حسن أيوب العلامة الورع والفقيه المجدد
 
كتب: عبد السميع محمد راضي
لِعِظَمِ مكانته عندي، لا أجد من الكلمات والتعبيرات، ما يناسب مقامه وشخصيته، فكما عرفته وعايشته عن قُرْبٍ لسنوات طويلة، أؤكد صادقاً، ودون أي مبالغة، أنه أكبر بكثير من كل ما يمكن أن أقوله فيه، أو أكتبه عنه، ولا يمكن للكلمات والتعبيرات، مهما كبرت أو تَجَمَّلَتْ، أن تَفِيَهُ حقه، ولم يكن هو ـ حَيَّاً أو مَيِّتَاً ـ في حاجة إلى قولي، أو قول غيري، وليس هذا فحسب، بل لو كان حَيَّاً لَصَمَّ أُذنيه عن سماع أقوالنا  فيه " علم الله "، وسيأتي لاحقاً في مقالات قادمة - بمشيئة الله تعالى - ما يشهد لذلك..!!
وما أُسطره هنا في هذا المقال، وفيما سيأتي من مقالات لاحقة، ما هو إلا غيض من فيض، وسطر من قِمَطْرٍ، في بحر زاخر، من مسيرة جهاده وعطائه وإنجازاته، تلك التي بلغت زهاء خمسة وسبعين عاماً متواصلة من سِنِي حياته وعمره..!!
ومن ثم كانت حياته من الجهاد والعطاء، والثبات والتضحية، والمعاناة والألم، والابتلاء والصبر، صفحات واضحة، وكتاب مفتوح لكل من عرفه، وعرف تاريخه، وهو تاريخ معلوم كالشمس في رابعة النهار، وقد أثبته التاريخ المعاصر في مصادره المكتوبة والمسموعة والمرئية، بأحرف من نور، وبكل الفخر والشرف..!!.
قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 6. ]
ويكفي أنه كان عَالِمَاً ربانياً، عاش عصر المتغيرات والفتن، وهي في أوج زينتها وإغراءاتها وشدتها، دون تأثير أو تغيير أو تَحَوُّلٍ، وظل قابضا على دينه، ثابتاً على يقينه، مُتَّبِعَاً لهدي نبيه، مبلغاً لرسالة ربه، على بصيرة، دون زَيْغٍ ولا غواية، ودون كللٍ ولا ملل، رغم ما حاق بحياته ودعوته من بلاء وشدة..!!.
قال تعالى: { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ }[ سورة إبراهيم: 27 ].
   وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ فصلت: 33 ].
ولم يكن في دنياه إلا زاهداً، متصفاً بمحاسن الصفات والأخلاق، وشرف العلم والعمل، وحُسْن الأسوة والإتباع، وقد رأى أحد تلاميذه النجباء ـ تأكيداً لذلك ـ أنه يمشي خلف النبي - محمد صلى الله عليه وسلم - يقتفي أثره، فكلما رفع النبي قدماً، وضع الشيخ: حسن أيوب، قدمه مكانها، وهي رؤيا صالحة، من رجل نحسبه صالحاً، تشرح الصدر، وتَغْبِطُ القلب، وتبشر بخير، سمعتها بنفسي من فم الشيخ، وسمعها غيري من تلاميذه المحبين الأوفياء..!!
قال تعالى‏: {‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [ ‏فاطر ‏:‏  28‏ ].‏
وقال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [ ‏الزمر ‏:‏ 9 ‏].‏
وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ‏-: (‏من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين‏ ‏‏) متفق عليه.‏
نعم، لقد استطاع شيخنا الراحل: حسن أيوب، بصدقه وإخلاصه أن يشق طريقه في الدعوة - بحصافة وحنكة - نحو إحداث اليقظة والتغيير، في كثيرين ممن عرفوه،  وتابعوه، والتفوا حوله، من جنسيات متعددة، في كل بلد نزل فيه، وفي كل دولة حلَّ بها ؛ إذْ كان لفكره المتميز ؛ وتأثيره المتفرد ؛ وحيوية موضوعاته ؛ وتجدد أطروحاته ؛ وجمال أسلوبه وإلقائه ؛ ومواكبته الدقيقة للأحداث والمستجدات، صدىً كبيراً، وتأثيراً واسعاً، مما أحدث في جمهوره المتنامي، يقظة عامة، وتغييراً ملموساً، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، ولا سيما الشباب منهم، ومن ينتمون لأجيال الصحوة الإسلامية بمختلف تياراتهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم..!!.
كما كان لمنهجه الوسطي المعروف، الذي يجذب ولا ينفر، ويجمع ولا يفرق، وييسر ولا يعسر، ويبشر ولا ينفر، ويُقْرِبُ ولا يُبَعِّدُ، في الدروس والخُطَب، في المحاضرات والندوات، وقْعَاً خاصاً - محبوباً ومرغوباً - لدى الجميع، ولا سيما النساء والفتيات ؛ إذْ كان له بهن اهتمامات خاصة، في الدروس على وجه الخصوص ؛  لقناعته أن المرأة ركيزة أساسية من ركائز البناء والإصلاح..!!
ومن ثم ترك أثره المحمود، وبصماته المؤثرة، على نطاق واسع، في أُناس شتى من أقطار مختلفة، رجالاً ونساء، شيباً وشباناً، في عدة أجيال، كلهم يحملون له الحب والتقدير والإجلال، وقد اختلف معه من اختلف - قريب أو غريب - ولا يملك الجميع في النهاية إلا احترامه وتقديره، لرفيع خصاله، وسمو سجاياه..!!
قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواالْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}  [ ‏المجادلة‏: ‏11 ]‏.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم‏ -: (إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة فى جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير) رواهالترمذي، وقال ‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏  
شرف لي..!!
عملتُ معه بـ " جَدَّة " في مطلع " الموسوعة الإسلامية الميسرة " قبل سفره إلى مصر، وكتبتُ بخط يدي بعض أصولها، وهذا شرف لي، وتعلمتُ منه عملياً من فنون الكتابة والتأليف والبحث والمراجعة ما لم أتعلمه بهذا التوسع والشمول من قبل، واستفدتُ من موضوعاتها، علماً محكماً، وفقهاً دقيقاً، وتبويباً منظماً، علماً أن مادة الموسوعة من علم الشيخ وتأليفه، وأنا لها فقط من المدونين..!!
 وكان مُقْبِلاً على البحث والكتابة والتأليف، بحب وشغف، ومتعة وسعادة، وكان غزير الإنتاج في قليل من الوقت بشكل مدهش، حتى إنك لتجد الوقت ضيقاً جداً في تدوين ما أعده لك في سويعات قليلة أو في اليوم الواحد، كما كان بإمكانه أن يراجع كتاباً ويُصَوّبُ أخطاءة في قليل من الوقت، قبل أن يوضع في طبعته الأخيرة، كل ذلك وهو في منتصف السبعينات من العمر..!!.
ولقد تَطَوَّعْتُ له بالحج مرة، كما تطوعتُ له بالعُمْرَةِ مرتين، كان ذلك في حياته وهو يعلم، كما تطوعتُ له بالعمرة مَرَّةً بعد رحيله ؛ وفاءً لِمَا قطعته على نفسي بعد مماته، وبمشيئة الله تعالى لئن أمَدّ الله في عمري وأعانني وقواني، لَأَتَطَوَّعَنَّ  له بالحج بعد أن أسلم الروح إلى خالقه.
ولستُ وحدي الذي قطع ذلك على نفسه، بل غيري من تلاميذه الخُلَّصِ الأوفياء عزموا على ذلك، وفي مقدمتهم تلميذه المخلص الشيخ: أحمد القطان، الذي صرح بذلك، بل وبعضهم بالفعل سارع بعمل العمرة له، وذَبَحَ الذبائح، وعَمِل سلسبيل الماء ؛ لِسُقْيَا الناس في الطرقات، صدقة، وصدقة جارية، فور علمهم بنبأ وفاته ؛ تقديراً له ؛ ووفاءً لفضله عليهم في العلم والدعوة، والسلوك الأخلاق، وإني لأدعو الله أن يجعل ذلك في موازين حسناته، وحسناتنا أجمعين..!!  
وكما أنه شرف عظيم لي أن أكون واحداً من تلاميذه ومحبيه ومُقَرَّبِيْهِ، فهو لِي شيخٌ ووالِدٌ ومُرَبٍّ عظيم، وهو وإنْ وجَدَ مِنِّي - في حياته - حُبَاً وإجلالاً وتوقيراً، فهو حق المُعَلِّمِ على تلميذه، وَبِرُّ الْوَلَدِ لِشَيْخِهِ وَوَالِدِهِ، ففخراً لي كذلك أن أجِدَ منه في حياته حباً واهتماماً وتقديراً ؛ تأكيداً لحق التلميذ على شيخه وأستاذه، والْوَلَدِ على والِدِهِ، وكما كان لي ـ في حياته ـ معلماً وشيخاً ووالداً، كنتُ وسأظل له تلميذاً وفَيَّاً، وابناً باراً به، حياً وميتاً ؛ إذْ ترك فيَّ أعمق الأثر ؛ لفضله - بعد الله - عليَّ، علماً وخلقا ً، سلوكاً وقدوة، كرامةً وعِزَّةً، وسأظل أنا وأهلي وأبنائي مدينون له بالفضل ما حَيِيْنَا..!!.
زيارة قبره..!!
وقفتُ أمام قبره - زائراً - في أُولى سفرياتي لمصر بعد رحيله، وتحديداً مقابر منوف، بمحافظة المنوفية، تلك المقابر الكبيرة الهائلة، التي خَيَّمَ عليها السكون والصَّمْت، والموت القادم لكل كائن حي، وكنتُ أدرك تماماً أنني أقف أمام قبرٍ يضم بين رفات أمواته فقيهاً من فقهاء العصر، وقمة من قمم الإسلام، وعظيماً من عظماء الأمة، وَوَرِعَاً من أوْرَعِ من عَرَفْتُ، ونجماً من نجوم الدعوة المجددين، وشيخاً من شيوخ الأزهر الثائرين، وعَلَمَاً من أعلام مصر المتميزين، ورائداً من رواد الإصلاح الصادقين المخلصين، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً..!!
وكنت - في تلك الزيارة - أسترجع من سيرته العطرة، ومناقبه الكثيرة، معاني العزة والكرامة، والنبل والشرف، والمروءة والشهامة، والنخوة والحمية، والعمل الدءوب لإعلاء كلمة الله، واقتفائه أثر القرآن والنبوة، بكل ما أُوتي - في حياته - من عزم وإخلاص وقوة..!!
وقلتُ: هنا في هذا البرزخ، في أُولى منازل الآخرة، يرقد جسدك، ويقبع جثمانك، وتنتهي من الدنيا حياتك، حتى يبعث الله من في القبور، لِيُبَشَّرَ كلٌ بخاتمة  عمله الأبدي، ونهاية مصيره السرمدي..!!
بينما في قلوب المخلصين من أبناء الأمة - من تلاميذك، وأحبائك، والعارفين بفضلك - تعيش سيرتك، وتحيا مناقبك، ويستفاد بعلمك، ويتكرر ذِكْرُك، ولا يُمْحَى أثرك ؛ بما تركته من علم ؛ ومؤلفات ؛ وطلبة ؛ ودعاة ؛ وعلماءٍ، في بقاع شتى، يتناقلون إلى الناس علمك ودعوتك، فأنتَ الحي وإن كُنْتَ في لَحْدِكَ مَيِّتَاً، ونحن الأموات وإن كنَّا - ما نزال - أحياء في ديارنا وأعمالنا وأهلينا ودنيانا، فكم من أُنَاسٍ ماتوا، ووارى الثَّرَى أجسامهم، وأفْنَتِ الديدان لحومهم، وأمْضَت القرون في رحيلهم، وهم في الناس بصالح أعمالهم، وجميل مناقبهم، وطِيْبِ آثارهم أحياء، وكم من أحياءٍ يمشون على الأرض زَهْوَاً، وهم في الناس أموات، وأحسب شيخنا: حسن محمد أيوب، من تلك المشكاة الأولى، الفواحة الخالدة، ولا أزكيه على الله..!!
فاللهم انفعنا بعلمه، وانفعه بما علمنا، وارفعه بذلك في أعلى عليين، مع من أنْعَمْتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.