بين الألفاظ والمعاني، وجمعها من بين المتناثر، ليكون كياناً قائماً بذاته.
ولا أحسب أني رأيت كاتبين عظيمين يتشابهان في جَوْدة هذا النوع كالأستاذ أحمد تيمور، وصديقه الفقيه العظيم الأستاذ «أحمد إبراهيم» فقيه عصره.
صناعة التأليف:
إنَّ بعض الذين يَدْرجُون حول الكتابة وتأليف الكتب يحسبون ذلك عملاً صغيراً، ويقولون مستهينين:
إنَّ أقصى ما يدلُّ عليه الكتاب أنَّ صاحبه عنده مكتبة استطاع أن ينتفع بها، وقد سمعتها من أستاذ جامعي تُوفي إلى رحمة الله، وقد وقع الكثيرون في هذا لأنّهم حَسِبوا التأليف ضجّة عبارات، وترديد أقوال، وتغيير كلمات، وتبديل جُمل.
كَثْرةُ مصادره ونُدْرة نقوله:
إنَّ الأستاذ أحمد تيمور قد جَمَع كتابه من أجزاء منثورة في كتب التاريخ العام، ومعاجم البلدان، والتراجم والمناقب، وغير ذلك، وإنك لتجد في الصفحة الواحدة أحياناً خمسة مصادر، وهي لا تزيد على ستة عشر سطراً، ولا تقل صفحة عن مصدرين.
وإذا كان تَعَارضٌ بينها، عَمِلَ على التَّوفيق، ولولا أنه يَعْزو قوله دائماً إلى مصدره ما ظننت أنَّ أكثر ما فيها منقولات مُؤْتلفة.
وقد حاولتُ إحصاء ما اعتمد عليه من كُتب فوجدت الحسبة قاربت المائة.
وفي الحق إنِّي أعظَمْتُ المجهودَ الذي بُذِلَ في ذلك الكتاب الصغير الحجم، العظيمِ الـجَدْوى، والذي سَدَّ به فراغاً لم يُسُدَّه أحدٌ من قبله، ولم أجد من بعده مَنْ سَايَره أو سار في طريقه.
وإنَّ الفراغ قائم في المذاهب الأربعة الأخرى، وهي: المذهب الزَّيديّ والإماميّ والظَّاهريّ والإباضيّ.
وقد ذكرنا فيما كتبنا بعضاً من ذلك، ولكن دون ما قام به العالم الجليل رضي الله عنه، وأثابه عن الإسلام خيراً، ومكّن الأخْلاف من أن ينتفعوا بما خَلَّف، إنه سميعٌ مجيبٌ.
من كتاب " أعلام وعلماء" بعناية الأستاذ مجد مكي