عبد الرّحمن رأفت الباشا مهندس الأدب الإسلامي

يمان عبد الرحمن الباشا

 

لقد أمضى الدكتور عبد الرحمن حياته العلمية والعملية منذ بدايتها مكافحا ومنافحا عن لغة القرآن.. داعيا إلى فن أدبي إسلامي لا يكتفي بجمال التعبير وإبداع التصوير؛ وإنما يشترط فيه أن يكون ممتعا هادفًا نافعا في وقت معا.. فن أدبي إسلامي يلتزم أمام إله متصف بصفات الكمال كلها، منزه عن صفات النقص جميعها.. ويكون بسماته هذه مغايرا للتيارات الأدبية الأخرى التي تلتزم أمام النفوس البشرية الأمارة بالسوء.
ولد الدكتور "عبدالرحمن رأفت الباشا" عام 1920م في بلدة "أريحا" شمال سورية، وتلقى دراسته الابتدائية فيها، ثم تخرج في المدرسة الخسروية بحلب؛ وهي أقدم مدرسة شرعية رسمية في سورية.. أما دراسته الجامعية فتلقاها في القاهرة؛ حيث نال الشّهادة العالية لكلية أصول الدّين في الأزهر، وشهادة اللّيسانس أيضًا في الأدب العربي من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، ثم درجتي الماجستير والدّكتوراه من هذه الجامعة التي أطلق عليها فيما بعد اسم جامعة القاهرة.
اشتغل ـ ـ رحمه الله ـ ـ مدرسا فمفتشا، ثم كبيرا لمفتشي اللّغة العربية في سورية، ثم مديرا لدار الكتب الظّاهرية المنبثقة عن المجمع العلمي العربي في دمشق، وأستاذًا محاضرا في كلية الآداب في جامعة دمشق.. ثم انتقل إلى السّعودية للتدريس في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية؛ وقد شغل منصب رئيس قسم البلاغة والنّقد ومنهج الأدب الإسلامي، وكان عضوا في المجلس العلمي في الجامعة منذ أن وُجِدَ، وعُهِدَ إليه بلجنة البحث والنّشر في الجامعة ذاتها.
ومع أنه ـ رحمه الله ـ لم يكن هو أول من دعا إلى إيجاد أدب إسلامي يلتزم الإسلام ومنهجاً سلوكاً، فقد سبقه إلى ذلك كثير من المفكرين، وهو ـ رحمه الله ـ يعترف بذلك ويقر بالفضل لأهله.. لكنه استطاع أن يجعل أماني أولئك العلماء حقيقة واقعة، فقد سعى ـ رحمه الله ـ لإيجاد عمل موسوعي يخدم الأدب الإسلامي ويكون له بمثابة الخلفية التاريخية، والقاعدة الصلبة التي ينهض عليها بناؤه؛ ليساعد الدارسين في معرفة هذا الأدب ودراسة خصائصه ورصد موضوعاته.. ومن هنا ظهرت فكرة موسوعة أدب الدعوة الإسلامية التي قامت بإصدارها كلية اللغة العربية بالرياض، وأشرف عليها بنفسه ـ رحمه الله ـ حيث كانت نتاج مادة البحث لطلبة السنة النهائية بكلية اللغة العربية، وصدر منها ستة أسفار هي:
ـ شعر الدعوة الإسلامية في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، إعداد عبدالله حامد الحامد. 1391هـ - 1971م.
ـ شعر الدعوة الإسلامية في العصر الأموي، إعداد عبدالعزيز محمد الزير، ومحمد بن عبد الله الأطرم. 1392هـ - 1972م.
ـ شعر الدعوة الإسلامية في العصر العباسي الأول، إعداد عبدالله عبدالرحمن الجعيثن. 1396هـ - 1976م.
ـ شعر الدعوة الإسلامية في العصر العباسي الثاني، إعداد عائض الردادي. 1392هـ - 1972م.
ـ شعر الدعوة الإسلامية في العصر العباسي الثالث، إعداد محمد بن علي الصامل، وعبدالله بن صالح العريني. 1401هـ - 1981م.
هذا في مجال الشعر، أما في مجال النثر، فقد صدرت القصص الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين في مجلدين اثنين كبيرين؛ أربى عدد صفحاتهما على الألف، إعداد أحمد بن حافظ الحكمي 1396هـ - 1976م.
وقد كان لصدور هذه الأسفار من الموسوعة أثر ملموس في تغيير بعض المسلمات الأدبية الخاطئة عن الشعر الإسلامي، ولا سيما في عصر النبوة والخلفاء الراشدين.. فلقد كتبت الدكتورة "عائشة عبد الرحمن" (بنت الشاطئ) مقالاً نشر بالأهرام في عدد يوم الجمعة الواقع في 11/7/1975م بعنوان: الإسلام والشعر والمستوى الفني لشعر الصحابة، وذلك بمناسبة الرسالة التي أعدها تحت إشرافها الأستاذ "محمد الراوندي" المحاضر بدار الحديث الحسنية بالرباط، بعنوان: الصحابة الشعراء، حيث نقلت فيها فقرا من مقدمة الجزء الأول من موسوعة أدب الدعوة الإسلامية في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وقررت أن الجهود الجدية قلبت المُسَـَّلمَات الأدبية السابقة قلبا؛ إذ كان الدّارسون، وهي منهم، يقيمون أحكامهم على حصر شعراء الدعوة بما لا يزيد على أصابع اليدين عددا.
كما عمل الدكتور الباشا ـ رحمه الله ـ على توسيع نطاق التعريف بهذا الأدب اليتيم ـ كما كان يُطْلِق عليه في بعض المناسبات ـ وذلك من خلال برنامج إذاعي سجلت حلقته الأولى إذاعة الرياض في 30/4/1395هـ، وقد أربى عدد حلقاته على (240) تحت اسم: مع أدب الدعوة الإسلامية.
وقد قام وحده ـ رحمه الله ـ برسم منهج إسلامي في الأدب والنّقد، وعمل على إرساء قواعده، وتبنت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية هذه الفكرة الرّائدة، وأوسعت لها في المحاضرات الجامعية.. حتى قيض لمادة منهج الأدب الإسلامي أن تقف على أرض صلبة قوية، وأنشئ على أثرها أول قسم خاص بها في العالم الإسلامي.. وقد عبر عن ذلك سماحة الشيخ "أبو الحسن الندوي" في التقديم الذي كتبه لكتاب "نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد" حيث قال: كان الدكتور عبد الرّحمن ممّن يتصف بالعمل والتطبيق، فلم يستجب لهذه الفكرة استجابة فكرية فحسب، بل سبق إلى تنفيذها وتجسيدها خلال تدريسه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وإشرافه على البحوث الأدبية، ثم تطورت آماله إلى تأسيس رابطة تُعْنى بهذا الموضوع، وعقد ندوات حول الموضوع، والتف حوله أساتذة وكتاب كان بينهم انسجام فكري، وتحولت هذه الفكرة إلى منظمة عالمية.
لقد مر إنشاء هذه المنظمة التي دعيت بـ (رابطة الأدب الإسلامي العالمية) بمراحل عديدة؛ كان أهمها ذلك الاجتماع الذي انعقد في منزل الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا ـ رحمه الله ـ في مدينة الرياض عام 1400هـ - 1980م والذي تم فيه تكوين هيئة تأسيسية لهذه الرابطة برئاسة سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي.. ثم كانت الندوة العالمية للأدب الإسلامي برئاسة سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي في "لكنو" في شهر جمادى الآخرة عام 1404هـ - 1981م، حيث دعي إلى هذه الندوة عدد كبير من رجالات العالم الإسلامي المهتمين بالأدب، واختير الدكتور الباشا نائبًا لرئيس الرابطة، ورئيسا لمكتب البلاد العربية.
كما شارك الدكتور الباشا في العديد من اللّجان والنّدوات، وناقش وأشرف على عدد من رسائل الماجستير والدّكتوراه.
تُوفي ـ رحمه الله ـ في يوم الجمعة 18/7/1986م في مدينة "اسطنبول" بتركيا، وسُجِّيَ جثمانه بمقبرة الفاتح هناك؛ حيث يرقد كثير من الصّحابة والتّابعين الذين أحبهم في حياته وجاورهم في مدفنه.. سائلين العلي القدير أن يصحبهم في جنات الخلد أيضا.