اللواء الركن محمود شيت خطاب
بقلم العلامة : محمد أبو زهرة
صلة الكتاب بمؤلفه:
أما بعد، فقد أطلعني صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب على كتابه القيم «بين العقيدة والقيادة»، واستمعت إلى بعضٍ قليلٍ منه في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية.
وإنَّ الكتاب يكوِّن صورةً من كاتبه في تفكيره في المعقول، ومَظْهراً لذوقه وإدراكه في المنقول؛ ولا ينفصل الكتاب الذي يكون ثمرة لجهود كاتبه، عن صاحبه؛ كما لا ينفصل السبب عن الـمُسبَّب واللازم عن الملزوم؛ لأنه صورة منه، وصورة طور من أطوار نفسه.
ولا يُمكن أن يَتبيَّن الأثر إلا إذا تعرَّضنا بالبيان لمن أوْجَدَهُ.
ولذا كان لا بدَّ أن نتعرَّض بكلمةٍ للكاتب، قبل أن نتصدَّى للمكتوب، كما لا نعرف النتائج من غير معرفة مقدِّماتها.
معرفة الأستاذ أبي زهرة باللواء الركن محمود شيت خطاب:
وإنَّ صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب، القائد العظيم الـمُدْرك، والوزير المخلص ـ وقليل ما هم ـ سعدْتُ بمعرفته من نحو أربع سنين أو أقل([2])، والمدة في الحالين لا تزيد؛ ولكنِّي بمُجرَّد أن التقيتُ به أحْسَسْتُ بأني أعرفه منذ سنين تُعدُّ بالعشرات، لا بالآحاد، وكأنَّ الأرواحَ قد تَعَارفت قبل أن تَتلاقى الأشْباح، وكأنَّ الصُّورة قد رأيتُها، وما لقيتُها؛ لأنَّ الأرواح تتألَّف وتَسْبق الائتلاف، وتَتَـقَاربُ وتَسْبق الاقْتراب؛ ولذلك سرعان ما تَصَادقنا عندما التقيت به، وكأنَّ صداقتنا ترجع بالماضي إلى آماد، لا إلى وقت قريب.
إذا اجتمعنا منفردَيْن أو في جَمْع، وتَبَادلنا الأفكار، أحْسَسْتُ بأني لا أنوي فكرةً إلا سبقني إليها، وقد أسارع إلى القول بما في خاطره، قبل أن يُبْدِيَهُ؛ وكان ذلك لامتزاجِ نفوسنا، وصفاءِ ما في نفسه، وابتعادِهِ عن الالتواء في القَوْل أو الفكر أو الاتِّجاه، فهو يسير بفكره وقوله وعمله في خطٍّ مستقيم، كاستقامةِ قامته؛ والخطُّ المستقيم يعرف ابتداؤه، كما يُعرَف وَسَطُه وانتهاؤه.
وكانت مجالس نَتَبادَلُ فيها الحديث على نُورٍ من الله، وروحانيَّـة نفوس، واستقامة قلوب بيننا؛ فكنتُ أتذكَّر في هذه الصُّحبة قول النبي ﷺ: «إنَّ من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شُهداء، يغبطهم الأنبياء والشُّهداءِ لِـمَكانهم من الله»، قيل: «ومَنْ هُم يا رسول الله؟» قال: «هم قوم تَـحَابُّوا بروح من الله على غير أرْحَامٍ تربطهم، ولا أموال يَتَعاطَوْنها؛ والله إنَّهم لَنُور، وإنَّهم لَعَلى نور؛ لا يخافون إذا خَافَ الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس»، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ﴾ [يونس: 62]([3]).
تذكَّرتُ هذا الأثرَ النَّبويَّ إذا اكتمل بالعمل جَمْعُنا، لكني ولست ممَّن يَتَسَامى إلى هذه المكانة، وأحسب أنَّ صاحبي يَتَسَامى إليها، أو أني أرجو ذلك له.
صفات اللواء خطاب:
وقد جَـمَع الله تعالى لصديقنا اللواء خطاب من الصِّفات ما تَسْمُو به واحدة منها عن سَفْسَاف الأمور، وتَتَّجه به إلى معاليها.
أولها: الإخلاصُ في القول والعمل؛ والإخلاصُ إذا كان في قلب أشرق، وقَذَفَ الله تعالى فيه بنور الحكمة، وكان تفكيره مستقيماً، ولسانه قويماً، وعمله حكيماً، فلا يكون التواء، ولا عوج.
وثانيها: الإدراكُ الواسعُ، والعلمُ بما حَوْله، وتعرُّف الأمور من وجوهها، وإدراكها من مَصَادرها؛ فقلمُه نقيٌّ، وله فكر ألمعيٌّ.
قائد يعرف خَصْمَهُ، ويُدْرِكُ مَرَاميه، حتى أنه لَيَتوقَّع الحرب أو الهجوم من عدوِّه في مقاتها قبل أن يُعْلِنَها، وقبل أن يفكِّر فيها من سيكونون حَطَبها؛ لأنه يعلم الخصْمَ، ومآربَهُ، وحالَهُ، ويتعرِّف من ذلك مآله..
عَلِمَ بهجوم اليهود سنة 1967 قبل أن يُعلنوه، وقبل أن يُقدِّره الذين كانوا في زعمهم يُدبِّرون الأمور، ويَلْبسون لكلٍّ لبوسها.
وثالثها: إيمان صادق بالله، ورسولِهِ النَّبيِّ الأمين؛ ولذلك يَتَـتَـبَّع سيرة السالفين، ويجعل منهم نُوراً يهتدي به، ويعلم منه أعلام الهداية.
همَّـةٌ عالية وتجربة ماضية:
ويكمل هذه الصِّفات التي هي منه بمنزلة السجايا والـمَلَكَات؛ همَّـةٌ عالية، وتجربةٌ ماضية، وخِبْرة بالعلم والحروب، وخصوصاً ما كان بين العرب واليهود.
صفاته العلمية والـخُلقية:
وهو عالـمٌ في العربيَّـة، ومُلمٌّ إلماماً عظيماً بشُؤون الدين، وقارئٌ يَتَقصَّى الحقائق فيما يقرأ؛ يتعرَّف ما تَسْطُره الأقلام، وما وراء ما تسطره؛ ينفر من تقليد الفِرَنْجَة، ويُؤْثِر ما في القرآن والسنة وما كان عليه السَّلف الصالح؛ وهو ممن يُؤثِرون الاتِّباع، ولا يرضَوْن عن الابتداع؛ سلفيٌّ في إيمانِهِ وعملِهِ، قويٌّ في تفكيره، يهضم ما جدّ في العصر، بما في قلبه من إيمان راسخ، واتِّباع مستقيم.. وله مع كلِّ هذا قلمٌ بارعٌ مُصَوِّر، وكتابته من قبيل السَّهل الممتنع؛ وفقه الله تعالى وهداه([4]).
*          *          *


([1]) تقديم كتاب «بين العقيدة والقيادة»، ص9-28ـ طبعة دار القلم الأولى: 1419هـ = 1998م. وقد اقتصرت على كلام الأستاذ أبو زهرة حول اللواء الركن محمود شيت خطاب.
وتنظر ترجمة اللواء محمود شيت خطاب رحمه الله تعالى، فيما كتبه أستاذنا الفاضل الشيخ محمد فاروق بطل في تقديمه لكتاب «قادة فتح الأندلس» 1: 7-51.
([2]) وقد شارك في ندوة مجلة «لواء الإسلام» القاهريّة، مع الأستاذ محمد أبو زهرة، وثلة من العلماء الفضلاء، وكانت أول ندوة يشارك فيها في مساء الثلاثاء 7 من رجب سنة 1388هـ، الموافق أول أكتوبر سنة (1968م)، وقد رحَّب به صاحب المجلة الأستاذ أحمد حمزة وقال: يسرُّ مجلة «لواء الإسلام» أن تُرحِّب بتشريف سيادة الأخ اللواء الركن محمود شيت خطاب، أحد رجالات العراق الشقيق، الذي كرَّس وقته في خدمة الإسلام والمسلمين، يؤيِّد ذلك كتاباته القيِّمة، ومؤلَّفاته التي لا نظير لها، وخاصَّة ما يتعلَّق منها بتاريخ العرب والإسلام والمسلمين. وإنا لنرجو له مزيداً من التوفيق في خدمة الدين الحنيف.
ثم عقب الأستاذ أبو زهرة بقوله: «نوافق السيد رئيس الندوة على ما قاله بالنسبة للصديق الكريم اللواء محمود شيت خطاب، وأضمُّ إلى تقديره وثنائه، ثنائي على أخينا الأستاذ مصطفى الزرقا، فهو عالـمٌ محقِّق، وفقيه دقيق، وإذا سمحتم فإنِّي أُرحِّب به باسمكم شاكراً لهما تفضُّلهما بالحضور، وتشجيعهما لندوتنا المباركة إن شاء الله». مجلة «لواء الإسلام» العدد 12 من السنة 22: (1388هـ = 1968م).
([3]) رواه النسائي في «الكبرى» (11172)، وأبو يعلى (6110)، وابن حبان (573)، وابن جرير 11: 132، من حديث أبي هريرة وسنده صحيح. وله شاهد عن عمر رضي الله عنه رواه أبو داود (3527)، وأبو نعيم في «الحلية» 1: 5، وجوَّده ابن كثير لكنه منقطع ولا يضر. وله شاهد ثان عن أبي مالك الأشعري، رواه أحمد 5: 341، 343، وابن المبارك في «الزهد» (714)، وأبو يعلى (6842) وسنده حسن.
([4]) قال اللواء الركن محمود شيت خطاب في آخر تقدمته لكتابه «بين العقيدة والقيادة» ص36: «فأعمق الشكر وأعظم التقدير لفضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة، شيخ العلماء، وعالم الشيوخ على مقدِّمته الضافية، وقد حرصت على إثباتها في الكتاب تقديراً لفضله وعلمه وشجاعته في الدفاع عن الإسلام، ثم هي رأي الدين الحنيف باعتباره من أكبر علماء المسلمين في العصر الحديث في تقرير العلاقة الوثيقة بين العقيدة والقيادة». انتهى.
 
من كتاب أعلام وعلماء ، لمحمد أبو زهرة ، جمع وترتيب وتعليق : مجد مكي