العلامة الشيخ محمد أبو زهرة

تعود صلتي بالعلامة الشيخ محمد أبوزهرة منذ شَدَوْتُ العلم ، وتعرَّفت على بعض مؤلفاته وتلامذته ، وتوثقت صلتي به منذ أكثر من عشر سنوات ، بعد انتهائي من جمع فتاوى شيخنا الزرقا ، ومراجعتي الدائبة لمجلة "لواء الإسلام " فلا يكاد يخلو عدد منها من عدة مشاركات للشيخ ، في التفسير،والمقالة ، والفتاوى، والندوات، وقمت بجمع فتاويه وترتيبها ،وأتبعتها بجمع ندوات المجلة والعناية بها. وقد انتهيت من إعداد فتاويه للنشرمنذ مدة، وستصدر قريبا – بعون الله – في أربع مجلدات مع مقدمة تفضَّل بها الدكتور القرضاوي ، وتتلوها ندوات المجلة القرآنية والفقهية .

واستقصاء ترجمة الشيخ (أبو زهرة) تحتاج إلى كتابة موسَّعة، ستكون - بعون الله - في مقدمة الفتاوى مع بسط لمنهجه في الفتوى والفقه، وإبراز لمعالم الوسطية والتجديد .

وأكتفي الآن بهذه الكلمات في ترجمة الشيخ رحمه الله 

اسمه ومولده :

استقبلت مدينة المحلة الكبرى - التابعة لمحافظة الغربية بمصر- مولد محمد بن أحمد بن مصطفى المعروف بـ"أبو زهرة" الششتاوي ، نسبة إلى بلدة ششتا بمركز زفتي على الضفة الغربية لفرع دمياط في (6 من ذي القعدة 1315هـ الموافق 29 من مارس 1898م).

أسرته ونشأته :

نشأ في أسرة كريمة متمسكة بالدين محبة للعلم، فأرسلت صغيرها إلى أحد الكتاتيب التي كانت منتشرة في مدن مصر وقراها. 

وبعد أن أتمَّ الطفل النابه حفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة، التحق سنة 1913 بالجامع الأحمدي ( الأزهر الثاني ) بمدينة طنطا، الذي لم تكن مناهجه تختلف كثيرًا عما يدرس بالأزهر.، ومكث فيه ثلاثة أعوام ، وقد بدت عليه مظاهر النبوغ والتفوق ‘ حتى أن الشيخ الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأحمدي آنذاك،ثم شيخ الأزهر بعد ذلك ،قرّر له مكافأة لتفوقه وتميُّزه . 

وبعد ثلاث سنوات من الدراسة الجادة بالجامع الأحمدي، انتقل إلى مدرسة القضاء الشرعي سنة (1335هـ=1916م) بعد أن اجتاز اختبارًا دقيقًا للمتقدمين، كان هو أول الناجحين فيه، على الرغم من صِغر سنه، وقِصر المدة التي قضاها في الدرس والتحصيل. 

وهذه المدرسة أنشأها الأستاذ محمد عاطف بركات سنة (1325هـ=1907م) لتعدَّ خريجيها لتولِّي مناصب القضاء في المحاكم الشرعية، وكانت شامخة في مناهجها وأساليبها ومدرِّسيها وفي شخصيَّة ناظرها عاطف بركات ، وكان أكثر مدرسيها من تلاميذ محمد عبده . 

ومكث أبو زهرة في المدرسة تسع سنوات ( من عام 1916 حتى عام 1925) يواصل حياته الدراسية في جدٍّ واجتهاد، حتى تخرج سنة (1344هـ=1954م) حاصلاً على عالمية القضاء الشرعية.

وبعد أن انتهى الشيخ من مدرسة القضاء الشرعي التحق بمكتب محاماة للتدريب على تلك المهنة ، ومكث فيه عاما كاملا ، بعد ذلك قدَّم طلباً لدار العلوم لمعادلة شهادته من مدرسة القضاء الشرعي بشهادة دار العلوم ، ونال معادلتها بعد أن اجتاز الاختبار سنة (1346هـ =1927م)، فاجتمع له تخصُّصان قويان، وازداد تمكنًا من علوم الإسلام. 

شيوخه :

تلقى الشيخ أبو زهرة العلم على يد كثير من العلماء الكبار ، من أوائل خريجي دار العلوم ، وكان شديد الإعجاب بهم ، وعظيم الوفاء لهم ، ولنستمع إليه وهو يحدثنا عنهم في تقديمه لكتاب تلميذه مصطفى زيد " المصلحة في التشريع الإسلامي " ص6-11 : " لقد تسابق إلى خاطري شيوخي الذين تلقَّيت العلم عليهم ، أو تنّسمت نسيم العلم في جوهم ، وتغذَّت روحي بأفاويق المعرفة من فيضهم ..تدكرت أشياخي الذين تربوا في دار العلوم ، وتذكرت الرعيل الأول ممّن تخرجوا في ذلك المعهد الجليل .

تذكرت أستاذ الاساتذة عاطفا العبقري ( محمد عاطف بركات باشا 1924) الذي لم يفر فريه في التربية أحد ..تذكرت فيه ذلك العقل الحر المتطلع ، والروح المشرق ، والنفس الفياضة ، والقلب الكبير ، والهمة العالية ، والخلق القوي ، والمنزع العلمي .

وتذكّرت الأستاذ عبد الحكيم بن محمد ( ت 1342=1923) في سمته وتقاه ، وشخصيته القوية، ونفاذ عقله ، وقوة ذكائه .

وتذكرت الأستاذ الخضري (محمد الخضري 1927 )الذي كان ينساب العلم على لسانه في صوت كأنه الموسيقى ، وعلى قلم يضيئ النور للحقائق كأنه المصباح المجلو ... تذكرت فيه الفقه ، وتذكرت فبه المؤرِّخ الذي لم يسبق في عصره ، ولم يلحقه أحد من بعده . وتذكرت فيه الأديب الواسع الأفق الذي التقى في كتابته إشراق الديباجة مع دقة الفقيه وإحاطة المؤرخ ، فكان في عصره نسيج وحده .

وتذكرت الأستاذ المهدي ( محمد المهدي بك الألباني 1924 )، وإعجابه بالأدب العربي ، وحسن اختياره ، ولطف حسه، ودقة ذوقه ، وأسلوبه المسلسل كالنمير العذب ، وموازناته الأدبية المُصوِّرة للخطباء ، وهم يتدفقون على المنابر تدفق السيل في منحدر الوادي .. وللشعراء وهم يصفون خلجات النفوس ، وحركات القلوب ،في موسيقى تهز النفس ، وتوقظ الحس . 

وتذكرت بحر العلم الذي لا تكدره الدلاء، الأستاذ أحمد إبراهيم (ت1364=1945)..تذكرت فقهه الدقيق ، وتفكيره العميق ، وأفقه الواسع ، ودراساته الفقهية المقارنة المقربة للبعيد ، والمؤنسة للغريب ، التي تقتنص أوابد الفقه فتجعلها ذللا ، قريبة مألوفة ،بينة مكشوفة . ولقد كان رضي الله عنه أول من خرج بالفقه عن نطاق الفقهاء الأربعة ، فدرس مع مذاهبهم مذاهب الشيعة الإمامية ، والزيدية ، والإباضية ، والظاهرية ، فكشف بهذه الدراسة عن ينابيع الفقه في مختلف اتجاهاته ونواحيه ، فجزاه الله عن الفقه الإسلامي خيرا . 

وتذكرت المفسر العميق الأستاذ الشيخ حسن منصور (ت1350 =1932 )... تذكرته بسمته الجليل الرائع ، وتذكرت صوته العميق في درسه ، وعباراته الأنيقة ، وألفاظه المنتقاة ، وأسلوبه الكلامي ، وتذكرت إلقاءه الهادىء الرتيب .. وتذكرت خلقه الديني ، وأدبه المحمدي الذي يحاول به أن يكون القرآن له خلقا ، ولقد كان رضي الله عنه صورة للسلف الصالح في دينه وتقواه .

وتذكرت الأستاذ عبد الوهاب خير الدين ، الأديب الفقيه المفسر الذي كان يذوق الألفاظ والمعاني بذوقه البياني المرهف ، كما يذوق الطاعم المطعومات والمشروبات .. وتذكرت وقاره وقوة إيمانه . تذكرت حماسته وحرارته في درسه ، وصوته القوي المتهدج الذي يصل إلى أعماق النفس ..وتذكرت تلاوته المستمرة للقرآن كلما أحس بفراغ ، حتى إنه ليتخذ منه أنيسا مذكرا محدثا عن ااه عز وجل بحديثه وكلامه . 

وتذكرت الأستاذ محمد عفيفي (ت1355=1936) في عمق فهمه ، وإصابة نظره ، وحُسْن توجيهه ،وذكائه وألمعيته . رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم . انتهى . 

وبلإضافة إلى شيوخه هؤلاء ، نذكر شيخ الجامع الأحمدي، محمد الأحمدي الظواهري (ت1944)، والأستاذ أحمد أمين (ت1954)، وكان من شيوخه في مدرسة القضاء الشرعي .

في ميدان التعليم :

عقب تخرجه في مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم لم يتجه الشيخ إلى القضاء مثل غيره من زملائه، وإنما عمل في ميدان التعليم، فدرّس الشريعة والعربية بمدرسة تجهيزيّة دار العلوم ،واستمرَّ مدرسا فيها حتى عام 1930 ، ثم انتقل بعدها للعمل في المدارس الثانوية الحكومية حتى عام 1932،ثم اختير سنة (1352هـ=1933م) للعمل في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وكُلف بتدريس مادة الخطابة والجدل، فألقى محاضرات في أصول الخطابة. 

ثم انتقل أبو زهرة سنة 1934 من كلية أصول الدين إلى كلية الحقوق بجامعة القاهرة - التي كانت تدعى بجامعة فؤاد الأول - لتدريس مادة الخطابة، وكانت الكلية تعنى بهذه المادة عناية فائقة، وتُمرِّن طلابها على المرافعة البليغة والأداء اللغوي الدقيق، وهذا ما يفسِّر كثرة الخطباء المتمكنين من ناحية الخطابة من خريجي هذه المدرسة العريقة. 

وبعد فترة قصيرة عهدت إليه الكلية بتدريس مادة الشريعة الإسلامية، تقديرًا منها لعلمه، وزامل في هذا القسم عددًا من فحول الفقهاء من أمثال: أحمد إبراهيم، وفرج السنهوري، وأحمد أبو الفتح، وعبدالوهاب خلاف. 

وقد تدرج أبو زهرة في كلية الحقوق التي شهدت أخصب فتراته العلمية حتى ترأس قسم الشريعة الإسلامية، وشغل منصب الوكالة فيها لمدة خمس سنوات ، وأحيل إلى التقاعد سنة (1378هـ=1958م). وبعد تقاعده لم ينقطع الشيخ عن التدريس فكان يحاضر في كلية الحقوق لطلبة الدراسات العليا . واختير عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية سنة ( 1382=1962م)، وقام مع جماعة من العلماء بتأسيس معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، وكان يلقي محاضراته فيه دون أجر، وكان هذا المعهد قد أُنشِئ لمن فاته الدراسة في الكليات التي تُعنى بالدراسات الشرعية واللغوية. 

تلاميذه :

أشرف الشيخ أبو زهرة على عشرات رسائل " الماجستير والدكتوراه " ، وترأس لجان مناقشتها في الفقه والقانون والتفسير والحديث وعلم الكلام وسائر فروع الثقافة العربية الإسلامية في كليات الآداب والحقوق والشريعة وأصول الدين في جامعة القاهرة وعين شمس والأزهر والإسكندرية وغيرها ، وتلقى العلم على يديه عدد وفير من الطلاب لا يمكن استقصاؤهم ، من أشهرهم : الأستاذ سيد قطب ،والدكتور عبد العزيز عامر ، والدكتور مصطفى زيد ، والشيخ محمد الغزالي ، ومحمد الطيب النجار ، وأحمد السيد الكومي ، وزكريا بري ، وصلاح أبو إسماعيل ، وعلي عبد العظيم ،ويوسف بدري ، ومصطفى عبد الواحد ، وكمال أبو المجد ، والحمزة دعبس . 

ومن تلامذته السوريين : االعلامة الشيخ عبد الفتاح أبوغدة ، والدكتور محمد أديب صالح ، والدكتور عبد الرحمن صابوني، والدكتور وهبة الزحيلي ، والدكتور أحمد الحجي الكردي ،والدكتور عدنان زرزور . وقد كتب ترجمة له في ركن " رجل فقدناه " بمجلة " حضارة الإسلام " الدمشقية ، في العدد الثالث من السنة الخامسة عشرة (1394=1974).

رحلاته ونشاطه العلمي :

طوَّف الشيخ في العديد من البلاد الإسلامية والعربية ، وشارك في عدد من المؤتمرات الفقهية والدعوية ، فزار كلاًّ من سورية ولبنان والعراق والكويت والسعودية والإمارات وباكستان والسودان وليبيا والجزائر والمغرب . بالإضافة إلى مشاركته في المحاضرات العامة متطوعا في الجمعيات الرئيسية داخل مصر وخارجها.

صفاته :

اتصف الشيخ بصفات نادرة ، هيَّأته للإمامة في عصره ، وكانت سبباً لرفعة منزلته بين أقرانه وتلامذته . وأبرز هذه الصفات : الكرامة والعزة ، والجرأة في قول الحق والشجاعة في إعلانه مع عفة لسان ، وتواضع ،وسخاء وبذل، ووفاء لشيوخه وأقرانه وتلاميذه ، وصبر وجَلَد ومثابرة على العلم ،وذاكرة قوية وحافظة واعية لا يغيب عنه ما شاهده أوقرأه ،ودعابة جميلة ،وروح مرحة ، وتجمُّل في اللباس . ويطول بي الحديث عن هذه الصفات ، واسأقتصر على أبرزها :

الكرامة والعزة :

قال تلميذه الدكتور عدنان زرزور في مجلة " حضارة الإسلام " : أما عزة الرجل وكرامته وصلابته في الحق فلم أجد لها مثيلا فيمن عرفت من مشايخ مصر ، وفيمن رأيت من علمائها ... بل لعل مفتاح شخصيته الفذة يكمن في الكرامة أو الرفض ! رفض أن يبيع آخرته بدنياه... رفض أن يسبقه أحد أو يتقدَّم عليه...ورفض أن يُهزم في حوار أوجدال .. ورفض أن يقول للظالم : ياعادل ..بل رفض أن يسكت عن الظلم .. ورفض أن يأخذ على محاضراته الكثيرة أجرا من المال ... بل رفض الاعتذار عن إلقاء محاضرة وهو في غاية التعب والإرهاق ..ولم يكن يتخلف ، ولم يكن يجبن عن أن يقول الحق ...كرامة ليست فوقها كرامة ، وعزة ليس وراءها عزة .. ورفضٌ مطلق لإعطاء الدنية في أيِّ مجال من مجالات الأخذ والعطاء ..

فحولة في القول ، ورجولة في العمل ، وبطولة في المواقف ، وكرامة وسبق في جميع شؤون الحياة .انتهى . 

شجاعته في قول الحق :

اشتهر "أبو زهرة" بين علماء عصره باعتزازه بعلمه وحرصه على كرامته، وإقدامه على بيان ما يراه حقًا في وقت سكتت فيه الأصوات – كما يقول الأستاذ أحمد تمام - التماسًا للأمن والسلامة من بطش ما كانت بيده مقاليد الأمور في البلاد، ولم يكن يردعهم خُلق أو دين، فابتليت بهم البلاد، وانكفأ الناس حول أنفسهم خوفًا من هول ما يسمعون، ولكن الفقيه الجليل لم يكن من هؤلاء، فجهر بكلمة الحق حين وجب الجهر بها في زمن اشتد به الإرهاب الفكري والسياسي، وأعاد إلى الأذهان ذكرى "ابن تيمية" و"العز بن عبدالسلام" وغيرهما من أئمة الإسلام. 

ومما يروى أنه دُعي لحضور مؤتمر إسلامي مع جماعة من كبار علماء العالم الإسلامي في دولة عربية، وكان رئيسها من ذوي العسف والاستبداد، فحضر المؤتمر وافتتحه بكلمة أعلن فيها ما يسمَّى باشتراكية الإسلام، ودعا الحاضرين من العلماء إلى تأييد ما يقول، وبعد انتهاء الكلمة سادت قاعة الاحتفال صمت رهيب، ولم يجرؤ أحد من الجالسين على التعقيب على ما قاله هذا الزعيم، غير الشيخ أبي زهرة الذي قطع صوته الصمتَ الذي أطبق على القاعة، فلما اعتلى المنبر قال في شجاعة: "إننا نحن علماء الإسلام نعرف حكم الله في قضايا الدولة ومشكلات الناس، وقد جئنا هنا لنصدع بما نعرف، وأن على رؤساء الدول أن يعرفوا قدرهم ويتركوا الحديث في العلم إلى أهله، ثم اتجه إلى رئيس الدولة الداعية قائلاً: إنك تفضلت بدعوة العلماء لتسمع أقوالهم لا لتعلن رأيًا لا يجدونه صوابًا مهما هتف به رئيس،فلنتق الله في شرع الله. فبُهت رئيس الدولة وغادر القاعة. 

جهاده في ميدان الدعوة والفكر :

كان أبو زهرة من أعلى الأصوات التي نادت بتطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة، وتقرير أن القرآن أمر بالشورى، وأن اختيار الحاكم لابد أن يكون اختيارًا حرًا دون إكراه أو تزوير، فلا يتولى أحد السلطة إلا بعد أن يُختار بطريقة عادلة، وأن اختيار الحكام الصالحين هو السبيل الأمثل لوقاية الشريعة من عبث الحاكمين، وكل تهاون في ذلك هو تهاون في أصل من أصول الإسلام. 

وحارب أبو زهرة قضية الربا بكل ما يملك من علم وبصيرة، وكشف بأدلة علمية فساد نظرية الربا وعدم الحاجة إليها، وأن الإسلام حرّم الربا حماية للمسلمين ولمجتمعهم، وانتهى إلى أن الربا لا مصلحة فيه ولا ضرورة تدعو إليه. وحين رأى أن من لا علم لهم بالشريعة يكتبون في الصحف دون بصيرةٍ وفقهٍ تصدى لهم وفنّد ادعاءاتهم، وكان بعضهم قد ادّعى أن من الصحابة من كان يترك العمل بالنص إلى رأيه الخاص الذي وصل إليه اجتهاده فيه مادامت المصلحة تقتضي ذلك، ودللوا على ذلك بما فعله الخليفة "عمر بن الخطاب" حين أبطل العمل بحد السرقة في عام الرمادة... ولم يسكت الفقيه الجليل عن هذا اللغط، وقام بإجلاء الموقف، وبيّن أن المصلحة تعتمد على النص الشرعي وترجع إليه، وأن القول في الدين دون اعتماد على نص أو قاعدة كلية إنما هو قول بالهوى، وأبان أن "عمر بن الخطاب" وغيره من مجتهدي الصحابة لم يتركوا العمل بالنصِّ الشرعي أو عطَّلوه، وإنما فهموه فهمًا دقيقًا، وأبصروا عِلة الحكم فيه وداروا معها. وجميع هذه المواقف في الدفاع عن الإسلام وحمايته من أعدائه المتربصين به ، ستظهر جلية في فتاواه وندواته التي أتممتها وستكون وشيكة الصدور بعون الله .

مؤلفاته وإنتاجه العلمي :

شغف الأستاذ أبوزهرة بالدرس والتأليف ، وخلَّف للمكتبة العربية والإسلامية ثروة علمية كبيرة، في فروع الثقافة الإسلامية وبخاصة الفقه والقانون ، مثل: 

- - علم أصول الفقه .

- محاضرات في الوقف .

- العقوبة في الفقه الإسلامي .

- الجريمة في الفقه الإسلامي. 

- المِلكية ونظرية العقد .

وتناول أحكام الأسرة وما يتصل بها في عدد من الكتب ، مثل: 

- الأحوال الشخصية .

- أحكام التركات والمواريث .

- محاضرات في عقد الزواج وآثاره .

- تنظيم الأسرة في الإسلام .

- شرح قانون الوصية .

وتناول ثمانية من أئمة الإسلام وأعلامه الكبار بالترجمة المُفصَّلة التي تُظهر جهودهم في الفقه الإسلامي، وترسم حياتهم العلمية ، وتبرز أفكارهم واجتهاداتهم الفقهية، وتعرض لآثارهم العلمية التي كان لها دور في مسيرة الفقه الإسلامي، وقد نجح الشيخ "أبو زهرة" فيما كتبه عن هؤلاء لتبحُّره في الفقه وبصره بنظرياته، فمن يتعرض لحياة فقيه وجهوده وآثاره يجب أن يكون فقيهًا مُتمكنًا حتى يحسن تناول حياته وآثاره.

والأعلام الثمانية الذين أفرد لكل واحد منهم كتابًا مستقلاً هم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وزيد بن علي، وجعفر الصادق، وابن حزم، وابن تيمية. كما ترجم لمجموعة من الأعلام السابقين والعلماء المعاصرين بلغ عددهم أربعا وأربعين ترجمة ، وقد قمت بجمع هذه التراجم في كتاب سمَّيته :" أعلام وعلماء : قدماء ومعاصرون " وصدر بتقديمي وعنايتي في 376 صفحة عن دار الفتح بعمان سنة 1430 .

وإلى جانب الفقه وقضاياه، وعلم الكلام والأديان ،والاجتماع ونظام الإسلام ،كان لـه جهود كبيرة في علوم القرآن والتفسير والسيرة النبوية، فألف تفسيره الذي سُمِّي ب "زهرة التفاسير" ،وصدر عن دار الفكر بالقاهرة بعد أكثر من عشرين سنة من وفاته سنة 1425 في أجزاء متتابعة ، وكان الأولى تسميته ب "تفسير لواء الإسلام " لأنه كان يفسر القرآن في أعداد تلك المجلة خلفاً للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ، وانتهى إلى الآية 54 من سورة الأنعام ، ثم حيل بينه وبين نشر تفسيره على صفحات المجلة ،وتوجَّه لإتمام التفسير، وانتهى إلى تفسير الآية 73 من سورة النمل : {إنَّ ربَّك لذو فََضْل على الناس ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون } . وقد أودع في تفسيره هذا كثيرا من معارفه ، ونحا فيه نحْوَ محمد عبده ورشيد رضا ، مع رعاية اختلاف العصر ، واختلاف النظرة إلى نظام الإسلام والحضارة الغربية . وأصدر كتابًا جامعًا بعنوان "المعجزة الكبرى" تناول فيه قضايا كثيرة تتعلق بعلوم القرآن، يعدُّ مقدمة لتفسيره ، ووضع كتابًا في السيرة النبوية بعنوان "خاتم النبيين". 

هذا عدا عن مئات المقالات التي كان يمدُّ بها المجلات الإسلامية في مصر وخارج مصر ، والأبحاث التي كان يعدها للمؤتمرات والمجامع العلمية .

وقد شارك الشيخ في أكثر الندوات التي كانت تعقدها إدارة مجلة " لواء الإسلام" ،وكان صاحب القِدْح المُعلَّى في هذه الندوات . وقد قمتُ - كما تقدم - بجمع هذه الندوات وترتيبها وتحقيقها والتعليق عليها ، وسيكون صدورها قريبا بعون الله تعالى .. 

ويعدُّ الشيخ من المكثرين من التأليف ،وقد رُزقت مؤلفاته القبول فراجت بين الناس، وأقبلوا عليها، وحرصوا على اقتنائها، ولاتزال حتى الآن تلقى التقدير والإعجاب.

وفاة الشيخ :

ظل الشيخ محل تقدير الناس واحترامهم، وإن سعى من بيدهم الأمور إلى محاربته،وتقييد حريته ، وحرمانه من إلقاء الأحاديث العامة ، وإغلاق أبواب الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب أمامه ، لكن هذا لم يَحُل بينه وبين الجهر بالحق والتنديد بالباطل، وكشف عوراته، فظل واقفًا على الثغرة يدافع عن الدين، ويُظهر أحكامه، ويُجلِّي ما أُبهم عن الناس حتى سقط فجأة في منزله بالزيتون ، وأُغمي عليه قبل صلاة الجمعة واستمر في غيبوبته إلى ما بين المغرب والعشاء من يوم الجمعة 19 من ربيع الأول سنة ( 1394 هـ=1974م) ،وكان يحمل المصحف بيده مفتوحا على سورة النمل التي كان يفسرها قبل أن تفيض روحه إلى بارئها رحمه الله تعالى .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 8/4/2019