أنور الجندي راهب الفكر وحارس الثغرة

أنور الجندي راهب الفكر.. وحارس الثغرة

 

عبد السلام البسيوني  


سمه راهب المعرفة.. سمه الورع العفيف.. سمه التقي الخفي.. سمه الزاهد في الدنيا كلها.. سمه الرجل الأمة.. سمه حامي الثغر الفكري للإسلام.. سمه حائط الصد ضد العلمنة والتغريب والانبطاح.. وستكون في تسميتك هذه محقًّا؛ فالرجل ذلك، وأكثر من ذلك.. ولا أزكي على الله تعالى أحدًا!

واعجب معي كثيرًا، واندهش متسائلاً: لماذا كان خفيًّا، وأشخاص في ربع قامته يتطاولون؟
ولماذا كان منسيًّا، و (مساكين) يُذكرون ويُبرزون؟
ولماذا تجاهله كثير من أصحاب اللافتات الإسلامية حيًّا وميتًا، في حين أن مجاهيل يُبكى عليهم ويؤبنون!؟
وإذا عرفت الإجابة فأفدني أفادك الله تعالى فأنا في حاجة ماسة لمعرفة تلك الإجابة!
في بعض الأجيال العوجاء - كجيلنا - تنقلب المفاهيم وتختل النسب، ويطفو الزبد التافه على السطح الموّار، فلا ترى على وجه الماء إلا قشًّا، وقصاصات جرائد، وفضلات من الزبالة، وقطع الخشب، وربما رأيت جثة منتفخة (لكلب نافق) أو حمار (فطيس)، في حين يرسب في القاع الجوهر والدر الثمين، هنالك في الظلام بعيدًا، حيث السكون التام والبعد السحيق، ومن أراد الحصول على شيء من اللؤلؤ والكنوز الخبيئة، فلا بد له من أن يغوص ويغوص، محتملاً ضغط الماء، وظلمة القاع، ومخاطر البعد عن الأُنس.
وفي زمننا - المدهش - عدد من الرجال اللآلئ، الذين يتمتعون بخاصية الندرة والنفاسة وارتفاع القدر، وأشباههم من الذين لم تستغوهم الفلاشات، ولم تستهوهم الشاشات، أو تسحرهم وتتلعب بهم الإذاعات.
وهذه قضية تاريخية، ليست وليدة أيامنا، إنما هي بلية قديمة: فهذا أبو حيان التوحيدي يحرق كتبه التي أنفق عمره وعقله عليها؛ لأنه رأى أهل زمانه يتجاهلونه ولا يقدرونه..
عالم آخر - نسيت اسمه - يترك البلد ويهاجر، فيسأله تلاميذه الذين لم يفطنوا لحاله:
لماذا تتركنا وتنتقل عنا؟ فقال: لو وجدت كيلجة باقلاء لكفتني، ولما فارقتكم! نعم إنه النحوي البصري النضر بن شميل.
كأنها حتمية أو سنة مطردة: من شاء أن (يقِبّّ) على السطح فليس له بد من أن يغازل أعتاب الوجهاء، أو يبش في وجه (قبضايات) القرن - الصحفيين والإعلاميين، رضي الله عنهم ومد ظلهم العالي - لعله أن يحصل له شيء من الانطلاق والتلميع و(البروزة).
أما من رزقوا الشَّمم، وعلو الهمم، وتقدير النفس، فإنهم يبقون معرضين عن السفاسف، طالبين للمعالي، متفرجين على ما يدور من عجائب وتناقضات، راصدين - في توتر - للتحولات في الأفهام التي باتت تقبل ما لم يكن مقبولاً، وتستبيح ما ليس يستباح؛ بل ما لا يخطر ببال أحد أن يقترب منه.
ورحمة الله على القاضي الجرجاني الذي صرخ منذ وقت بعيد:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان.. ولطخوا محياه بالأطمـاع حتى تجهما
أأشقى به غرسا.. وأجنيه ذلة؟! إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ورحمة الله على البارودي فارس السيف والقلم الذي قال:
خُلقت عيوفا لا أرى لابن حرة عليّ يدا أُغضي لها حين يغضب
إذا أنا لم أعطِ المكارم حقها فلا عزني خال.. ولا عزني أب
ومن اللآلئ التي سكنت قاع المولد الإعلامي والدعوي الأستاذ العالم المتواضع - أحسبه والله حسيبه - أنور الجندي.. الذي خسرته أمة لا إله إلا الله، ولم يزاحم أحدًا في محاضرة، ولا موقف فخر، ولم يزعج وسائل الإعلام كي تتابع أخباره، وتتحدث عن عنترياته وبطولاته منذ كان في (اللفةّ).
رأيته مرة واحدة قبل عقدين من السنين، حين ذهبت إليه في بيته بالطالبية، في جيزة مصر، فلقيت رجلاً من النادرين، بسيطًا بساطة عاميّ خام، متواضعًا تواضع زاهدٍ، لينًا لين أب رحيم، واقعيًّا لدرجة تدعو للأسى والغضب.
رأيت ويا سوء ما رأيت، بيته المتهالك في قلب (سوق الخضار) إي والله، ومن الصباح الباكر تقضّ مضجعه نداءات الباعة - عبر مكبرات الصوت - على ما لديهم من (الورور) والجبنة القديمة، واللحمة العجالي، والأمشاط والفلايات، والمناخل، والغرابيل (ولا تين ولا عنب زيك يا برشرمي)، فإذا هدأت ضجة الميكروفونات قليلاً،لم تهدأ مشاجرات ومناقرات جاراته، وكلامهن المنتقى، ولم ينقطع ضجيج (العيال) العفاريت، الذين يتقاذفون الكرة (صدة ردة) في عز نقرة الحر، والمتبادلين لما لذَّ وطاب من الألفاظ التي يحلو للعامة أن يتقاذفوا بها في غير شحناء ولا خصومة.
دخلت حيث يسكن، ومعي فريق للتصوير التلفزيوني بعد أن أنهكنا البحث، فقد كنا نظن أنه من ساكني الفيلات الفاخرة، أو القصور (المحندقة) بتاعة السادة أولياء الله المسقفين، وأخذنا نسأل المكوجي والجزار والجار فإذا هم يقولون في استفهام: من أنور؟ لا نعرف أحدًا بهذا الاسم!
وحين اهتدينا إلى بيته المتهالك، لم نجد مكانا عرضه متر × متر، يصلح لأن نجلس به، بسبب قدم المكان، وكثرة الكتب التي زحفت إلى كراسي غرفة الاستقبال، وسألته:
- ما رأيك يا أستاذنا الكبير لو تحركنا إلى الفندق لنتمكن هنالك من التصوير، حيث المكان أوسع؟
- لا بأس.. كما تشاؤون.. تفضلوا وسألحق بكم.
وبشيء من الانفعال قلت: كيف ستدركنا يا أستاذ في هذا الزحام.. كيف ستقود سيارتك؟
- لا.. لا أملك سيارة.. سألحق بكم بالأتوبيس.
وكأنما لسعني بكرباج فهتفت: الله أكبر.. بالأتوبيس؟ أنت العالم الكبير (تتشعبط) ونحن نسبقك بسيارة خاصة؟
لا حول ولا قوة إلا بالله.. الرجل العظيم.. بعلمه وسنه، وضعف جسمه، ومؤلفاته التي تزيد على المائتين (يتشعبط) في الأتوبيسات، بينما (هلافيت) الثقافة وتجار الصنف يركبون الشبح والزلمكة، ويلعبون (بالأنارب) ويتنعمون في المنتجعات القريبة والبعيدة؟
يا لخيبة أمة تتجاهل علماءها وأهل الفضل فيها.
ركب الأستاذ الزاهد السيارة معنا، وفي الفندق تحدثنا عن قضايا المسلمين في هذه العصر، وعن العروبة، واليسار الإسلامي، والعقلانية، والتراث، وغيرها من الآفاق التي طوفنا فيها، وبعد أن أتعبنا الأستاذ وأزعجناه قدم مدير الإنتاج له ظرفًا به مبلغ من المال وهو يعتذر: "سامحنا يا أستاذ على التقصير، المبلغ لا يليق بكم؛ لكنه رمز لمحبتنا إياكم، فنرجو أن تقبلوه مكافأة رمزية فقط".
- مكافأة؟ أنا لا أعرف أن هناك مكافأة، ولم أقل شيئا يستحق أن أتقاضى عنه أجرًا.
- يا أستاذ: هذا مبلغ بسيط من التلفزيون، وليس منة من جيب أحد، وهو من حقك وليس تفضلاً.
- لن آخذ شيئًا؛ لأنني ظننت أن الحديث بلا مكافأة، ولن أغير نيتي مهما كان الأمر.
- يا أستاذ.. هذا حقك.. نرجوك.
- لن آخذ قرشًا واحدًا.. اسمحوا لي بالانصراف.
وأوصلناه ونحن في حياء منه، ومن تواضعه وورعه، ونحن - أيضًا - في خجل من أنفسنا، وحرصنا على الراحة و(النفخة الكدابة).
كان هذا منذ أكثر من عشرين سنة.. وأنور الجندي ليس مجهول المكان، فكتبه تخرج تترى، ومقالاته تملأ المجلات الإسلامية والحال هو الحال.
إنه الداء الوبيل في الإسلاميين، وواحسرتا عليهم!
لقد أذنب أنور الجندي ذنبا فظيعا لا يغتفر.. أنه عفيف، قارٌّ في بيته.. لا يطرق الأبواب، ولا يزاحم الأتراب، ولا يهمه أن يقال حضر أو غاب!
كما كان أكبر ذنوب أنور الجندي أنه مستقل في تفكيره، مستغرق في مشروعه، غير مهتم كثير بلافتة محددة، فاللافتات - في العمل الإسلامي - تطرد دائمًا من لا يصفق لها، وتعتبره مجذومًا أو مريضًا بالإيدز؛ لا يُقترب منه ولا يُتعامل معه، بل ربما أساءت إليه، وحقرت من شأنه، باسم مصلحة الدعوة؛ أو اختلافًا على فرعية من الفروعيات.
أزعم أن أنور الجندي لو علق (بادجًا) واضحًا على صدره لكان له شأن آخر، ولوجد من يدعوه في المناسبات، ويقدمه في الاحتفالات، ويثني عليه غائبا وحاضرًا.
وأزعم أن هناك (عيال) جهالاً، لا وزن لهم من علم أو سنّ أو دعوة، لكنهم منتمون.. فصاروا بذلك (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..
ناهيك عن أن يكون واحدًا من المستنيرين أو الذين كانوا - زمان - رفاقًا مناضلين، فهؤلاء تفتح لهم صالات كبار الشخصيات، وأبواب الجامعات، وتسود عنهم الصحف، وتكتب المجلدات عن عبقريتهم، وتميزهم، وإبداعهم، وتستر عوراتهم التي يعرونها دون خجل أو حياء، فكشف العورات إبداع أيضا عند (ولاد الحمرة).
من أخلاق أنور الجندي رحمه الله:
يروي العلامة القرضاوي: كان الأستاذ يكتب فيها مقالاً ثابتًا عنوانه: في ميزان الإسلام بمجلة (منار الإسلام) الظبيانية، وقد نشرت المجلة في أحد أعدادها إعلانًا تطلب منه أن يوافيهم بآخر عنوان له، حتى ترسل له مكافأته على الكتابة في المجلة. وتشكو المجلة من تراكم مستحقاته المالية عندهم.
كما حدثني أحد الإخوة العاملين في شركة (سفير) أنهم عندما كانوا يكتبون دائرة المعارف التي أصدرتها الدار، وقد كلف هذا الأخ بمتابعة الأستاذ أنور في إشرافه على بعض مواد الموسوعة، أن الأستاذ أنور رفض تقاضي أي قدر من المال.
وحدثني الأستاذ محمد علي دولة صاحب دار القلم بدمشق أنه في يوم من الأيام ذهب إليه الأستاذ أنور الجندي بكتاب جديد له لينشره، وقد عرض عليه الأستاذ أنور مالاً ليطبع به الكتاب! فقال له الأستاذ دولة: يا أستاذ: أنت المؤلف، والمفروض أن تأخذ أنت لا تدفع، ويبدو أن الأستاذ أرهق من سوء المعاملة المادية من بعض دور النشر، وهذا ما لم ينج منه مؤلف إلا القليل.
وحكت لي ابنته السيدة فايزة أنور الجندي، أنه كان يصحبها معه دومًا في محاضراته التي تحضرها النساء، ولما سئل عن ذلك من النساء؛ وذلك في العهد الناصري يقول مازحًا: إن ابنتي محرم لي بينكن! ا.هـ كلام القرضاوي!
وقال الأستاذ جمال سلطان: ..... عندما دخلنا إلى بيته شديد التواضع في ذلك الحي الشعبي، وهو بيت قديم متهالك، لا تحس فيه أية مسحة من الترف، حتى إن ابنته الوحيدة قالت لنا إن الأستاذ أنور لم يكن لديه حتى سخان للمياه، على كبر سنه وشدة برد الشتاء في مصر....... أعجب من ذلك ما حكته ابنته وبعض جيرانه عن أن الرجل كان يخرج لصلاة الفجر، وأحيانًا كان يجد خط الماء وقد تعطل وانقطعت المياه عن المنطقة، فيحمل معه أوعية للماء "جراكن" ويملؤها ثم يضعها أمام باب كل جار، ويقول لابنته عندما تعاتبه "إن الله سائلني عن هؤلاء"، .... كان الرجل فقيرًا لا عن عجز وإنما عن زهد وقناعة، حتى إنه كان يوزع الجوائز التي يحصل عليها من بعض أعماله على فقراء منطقته، رغم أنه منهم....
 
 
شخصيات شهيرة التقى بها
ويمكنك أن تعرف حجم الرجل من حجم مؤلفاته وعطائه، ومن حجم الشخصيات الكبيرة التي تعامل معها من شوامخ أهل الفكر والعطاء، وممن لقيهم الأستاذ الجندي الأساتذة والمشايخ والدكاترة: حسن البنا/ عباس محمود العقاد/ طه حسين/ عبد الرحمن الرافعي/ عبد الرحمن صدقي/ زكي مبارك/ مالك بن نبي/ محب الدين الخطيب/ محمد حسين هيكل/ ساطع الحصري/ سعيد العريان/ عبد الكريم جرمانوس/ عبد الله كنون/ عبد الوهاب عزام/ عزيز خانكي/ علي أدهم/ علي الغاياتي/ عمر فروخ/ أحمد الشرباصي/ أحمد حسن الزيات/ أحمد حسين/ أحمد زكي أبو شادي/ البشير الإبراهيمي/ الشيخ أبو العيون/ دراز/ محمد رفعت/ توفيق الحكيم/ أحمد الحوفي/ سيد إبراهيم / صلاح عبد الصبور/ عبد القادر القط/ عبد القادر المغربي/كامل كيلاني/ محمود تيمور/ محمود عزمي/ منصور فهمي.. وآخرين كثيرين أمثالهم!
من أقواله رحمه الله تعالى:
أنقل هذه الأقوال من بعض مقالات الأستاذ أنور، وبعض ما نقله عنه الأستاذ محمود خليل بعد وفاته في مقالة بعنوان: أنور الجندي: الزاهد الرباني الدؤوب:
ذكر الطبيب الذي كان يعالجه: أنه استقبل القبلة قبل مفارقة الدنيا، وصلى، وقال بصوت مسموع: إني فرح بلقاء الله، بأبي أنت وأمي يا سيدي يا رسول الله.
وجاءته جائزة كبيرة مرموقة، فأباها وقال: إنما أطلب جائزتي الكبرى من ربي.. لا أريد أن آتي يوم القيامة فيقال لي: لقد أخذت جائزتك من فلان.
وفي مرضه الأخير استأذنته إحدى الجامعات الاستشراقية الكبيرة في الغرب، أن تطلق اسمه على إحدى قاعاتها الكبرى، فرفض ذلك قائلاً: لقد حاولوا شراء هذا القلم من قبل فما استطاعوا، ولن أمكنهم اليوم من ذلك أبدًا.
ويقول: أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة، منذ رفع القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عاما للناس، حيث أعد لها الدفوع، وأقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى، وعهد على بيع النفس لله والجنة – سلعة الله الغالية – هي الثمن لهذا التكليف!
ويقول: قرأت بطاقات دار الكتب وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها وراجعت فهارس المجلات الكثيرة الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، وراجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاما، وراجعت المقطم واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عُرفت في بلادنا في خلال هذا القرن!
ويقول: ما زلت أفخر بأني كتبت في (أبولو) وأنا في هذه السن (17) عامًا، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ مثل البلاغ وكوكب الشرق والرسالة وغيرها من المجلات والصحف!
ويقول: على الأدباء والمثقفين عامة أن يدركوا أنهم على بر الأمان، ولا خوف عليكم، ما تمسكوا بالعربية "لغة القرآن" لغة أكثر من ألف مليون مسلم، وليس مائة مليون هم الغرب وحدهم؛ لأنه ما تزال قوي التخريب وفلول الاستعمار والأحقاد والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردة شديدة ، وهناك اتجاه تغريبي يرمي إلى هدم الفصحى وعزلها!
ويقول: قامت هذه المؤامرة (الحداثة) على أكتاف عصابة من أدعياء الأدب حاولوا تضمين الشعر الحر والقصص بتلك الأساطير الزائفة ونشرها وإعطاءها مكانة الأصل الغائب المهجور ، فمثلا فيما يسمونه إحياء التراث من خروج على الأسلوب العربي الأصيل، وهدم لقيم البلاغة العربية وأصولها، وتغليب لجانب الفلكلور الذي يمثل طفولة الثقافة البشرية على البيان العربي الأصيل، في محاولة لإعطاء الفن القصصي حرية غير محسوبة تحت اسم حرية الإبداع لتقديم إباحيات جديدة تحت صور قديمة من التاريخ.
ويقول: الخليل الفراهيدي أعطى الشعر وأعطي النحو وأعطى الموسيقي قانونا عجيبا ما يزال موضع كراهية وحقد من خصوم اللغة العربية الذين يدعون إلى ما يسمونه "كسر النص" فهم من أجل ذلك يحملون عليه ويسخرون منه، وهو سامق المكانة؛ لا تهزه هذه الكتابات المنحرفة، وليس هذا شأن الخليل بن أحمد وحده، ولكن سهام التغريب والغزو الثقافي لم تدع أديبًا صحيحًا، أو شخصية ممتازة في الفكر الإسلامي والأدب العربي إلا حاولت النيل منه ، فعلت ذلك في المتنبي والغزالي وابن تيمية ، في ذات الوقت الذي حاولت فيه أن تعلي من شأن الشعوبيين والمارقين أمثال بشار والحلاج وأبي نواس وابن الراوندي!
قالوا عن أنور الجندي
هذه نقول من بعض ما ورد في الموقع المسمى باسمه رحمه الله تعالى:
قال عنه الأستاذ جمال سلطان:.... مثل في مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين كتيبة فكرية كاملة العتاد والسلاح في وجه تيارات التغريب، وما زلت أذكر أن كتبه ورسائله التي أخرجها في ذلك الوقت كانت تمثل زادًا متجددًا يحمي عقولنا نحن أبناء ذلك الجيل من التيه وتزييف الوعي.
وكتب الدكتور يوسف القرضاوي فيه: .... يا سبحان الله، يموت مثل هذا الكاتب الكبير، المعروف بغزارة الإنتاج، وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم، والذي سخر قلمه لخدمة الإسلام وثقافته وحضارته، ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام، لا تكتب عنه صحيفة، ولا تتحدث عنه إذاعة، ولا يعرِّف به تلفاز. كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروة طائلة من الكتب والموسوعات، في مختلف آفاق الثقافة العربية والإسلامية. وقد كان عضوًا عاملاً بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، ومن أوائل الأعضاء في نقابة الصحفيين، وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960م. لو كان مطربًا أو ممثلاً، لامتلأت أنهار الصحف بالحديث عنه، والتنويه بشأنه، والثناء على منجزاته الفن.
وقال أيضًا: مسكين أنور الجندي؛ لقد ظلمته أمته ميتًا كما ظلمته حيًّا فلم يكن الرجل ممن يسعون للظهور وتسليط الأضواء عليه بل عاش راهبًا في صومعة العلم والثقافة يقرأ ويكتب ولا يبتغي من أحد جزاء ولا شكورًا، ولقد تتلمذت على كتبه وأنا صغير!
وقال الأستاذ عبد المنعم يونس: .... ولقد قيضه الله للأمة الإسلامية في هذه الفترة الزمنية التي حفلت بكثير من الأفكار الوافدة التي أرادت تشويه الإسلام.. ولقد طالبت بأن تقوم الجامعات وكل وسائل المعرفة بتبني كتابات الجندي وتقديمها كمادة علمية!
وقال الدكتور مصطفي الشكعة: حسبه أنه وقف بمفرده مدافعا عن العربية السليبة والشريعة الغراء والتي تربص بها الرويبضة والمنافقون، ولأن الجندي من معدن نفيس، معدن ورثة الأنبياء وحملة الهدى والحق والفضيلة إلي البشرية، وهو مثال واضح للعمل الدؤوب والتخطيط المنظم والتأصيل غير المسبوق وغزارة الإنتاج!
وكتب د. محمد يحيى: إنه نموذج فذ للمفكر الإسلامي الملتزم بعقيدته وقضايا أمته كما لوحظ اهتمامه بالقضايا الموسوعية والدأب والمثابرة وأنه كان يعمل وحده كما لو كان مؤسسة ضخمة ... هذا وإن هذه القوة في العمل المنفرد أعطته نوعا من الاستقلالية وعدم الخضوع لأي ضغوط ... ومن مميزات الجندي أنه اطلع على الفكر الغربي ولم ينبهر به بل نقده بقدم ثابتة .. ولقد التزم الجندي بثوابت الأمة ولم يخرج عنها!
وقال د. شوقي ضيف عنه: إن أنور الجندي لا يقل في كتاباته وما توصل إليه من نتائج باهرة عن العلماء والأفذاذ في تاريخنا فهو يماثل الجاحظ وابن تيمية وابن القيم في موسوعية المعرفة والجهاد الطويل لنصرة الإسلام وقضاياه المصيرية!
وقال د. حسين مجيب المصري: كان الجندي جامعة قائمة في رجل واحد، تخرج منها آلاف المثقفين! هذا وإن كان قد ظلم حينا فعسى أن يفيق العرب والمسلمون لمكانته فيعيدوا له ما أخذ منه من جديد!
وقال د. حسن حبشي: إن إنتاج أنور الجندي يمتاز بالتوثيق الدقيق والحس التاريخي والضلوع في فهم تاريخنا عبر حقبه الطويلة، وإجادته للربط بين أكثر من فن وعلم. كما أن دراساته تقع موقعًا متقدمًا في المكتبة العربية، ولاقت استحسانا لدى المتخصصين في الفكر والأدب والتاريخ والدين والحضارة! وأظن أن أنور الجندي صورة صادقة لنماذج أسهمت من قبل في إثراء حياتنا في تاريخنا الحديث، أمثال: مصطفى صادق الرافعي، والعقاد، ومحمود محمد شاكر "أبو فهر" وغيرهم!
وقال العلامة الندوي: إنه يقف بنثره القوي وقوف الشاعر القوي (إقبال) في وجه سوءات الحضارة الغربية بشعره الفريد! وإنه كثيرًا ما ينحت التعابير والجمل التي يراها أوفي بأغراضه الدفاعية وبهدفه الهجومي الذي كان يسدده نحو أوكار المؤامرات الغربية ضد الإسلام!
وقال الدكتور عبد الحليم عويس: إن أنور الجندي مثله مثل سيد قطب والغزالي وهيكل والعقاد، قد تحول تحولاً فكريًّا للدفاع عن الإسلام، عندما أبصر حقيقة هذا الدين (فسيد قطب) بدأ أديبًا ثم أصبح قائدًا من قيادات الحركة الإسلامية، والدكتور هيكل كان مجرد أديب وعندما أبصر الحق أمتعنا بمؤلفاته الإسلامية، والعقاد كان أديبًا أيضًا ثم عندما أبصر الحق أمتعنا بالإسلام عقيدة وفكرًا؛ وهكذا كان أنور الجندي فارسًا في مدرسة إسلامية كانت مهمتها أن تواجه الحملة الشرسة التي شنها المستغربون!
وقال د. محمد أبو الأنوار الأستاذ بكلية دار العلوم بالقاهرة في إهدائه أطروحته للدكتوراه: أستاذي العالم المفكر المجاهد الأستاذ أنور الجندي، هذا العمل وصاحبه مدينان لك دينا لا يشركك فيه غيرك .. إنني ما زلت أذكر اليوم الأول من لقائي بكم وقد احتواني من اللحظة الأولى قلبكم الكبير، وفكركم الذاخر، ولم ينقطع عني مددكم بالتوجيه تارة وبالعطاء أخرى ، وكم فزعت إليكم في كبريات المشاكل التي تتصل بعالم الدوريات وبقضايا الفكر ، فكنتم دائما خيرا مما أتمنى وأكبر مما أفهم وأحيط والآن حين أشرف بتقديم هذا العمل لكم أطمع له كما عودتني في الفوز بملاحظاتكم القيمة حتى يرى النور بعد ذلك الفضل الرفيع منكم تحية الحب والإجلال والإكبار والعرفان.
رحم الله العالم الجليل الأستاذ أنور الجندي وقبله عنده في الصالحين