الشيخ سعيد العبد الله - شيخ القراء

نقدم إلى الإخوة القراء الكرام الأعزاء، ترجمة لقارئ متقن فذّ من كبار قراء بلاد الشام وعلمائها، وهو فضيلة الشيخ سعيد العبد الله الحموي ثم المكي رحمه الله تعالى.

كتبها أحد تلامذة الشيخ النجباء وهو الشيخ: حاتم الطبشي وفقه الله، اختصرناها في هذه الصفحات من ترجمته المطوَّلة التي كتبها بعنوان:" صفحات منيرة من حياة صاحب الأسانيد الشهيرة". جزاه الله خير الجزاء.

شيخ القراء الشيخ سعيد العبد الله الحموي

اسمه ونسبه ومولده :

هو العلامة الجليل الشيخ المقرئ، العالم العامل، والرباني الورع، الداعية المجاهد الشيخ سعيد بن عبد الله الحسِّي ـ نسبة إلى الأحساء من شرق البلاد السعودية ـ، من قبيلة بني خالد.

مولده :

ولد رحمه الله تعالى في قرية الجنان القريبة من مدينة حماة عام : 1341 للهجرة، والموافق للعام الميلادي : 1923.

نشأته :

نشأ رحمه الله تعالى في كنف والديه، وكان أصغر الأولاد الخمسة لوالده، وفي عامه السادس كانت محنة فقد البصر، والتي كان رحمه الله تعالى يرى أنها منحة وليست محنة، وما ذاك إلا لعظيم إيمانه ومزيد رضاه بقضاء الله تعالى وقدره، وسبب ذلك أنه اشتكى رمداً في عينيه، رآه زائر للقرية يتعاطى الطب الشعبي، فصنع علاجاً ووضعه على عينيه، فما أبصر بهما بعد ذلك، وكان له من العمر يومئذٍ : خمس سنواتٍ ونصف.

حفظ القرآن الكريم :

في هذا الوقت كان الشيخ عارف النوشي رحمه الله تعالى إماماً وخطيباً ومعلماً للقرآن الكريم في قرية الجنان، فلازمه شيخنا، وبدأ بالحفظ على يديه مبتدئاً من سورة الناس، فلما قارب حفظ نصف القرآن، وبالتحديد إلى سورة مريم، انتقل أبوه والأسرة جميعاً إلى قرية ( علي كاسون ) ، التي تقع شرقي مدينة حماه على طريق السليمية. وكان الشيخ رحمه الله تعالى قد بلغ العاشرة من العمر.

في هذه القرية (علي كاسون) باشر والده بنفسه متابعة تحفيظه النصف الباقي من القرآن الكريم، فأتمه كاملاً، وذلك قبل بلوغه الثانية عشرة من العمر.

مدرسة دار العلوم الشرعية :

عندما أتم شيخنا رحمه الله تعالى الثانية عشرة من عمره، رغب والده في أن يتابع ولده تحصيل العلم الشرعي بعد أن تمكن من حفظ كتاب الله تعالى، ليكون من علماء هذه الأمة.

وفي عام 1934 سمع الوالد بأن مدرسة دار العلوم الشرعية بحماة تدرس الطلاب العلوم الشرعية، فأرسل شيخنا مع أخيه الكبير محمد، ليقوم بتسجيله فيها ويتابع تعلمه على يد أساتذتها. واضطر إلى تعديل تاريخ ميلاده ليصبح1920 بدلاً من 1923، لأن شرط القبول في المدرسة: أن لا يقل عمر الطالب عن خمسة عشر عاماً، وتم قبوله طالباً في دار العلوم الشرعية.

شيوخه رحمه الله تعالى :

كان أساتذة المدرسة من خيرة علماء المدينة، ومن كافة الاختصاصات، وتخرَّج على أيديهم العشرات من طلاب العلم، والذين أصبحوا فيما بعد من أهل العلم الذين يشار إليهم بالبنان، وتؤخذ عنهم الفتيا.

درس العلوم في الثانوية الشرعية على الشيخ : عبد الستار سلامة رحمه الله تعالى .

ودرس الفقه الشافعي على الشيخ توفيق الشيرازي الصباغ رحمه الله تعالى، والذي أحب شيخنا كثيراً وأنس به، وأولاه كل عنايته لما رأى فيه من أمارات النجابة، وأقرأه متن أبي شجاع في الفقه، والرحبية في الفرائض، وألفية ابن مالك، وجواهر البخاري وغيرها.

ودرس الفقه الحنفي على الشيخ زاكي الدندشي رحمه الله تعالى، وقرأ عليه : متن نور الإيضاح، والقدوري، والأجرومية، وغيرها.

وكان يحضر دروس الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى في جامع السلطان، في فقه أبي حنيفة، وفي التفسير والحديث الشريف.

ودرس الصرف على الشيخ عارف قوشجي رحمه الله تعالى .

وقرأ مختصر المنار في أصول الفقه على الشيخ محمود العثمان رحمه الله تعالى .

ودرس الأدب والبلاغة على الشيخ سعيد زهور رحمه الله تعالى، وحفظ منظومة : الجوهر المكنون في الثلاثة الفنون ( المعاني والبيان والبديع )، وكان يزور الشيخ محمد على المراد رحمه الله تعالى في غرفته بالجامع الجديد لتدارس هذه المنظومة.

وقرأ تفسير النسفي على الشيخ مصطفى علوش رحمه الله تعالى، والذي وصفه بأنه كان عالماً زاهداً متواضعاً.

وكانت مدة الدراسة في دار العلوم ثلاثة أعوام، وكان أستاذ هذه المرحلة المقرئ الشيخ نوري أسعد الشحنة، والذي آلت إليه مشيخة دار الحفاظ بعد وفاة الشيخ محمد النوشي رحمه الله تعالى. ولازمه فيه شيخنا، وعنه أخذ القراءات السبع وكان هذا عام 1938 م.

ومن شيوخه من خارج المعهد الشرعي :

الشيخ سعيد الجابي رحمه الله تعالى، والذي كان شيخنا محباً له معجباً به، متابعاً لنهجه القويم.

والشيخ علي العثمان، والذي قرأ عليه عدة كتب : منها كتب في الفقه الحنفي، وتحفة الفقهاء، وتاريخ أيام العرب، وحفظ الكواكبية في الفقه الحنفي.

زملاؤه في المدرسة الشرعية:

من زملائه في المدرسة الشرعية : الشيخ سليم الأحدب، والشيخ إبراهيم المراد، والشيخ عبد الحميد الجابي رحمة الله عليهم أجمعين.

أساتذة الأمس زملاء اليوم: 

في عام 1950م تم تعيين الشيخ رحمه الله تعالى مدرساً في مدرسة : دار العلوم الشرعية، والتي تخرج منها قبل عشر سنوات 

استمر رحمه الله تعالى في التدريس في الثانوية الشرعية، وكان معه من المدرسين : الشيخ عبد الله الحلاق مديراً، والفقيه الشافعي الشيخ خالد الشقفة، والفقيه الحنفي الشيخ زاكي الدندشي، والشيخ محمد علي الشقفة، والشيخ أحمد سلطان، والأستاذ صلاح المراد، والأستاذ مصطفى الهبرة، رحمهم الله جميعاً رحمةً واسعة، وأسكنهم فسيح الجنان.

محفوظاته رحمه الله تعالى :

من أعظم محفوظاته رحمه الله تعالى : القرآن الكريم، بالقراءات العشر، وبالطرق الثلاث : الشاطبية والدرة والطيبة، وهذه قصائد نظمها أصحابها في القراءات ليسهل على الطالب حفظها ومراجعتها والرجوع إليها، وبعضها تجاوز الألف بيت.

وحفظ رحمه الله تعالى : منظومة السخاوي في متشابه القرآن، وتقع في أكثر من ( 400 ) بيت، والرائية في علم الرسم للإمام الشاطبي، والجزرية والتحفة في التجويد، وناظمة الزهر في علم الفواصل، وألفية السيوطي والبيقونية في علم مصطلح الحديث، كما كان يحفظ كتاب: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، وكان يحفظ المعلقات السبع .

وكان رحمه الله تعالى يحفظ من وجوه التفسير في الآيات الكريمة ما يغنيك إذا سمعته منه عن العودة لأي مرجع، ولئن رجعت فلن تجد أي اختلاف بين ما أخبرك به وبين هذه المراجع، وينسحب هذا على جميع كتب علوم القرآن الكريم .

وأنعم الله على شيخنا رحمه الله تعالى بأن حفظ من أحاديث سيدنا رسول الله r ألوفاً بالضبط والإتقان وتعدد الروايات، ودرجة الحديث وما قال فيه أهل العلم،

وفي الفقه حفظ متن الرحبية في الفرائض، ومتن أبي شجاع في فقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، والكواكبية في اللغة، والكواكبية في الفقه.

وفي اللغة والنحو والصرف حفظ : ألفية بن مالك والأجرومية، ومنظومة الجوهر المكنون في الثلاثة الفنون. 

أما محفوظاته من الشعر قديمه وحديثه كان يحفظ الشيء الكثير منه والكثير جداً، كلها حاضرة في ذاكرته، ومتى شاء أسعفته بما يريد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. 

التحاقه بالشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله تعالى وقراءته عليه :

التحق شيخنا أبو عبد الله بالشيخ عبد العزيز بحمص ليأخذ عنه القراءات الثلاث المتممة للعشر، فلازمه يقرأ عليه كل يومٍ ما يسمح به وقت الشيخ، والذي ازدحم بابه بطلاب العلم الذين يفدون إليه من جميع مدن سورية والدول المجاورة.

ختم الشيخ القراءات الثلاث على الشيخ عبد العزيز وأخذ مثلها من علومه الغزيرة وأخلاقه الحميدة، وسلوكه المستقى من سيرة الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد كان رحمه الله تعالى على جانب عظيم من حسن الخلق، ولين الجانب، يألف ويؤلف، تسطع في وجهه أنوار وبركات القرآن الكريم، ويشع من جبينه الأغر بهاء السنة المطهرة، مجلسه مجلس علم وذكر، وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر.

العودة إلى حمــــاه : 

كان لقاء الشيخ أبي عبد الله بالشيخ عبد العزيز في عام 1945 م، وبعد أن انتهى رحمه الله تعالى من القراءات الثلاث المتممة للقراءات العشر رجع إلى حماه، واستقبله شيخه الشيخ نوري أسعد الشحنة فرحاً به، مستبشراً بما حمله من إجازة بالقراءات الثلاث :

الشيخُ تلميذٌ والتلميذُ شيخٌ :

لم يكن الشيخ نوري رحمه الله تعالى قد تلقى عن أشياخه سوى القراءات السبع، والتي أقرأها لشيخنا أبي عبد الله وأجازه بها، لذا كان سروره عظيماً بهذه القراءات الثلاث، والتي طلب من شيخنا أن يجيزه بها بعد أن قرأها عليه، وكان له ذلك، حيث ضرب الشيخ نوري أروع الأمثلة في التواضع وعدم الأنفة من أن يتلقى العلم عن تلميذه، وهذا شرفٌ كبير أيضاً لشيخنا أبي عبد الله أن يأخذ عنه العلم أستاذه ومعلمه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

في جامع الدلوك :

جامع الدلوك من مساجد حماه العديدة، والعامرة بالمصلين، ويقع في حي سوق الشجرة وإلى حي الحوارنة أقرب.

اختص الله تعالى هذا المسجد كما اختص غيره من المساجد ببعض الفضائل، حيث أقام فيه الشيخ الحافظ المقرئ المتقن نوري بن أسعد الشحنة رحمه الله تعالى، يُقرئ ويلقن ويعلم وينشر علوم القرآن والقراءات، وعنه وفي هذا المسجد المبارك تلقى شيخنا أبو عبد الله رحمه الله تعالى القراءات السبع مع كثير من طلاب العلم.

شيخ القراء والقراءات في حماه :

بعد وفاة الشيخ نوري الشحنة (بحدود عام : 1950 م) تبوأ شيخنا رحمه الله تعالى منزلة شيخه، وبايعه علماء حماه شيخاً للقراء بلا منازع، وقد تقدم أنه رحمه الله تعالى جمع إلى جانب علوم القرآن والقراءات إلماماً واسعاً بكافة العلوم الشرعية، مع خلقٍ رفيع، وذوق رائع، وروح سامية جعلته محبباً إلى جميع من عرفوه من أهل العلم وغيرهم.

وبدأ طلاب العلم يتوافدون على جامع الدلوك لأخذ علم التجويد وعلوم القرآن الكريم ممن أتقنه وحذق فيه، وكان لكل طالب عنده ختمة مستقلة، يبدأ الطالب بالقراءة من الفاتحة إلى الناس، والشيخ يستمع له ويصحح له أداءه وأحكامه ومخارج حروفه، فإذا ما آنس منه جودة في القراءة وحسناً في الأداء أجازه بالقراءة والإقراء.

ولم يكن رحمه الله تعالى يتقيد بوقت من نهار أو ليل، حيث كان يصلي الفجر إماماً في جامع الدلوك، ثم يأتي غرفته يستقبل الطلاب يسمع لهم ويقرئهم، وينتهي وقت الاستماع عنده مع انتهاء آخر طالب من التلاوة، حتى تلقى عنه جمع غفير، وخلق كثير، وهناك وقت مخصص للنساء، واستمر على هذا الحال حتى نهاية عام 1980 م.

امتحان :

في أيام الوحدة مع الشقيقة مصر استلم إدارة الأوقاف بمدينة حماه رجل بالغ في الإساءة إلى العلماء الأجلاء والنيل منهم، ووقف مواقف عدائية من الدعوة والدعاة، وزار هذا المدير الثانوية الشرعية، - والتي كانت وما تزال تابعةً لوزارة الأوقاف – وقال: إنه يريد أن يرسل برقية تأييد إلى رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر، ويريد موافقة العلماء الموجودين في الثانوية، وللأسف وافقه ثلاثة من المشايخ دأبوا وحتى وفاتهم على الخروج عن إجماع علماء البلد ويداهنون السلطة، ثم جاء إلى شيخنا يطلب منه الموافقة والتوقيع على البرقية، فقال له الشيخ : إني مرتبط بجمعية العلماء وأنا عضو من أعضائها ولا أقطع أمراً دونها، استشاط الرجل غيظاً من هذا الموقف، فقال : إن ارتباطك معنا وراتبك من عندنا ؟ فقال الشيخ رحمه الله تعالى : إن ارتباطي المادي معكم، أما ارتباطي الديني فمع العلماء، ثم كرر الطلب نفسه مع الشيخ عبد الله الحلاق رحمه الله تعالى فرفض الاستجابة وقال : رأيي مع علماء حماه، غضب الرجل وهدد وتوعد، وكان من جملة انتقامه أن سحب من شيخنا بعض الساعات وأعطاها لغيره، وخصم ذلك من راتبه.

واحتدمت الخصومة بينهما، ورفع شيخنا الأمر للقضاء، وحجته رحمه الله تعالى أنه مُعَّين براتب مقطوع وليس بنظام الساعات، وليس من حقِّ مدير الأوقاف أن يمس ساعات تدريسه أو راتبه، وحكم القضاء لصالحه رحمه الله تعالى، واسترد ما سلب منه من حقوق. 

واستمرت محاولات مدير الأوقاف للنيل من الشيخ، وخاصة عندما اجتهد في إصدار أمر من وزارة الأوقاف بإعفاء الشيخ من وظيفته، لكنه باء بالفشل، بل جاء أمر وزارة الأوقاف بإعفاء هذا المدير الظالم من وظيفته. 

امتحان آخر

في عام 1973م قامت عناصر المخابرات باعتقال الشيخ وأودع السجن في حماه، ثم نقل إلى سجن المخابرات بدمشق، وسبب ذلك أن الحكومة أعلنت عن تعديلاتٍ جوهرية في الدستور السوري، فتنادى الشيخ مع بعض الغيورين المخلصين وقاموا بمناقشة موضوع تعديل الدستور، والذي رأوا فيه مخالفةً صريحةً للإسلام، فما كان منهم إلا أن كتبوا بياناً يكشف عوار هذا التعديل، ووزعوه على العلماء، والذين قاموا بدورهم – مشكورين – بإعلانه على المنابر، مما أثار حفيظة السلطة، والتي سارعت إلى اعتقال الشيخ انتقاماً منه.

بُذلت جهود مشكورة للإفراج عن الشيخ خلال الأشهر الثمانية التي أمضاها في الاعتقال، وبقي أحباب الشيخ يتابعون السلطة للإفراج عن الشيخ، وعلى رأس المتابعين الشيخ الفاضل خالد الشقفة رحمه الله تعالى، والذي استصدر أمراً من رئيس الجمهورية بإخلاء سبيل شيخنا رحمه الله تعالى، وعند إطلاقه من معتقله طلب رئيس السجن من الشيخ أن يقول كلمة شكر وثناء ومدح في الرئيس، فما كان منه إلا الرفض ولم يتكلم بكلمةٍ واحدة.

بعد الإفراج عن الشيخ رحمه الله تعالى أبلغه مدير الأوقاف الجديد أن المحافظ لا يرغب باستمرار الشيخ بالتدريس، وتمَّ فصله من عمله تعسُّفاً وظلماً وعدواناً.

تفرَّغ الشيخ بعد ذلك لإدارة دار الحفاظ وحلقات التجويد والتحفيظ، وبارك الله في جهوده التي كانت كلها لله تعالى دون أن يأخذ من أحد أجراً على تعليم أو تحفيظ، واستفاد من الشيخ خلقٌ كثير.

في مكة المكرمة:

وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، حيث شاءت حكمة الله تعالى أن ينشر علمه أكثر مما انتشر في مدينة حماه وما حولها، فكانت الهجرة الاضطرارية إلى مكة المكرمة في ربيع عام 1981 م، وتعاقدت جامعة أم القرى معه.

عطاء لا يعرف الملل :

وكما كان في مدينة حماة دأب الشيخ رحمه الله تعالى في مكة المكرمة على بذل جميع وقته لطلاب العلم وأهل القرآن الكريم، فيبدأ باستقبال القراء من بعد صلاة الفجر إلى أن يحين وقت الذهاب إلى الجامعة، فإذا ما عاد منها استراح قليلاً، فما أن يصلي العصر حتى تبدأ مجموعات الذين يقرؤون عليه بالتوافد، كلٌّ في موعده المحدَّد، وأغلب أوقاته بعد العصر كانت مخصصةً للنساء، واللواتي كنَّ يأتين من مكة المكرمة وجدة.

علوُّ الهمَّة من الإيمان:

في عام 1408 هـ أدخل الشيخ المستشفى لإجراء عملية لاستئصال المرارة، وخرج من المستشفى لقضاء فترة النقاهة في بيته بحي العزيزية، وجاء محبوه وزملاؤه المدرسون بالجامعة وتلامذته يعودونه في بيته، وكان من جملة العُوَّاد رئيس قسم القراءات بالجامعة، فقال له الشيخ: أستأذنك وحتى لا يحرم الطلاب من الفائدة أن يحضروا إلى بيتي خلال فترة النقاهة أثناء إجازتي المرضية، لكي يتابعوا المنهاج الجامعي المقرر عليهم في القرآن والقراءات، أدهش هذا الكلام الحاضرين جميعاً، حتى حال المرض والنقاهة لا يكف الشيخ عن البذل والعطاء ؟ إنه فضل الله يؤتيه من يشاء، لم يكن رحمه الله تعالى ينظر إلى عمله نظرة موظف يؤدي الساعات المطلوبة منه، ثم ينصرف، إنها أمانة وإرثٌ نبوي، حملها بصدق وأداها بإخلاص :

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

وافق رئيس القسم على هذا الطلب، ثم نتج عن ذلك أن أُعفى الشيخ من تجشم صعوبة الذهاب إلى الجامعة ـ إلا في أيام الاختبارات ـ وجعل الطلاب بدلاً من أن يذهبوا للجامعة يأتون منزل الشيخ لمتابعة منهاجهم العلمي.

واستمر الأمر على هذه الحال حتى أُعفي الشيخ من منصبه بسبب تجاوزه السن وذلك في شهر صفر الخير من عام 1418.

وفي بيته أقرأ وأجاز المئات من الطلاب، ومن كل أرجاء المعمورة، بصبر وأناة وتحمل، ولقد تعرفت في بيته على ضيف هو الأخ الحافظ: مصطفى البحياوي (البحياوي بالباء ) جاء من المغرب معتمراً فمكث في مكة خمسة عشر يوماً قرأ فيها على الشيخ ختمةً كاملة على قراءة ابن كثير، كان يقرأ جزءً بعد صلاة الفجر، وآخر بعد العصر حتى ختم وأجيز

وجاء قارئ من الجزائر هو ( الشيخ يخلف الشراطي رحمه الله تعالى ) فقرأ رواية ورش في ثمانية عشر يوماً، وأجيز بها وعاد إلى بلده يُقرئ ويجيز، ومثله كثير.

أسماء بعض المجازين بالعشر وبالثلاث المتممة للعشر:

1 – الشيخ العلامة نوري بن أسعد الشحنة ، السوري ، أجيز من الشيخ سعيد رحمه الله تعالى بالثلاث المتممة للعشر من طريق الدرة ، وهو شيخ الشيخ سعيد في القراءات السبع .

2 – الشيخ حسين خالد عشيش السوري ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) .

3 – الشيخ محمد نبهان حسين مصري السوري ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، أستاذ القراءات بجامعة أم القرى .

4 – الشيخ الدكتور / عبدالله بن حامد السليماني ، السعودي ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) .

5 – الشيخ أمين إدريس فلاته ، السعودي ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، أستاذ القراءات وعلومها بجامعة أم القرى .

6 – الشيخ فؤاد جابر المصري ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، أستاذ القرآن الكريم بجمعية تحفيظ القرآن بالطائف .

7 – الشيخ محمد عبدالحكيم بن سعيد العبدالله ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، متخصص بالقراءات وعلومها .

8 - الشيخ عبدالباري بن سعيد العبدالله ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، ماجستير بالدراسات الإسلامية .

9 – الشيخ محمد حمود الأزوري ، السعودي ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، أستاذ بقسم القراءات بجامعة أم القرى .

10 – الشيخ إبراهيم بن عبدالرحمن حافظ ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) رحمه الله تعالى .

11 – الشيخ نواف بن سعيد المالكي ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، أستاذ بجامعة الملك خالد بأبها .

12 – الشيخ محمد بن علي الغامدي ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة)مدرس القرآن الكريم بالهيئة الملكية بينبع .

13 – السيد أحمد السيد عبدالرحيم ، المصري ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، مدرس القراءات بجماعة تحفيظ القرآن الكريم ببيشه .

14 – الشيخ وليد محمد جمعه بستاني ، (العشر من طريقي الشاطبية والدرة) ، أمين المكتبة القطرية بمكة المكرمة وصهر الشيخ .

منهجه في العلم والعبادة:

نشأ الشيخ رحمه الله تعالى بين فريقين من العلماء : فريق مقلد لإمامه متقيد بمذهبه، لا يحيد عنه شعرة مهما صحَّ عنده من دليل أو رجح أمامه من برهان.

وفريق آخر أنكروا الاتباع أو التقليد بالكلية، وغضوا من شأن الأئمة الأربعة المجتهدين، والذين سلَّمت لهم الأمة : سلفها وخلفها بالإمامة وأهلية الاجتهاد، وتطاول البعض منهم على هذه الكواكب النيرات، وقالوا قولاً يكشف ضآلة علمهم وضحالة تفكيرهم : هم رجال ونحن رجال، وسمح كل واحد منهم لنفسه أن يحرمها من الاستفادة من علوم الأولين، وزعموا أنهم يأخذون الأدلة من الكتاب والسنة مباشرة، مع أنهم ليس لديهم أهلية الاجتهاد.

أين موقع الشيخ سعيد العبد الله المحمد من هؤلاء وهؤلاء ؟

نشأ رحمه الله تعالى محباً للأئمة الأربعة، مقراً بالمذاهب الأربعة محباً لهم ولأتباعهم عالماً بكثير من أصول مذاهبهم، يذكرهم بالاحترام والتوقير، وإن لم يأخذ بجميع أقوالهم، لا ينكر على مجتهد من ذوي الأهلية في الاجتهاد، ولا يعيب على مقلد، 

وقد تفقه في بداية طلبه للعلم على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى والتزمه، ثم تحول إلى التعمق والتوسع في فقه الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، والتزم مذهبه علماً وعبادةً، لكن هذا الالتزام لم يكن يمنعه من الأخذ بما رجح لديه وصحَّ عنده من دليل وإن خالف إمامه، مثال ذلك: قراءته لفاتحة الكتاب خلف الإمام مخالفاً بذلك مذهب الحنفية، 

كان رحمه الله تعالى صلباً في دينه، إذا اعتقد أمراً أو اقتنع بدليل شرعي، ووجد من يحيد عن هذه الأدلة الصريحة الصحيحة ويخالفها دونما دليل يعتمد عليه لا يقوم لغضبه شيء.

عبادته :

كان رحمه الله تعالى لا يدع قيام الليل في سفر أو حضر، وكان يميل إلى طول القيام والقراءة أكثر من ميله إلى عدد الركعات التي يؤديها، وما طلع عليه الفجر وهو نائم طيلة حياته المباركة، باستثناء أيامه الأخيرة أيام المرض والمعاناة.

ولقد كان مواظباً على صلاة الوتر ثلاث عشر ركعة سنين طويلة، وحتى بعد ما تجاوز الثمانين من عمره المبارك.

أما السنن الرواتب فكذلك كان شديد المحافظة عليها، لا يدعها لأي ظرف كان

مجالسه :

كان مجلسه مجلس علم وتعلم، وأمر بمعروف ونهيٍ عن منكر، ووصيةٍ صالحةٍ، ونصيحةٍ خالصةٍ، وكان إذا أهدي إليه كتاب تلمَّسه بيده وتحسَّسه، ثم قال لبعض من حضر : إقرأ علينا قائمة الموضوعات التي يتضمنها هذا الكتاب (الفهارس)، ثم يأمر بالقراءة من أوله ويستمع ويعلق ويناقش، حتى يستفيد أهل مجلسه جميعاً.

وفي مجالسه المباركة تلك كان يلتقي أهل القرآن، وأصحاب القراءات، ولطالما التقينا عنده بكثير من العلماء والدعاة من مشارق الأرض ومغاربها، وسمعنا عن واقع المسلمين في تلك البلاد ما لا يمكن أن نسمعه إلا في مثل هذه المجالس المباركة.

وقلما يقدم قادم من إحدى المدن السورية من أهل العلم إلا ويحرص على زيارته رحمه الله تعالى، أما مدينة حماه فالقادمون منها من أهل العلم والعامة كانوا لا يتركون زيارته أبداً، ويأخذ بالاطلاع على أوضاع البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويسأل ويستفسر عن أوضاع الناس عامة، وعمن يعرفهم خاصة، ويسأل ويتحرى عنهم بأسمائهم فرداً فرداً.

حياته الاجتماعية :

كان رحمه الله تعالى اجتماعياً وَصُولاً لإخوانه ومحبيه، يستقبلهم في بيته، ويرد الزيارات لهم مهما بعدت منازلهم، ويكثر من زيارته لشيخه الشيخ عبد العزيز عيون السود بمدينة حمص، ويزور أبناء عمومته في منطقة الحولة (غربي مدينة حمص).

هكذا كان شأنه رحمه الله تعالى : يذهب لوداع من يريد السفر للحج أو غيره من الأسفار، كما يذهب للسلام على من حضر من سفره، يعود المرضى في بيوتهم أو في المستشفيات، يتحفهم بأغلى الهدايا والعطايا. 

ولقد تأخر زواجه رحمه الله تعالى بعض الشيء حتى حان عام : 1965 ميلادي واقترن بأم عبد الله (أطال الله في عمرها وعافاها) ابنة الشيخ عبد الرزاق مسطو رحمه الله تعالى، وأنجبت له ثمانيةً من الأولاد، ثلاثة من الذكور هم : عبد الله، وعبد الحكيم، وعبد الباري، وكلهم قد حفظ القرآن الكريم وأجيز من قبل الوالد : عبد الله بقراءتي : عاصم وابن كثير، عبد الحكيم وعبد الباري : بالقراءات العشر.

وخمسة بنات : أربع منهن تزوجن في حياته رحمه الله تعالى أسأل الله لهن السعادة والهناء جميعاً.

الجود والسخاء والكرم :

ما رأيت في حياتي فيمن رأيت وعايشت وعاصرت أكرم ولا أجود ولا أسخى من الشيخ سعيد عبد الله المحمد.

كان رحمه الله تعالى ينفق جميع ما يأتيه على نفسه وإخوانه (ابتغاء وجه الله تعالى ومرضاته)، يتفقد ذوي الحاجة منهم ويقدمهم في النفقة على نفسه، ولطالما اقترض ليساعد محتاجاً أو يواسي مضطراً. 

وكانت مائدته لا ترفع لكثرة الزوار، هذا في حماه، فلما أقام بمكة المكرمة، لا يكاد يسمع بضيف جاء للعمرة أو الحج إلا ويدعوه ومن معه لبيته، ويجود بما يرهق ويتعب أهله في خدمة الضيوف مع خدمة الإحضار من الفندق والإعادة إليه، 

ولا أبالغ إذا قلت : إنه لم يتناول وجبتين متتاليتين من الطعام مع أهله لكثرة ما يولم ويدعو، ولسان حاله يقول : 

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فلست بآكله وحدي

ولا يسمح لزائره بمغادرة بيته إذا اقترب موعد الغداء أو العشاء، حتى يطعم ثم يمضي لشأنه.

فلما أكرمه الله تعالى بالإقامة بمكة المكرمة كان بيته – وفي أغلب الأحيان – لا يخلو من ضيف مقيم ممن حضروا للحج أو العمرة، وذلك مع الخدمة الكاملة من المطار إلى المطار، والإيصال للحرم والإحضار منه للبيت.

تواضعه رحمه الله تعالى :

كان الشيخ رحمه الله تعالى لا يرفع نفسه أبداً، ولا يشعر جليسه أنه فوقه أو أعلم منه، ولشدة تواضعه يريك أنه لا فرق بينه وبين تلامذته، لكن إذا ما تم طرح مسألة علمية من فقه أو حديث أو كانت في علوم القرآن والتفسير والقراءات ظهر فضله وبزغ نجم علومه وإحاطته رحمه الله تعالى.

وما كان يسمح لغير أبنائه بتقبيل يده، وإذا ما فعلها أحد منا ينزعج ويقول : لا تعد لهذا أبداً. 

مؤلفاته رحمه الله تعالى :

ليس للشيخ مؤلفات كثيرة لأن جُلَّ وقته كان يصرفه في الإقراء والتدريس والتعليم، أما أهم ما كتبه رحمه الله تعالى فهي: كتاب القول المنيف في رسم المصحف الشريف، ومنظومة : نشر العطر في بيان المد والقصر، وتقع في أكثر من أربعمائة بيت، ونظم كتاب : صريح النص في الكلمات المختلف فيها عن حفص، للشيخ علي الضباع رحمه الله تعالى، ونظم كتاب : تهذيب الألفاظ لابن السكِّيت، وهو كتاب في مترادف اللغة، وله رحمه الله تعالى منظومات كثيرة في القراءات واللغة.

وفاته رحمه الله تعالى :

كان رحمه الله تعالى يشكو من ضعف في عضلة القلب مع ارتفاع بضغط الدم، وصاحب هذا تجمع مائي في البطن، والذي كثيراً ما كان يسبب له انتفاخاً في القدمين والساقين، وبقي على هذه الحال مدة لا بأس بها، يزيد الأمر فيلزم الفراش صابراً محتسباً، فإذا ما آنس من نفسه بعض نشاط عاد لبرنامجه فيما يخصه أو يخص تلامذته والذين يأخذون عنه علوم القرآن والقراءات.

حتى كان يوم الخامس من رجب من عام 1425 ازداد مرضه رحمه الله تعالى فتمَّ نقله إلى المستشفى، والتي مكث فيها ثلاثة أيام في العناية المركزة، اختاره الله تعالى بعدها إلى جواره : في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، لكنه قبل الوفاة بلحظات طلب ماء زمزم فشرب ثم تشهَّد مرتين، ثم أسلم الروح إلى بارئها، بعد ظهر يوم الثلاثاء الثامن من رجب1425هـ الموافق 24من آب2004م، وصلي عليه في المسجد الحرام، وشيعه المئات من تلاميذه ومحبيه، ودفن في مقبرة الشرائع بمكة المكرمة رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.