الشيخ علي الطنطاوي - علي الطنطاوي وذكريات عطرة

عندما أمسكت بالقلم لأكتب عن الأستاذ الطنطاوي، تتابعت الذكريات، وساعات اللقاءات التي امتدت عبر عقد الزمان.

وعن أي شيء أكتب... وكيف أبدأ الكتابة، فالطنطاوي تاريخ حافل، وديوان كامل، وموسوعة معارف متنوعة الجوانب، ومتعددة المواهب.

فهل أكتب عن تاريخ حياته: طفلاً نابغاً، وشاباً يافعاًًًًًً، ومعلِّماً ناجحاً، وصحافياً لامعاً، وداعيةً موفقاً، وقاضياً عادلاً، ومحامياً عن الإسلام منافحاً، ومتكلماً موهوباً، وكاتباً بليغاً، وشيخاً وقوراً، أقعدته السنون، وعركته تجارب الحياة.

أم أكتب عن الطنطاوي ( المربي ) .. وأستعرض آراءه التربويَّة، وكلماته وتوجيهاته، ولفتاته ونظراته، وتجاربه في تربية الأبناء، والاهتمام بالجيل، والعناية بالأسرة.

أم أكتب عن الطنطاوي ( المعلم ) .. فأبين مواقفه في تعليم الأجيال، وأذكر آراءه في المناهج الدراسية، وطرق التعليم، وأساليب التأليف...

أم أكتب عن الطنطاوي ( الداعية ) .. فأذكر منهجه في الدعوة إلى الله، وتجاربه ونصائحه، ومشاركته في حقل الدعوة الإسلامية بقلمه ولسانه، وأثره في الصحوة الإسلامية.

أم أكتب عن الطنطاوي( الفقيه ) عن فهمِهِ لمقاصدِ الشريعة، ومنهجه في الفتوى، وأثره في تقريب الفقه، وتيسيره لعموم الناس... ومعالجته للكثير من القضايا الجديدة، والمشكلات المعقدة بنظراته البعيدة، وأفقهِ الواسع.

أم أكتب عن الطنطاوي ( الأديب ) .. عن أسلوبه المتميز، وموهبته النادرة، وصولاته وجولاته في دفاعه عن العربية، ومعاركه الأدبية في الصحف والمجلات.

أم أكتب عن الطنطاوي ( المتحدث) اللبق، و(الإعلامي) الناجح... عن عفويته المحببة، ونفسيته القريبة، ولهجته الحبيبة، وبديهيته العجيبة، ومعلوماته المتنوعة، وموسوعيته المدهشة.

فعن أي جانب من هذه الجوانب أكتب، وماذا أدع؟.

هو البحر من أيِّ النواحي أتيته فلجَّته المعروف والجودُ ساحلُه

إن الكتابة عن أي جانب من هذه الجوانب، يستوعب الصفحات الكثيرة، وعندي مجالٌ للقول، ومتسع للكلام.

وتجمع في قارورة العطر روضة وتوضع في كأس الرحيق كروم

لقد صحبت الشيخ ولازمته خلال السنوات العشر الأخيرة من عمره، فكان يوم الأربعاء من كل أسبوع هو اليوم المخصَّص لي، وما قدم إلى جدة زائرٌ من أهل العلم والفضل ممن يعرف الشيخ إلا وسعى لزيارته، وتشرفت بصحبة الكثير منهم إلى مجلسه الحافل.

فقد كان الشيخ في السنوات الأخيرة من عمره المبارك، يحب الاجتماع بالناس، ويجد متعة وأنساً بمحادثتهم ولقائهم، ويحرص على طول مكثهم، وتكرر زيارتهم.. بعدما كان في أكثر عمره منطوياً على نفسه، يحب العزلة، ويؤثر الانفراد..

وخلال تلك الزيارات المتكررة استمعت لأطايب كلامه، وجنيت من وافر ثماره، وناضج آرائه، وسعدت بصحبة الكثير من الأعلام والعلماء في مجلسه، وأذكر منهم على سيبل المثال لا الحصر: أستاذنا العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والأستاذ اللغوي سعيد الأفغاني رحمهما الله تعالى، والسيد أبو الحسن الندوي، والشيخ مصطفى الزرقا، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور محمد رجب البيومي، والدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، والدكتور معروف الدواليبي، والدكتور إبراهيم سلقيني، والدكتور محمد أبو الفتح البيانوني، والشيخ محمد عوامة، والشيخ عبد الله التليدي، والدكتور عبد السلام هراس، والأستاذ هاني الطابع، والمحامي علي الرضا الحسيني، و... وغيرهم كثير ممن لا يغيب ذكرهم عني، فكانت مجالس علم وأدب، وحلم ووقار، وفكاهة محببة، تسمع فيها من عيون الشعر، وروائع الأدب، ولطائف العلم.

لقد كان بيت الشيخ في جدة مجمعاً علمياً، وندوة أدبية ممتدة خلال الأسبوع، في السنوات العشر الخيرة، فمن بعد صلاة العشاء إلى قرب منتصف الليل، ندوة متجددة، ومواهب متعددة، ووجوه جديدة من مختلف الاختصاصات وتنوع الاتجاهات.

يحضر مجلسه كبار العلماء والأدباء ممن أشرت لذكر بعضهم، ويحضره كذلك مجموعة من العلماء والأدباء الشباب، أذكر منهم: الأستاذ محمد السرار من المغرب... ونظام يعقوبي من البحرين... ومحمد بن ناصر العجمي ومحمد العوضي من الكويت، وحسن قاطرجي ورمزي دمشقية من بيروت، ورائد سنهوري الشاعر المبدع من جدة، ومحمد عبد الله الرشيد من الرياض، الذي كان صلة الوصل بين الشيخ ودمشق، ينقل إليه أخبار من بقي من علمائها، ويحدثه عن تاريخه الحافل، وذكرياته الجميلة، ويأتي في مقدمة هؤلاء: الأخ الكريم عبد الله زنجير، الذي كان من آثرهم لديه ، وأكثرهم براً ووفاءً، فكان للشيخ كالولد البار في رعايته وبره، وكان الشيخ له كالوالد في حنوه وعطفه..

ولم يقتصر مجلس الشيخ على طبقة العلماء الكبار والشباب منهم..بل غمر بواسع كرمه، وكريم عطائه.. العامة الذين أحبوه، وطعموا من " مائدة إفطاره" واقتبسوا من " نور هدايته"، واستفادوا من حلول " المسائل والمشكلات".. فكان يحضر مجلسه هؤلاء فيأنسون ويستفيدون، بل إن مجلسه العامر شمل حتى طبقة الصغار من الأبناء الذين كانوا يجلسون مع آبائهم بسكينة ووقار، فيتلقون درساً عملياً في الأدب والذوق، وتنطبع في مخيلتهم صورة الشيخ المهيب في تواضعه وسكينته، وتنالهم بركة دعواته الصالحة، وهم يقبلون يده الطاهرة، ويحيط هذا المجلس برعايتهم وحفاوتهم أصهارُ الشيخ وأحفاده، وفي مقدمتهم: الأستاذ زياد الطباع ـ سبط الشيخ علي الدقرـ والأستاذ نادر حتاحت ـ صاحب دار المنارة ـ وأحفاده، وفي مقدمتهم الإخوة الكرام: عمرو حتاحت، ومجاهد ، ومؤمن، ومعتصم، ومعتزديرانية، وطارق طباع، وغيرهم من أحفاد الشيخ وأقربائه، جزاهم الله كل خير على برِّهم ووفائهم.

وكنت في مجلسي معه، أستحضر له مشاهد من ذكرياته، وعبارات من روائع كلامه، وأستثير ما في ذاكرته الثرة الغنية من تاريخ شاهده، ورجال صحبهم، وأعلام تعرف عليهم.

وكنت أطلعه على ما يصدر من كتب جديدة، فيحرص على اقتنائها، ويوصي بشرائها، وتجد بجانبه مجموعات من الكتب والمجلات التي تهدى إليه، فتحيط الكتب به، وتتضاعف وتزداد حتى تأخذ سبيلها إلى مكتبته.

وعلى الرغم من إعراض الشيخ عن الكتابة، وضعف يده عن الإمساك بالقلم.. إلا أنه كان يقرأ ويطالع، ويناقش ويحاكم بعقليته الكبيرة، وذهنه الوقاد.

وكم كنا نعجب مما تستحضره تلك الذاكرة العجيبة من ذكريات ومشاهد، وعلوم ومعارف، فكان يسرد علينا من روائع الشعر والأدب والحكم ودقائق المسائل... ما نجد أنفسنا عاجزين عن مجاراته، أو الجري في ميدانه.

وكم كان الخلاف يدور حول مسألة من المسائل، وقضية من القضايا، يراعي فيها أدب الخلاف والحوار، فيجد الحاضرين الرأي السديد، والجواب المقنع عند الشيخ رحمه الله تعالى.

وإذا استشكلنا معنى كلمة أو غريب لفظ بادرنا بسؤاله، فنجد الجواب حاضراً على لسانه، وقد يردنا إلى بعض المراجع، ويعلمنا أن نتثبت من الحكم والمسألة، ويعوِّدنا على الرجوع إلى " القاموس" الذي كان على يمينه لا يفارق مجلسه.

وفي أواخر أيامه توقف الشيخ عن الفتوى وامتنع عنها، خوفاً وتورُّعاً، وكان يشير على من سأله بالرجوع إلى الأستاذ مصطفى الزرقا ـ أمتع الله بحياته ـ ويثني كثيراً على علمه وفقهه.. وربما رد السائل المستعجل إلى مكتبته لمعرفة الحكم الفقهي الذي يسأل عنه.

لقد كنت خلال هذه المجالس أحرص على انتقاء أطيب الكلام، وقراءة بعض النوادر ما أقف عليه في بطون الكتب والدوريات... وكنت أحضر له الكثير من مقالاته المنسية مما كتبه في بواكير شبابه في "الفتح"، و " الزهراء"، و " الرسالة"، و " الأزهر"، و " المسلمون"، و " حضارة الإسلام"، و " الوعي الإسلامي"، و" هدي الإسلام"، و " مجلة الحج"، و " رابطة العالم الإسلامي"، فيجد متعة في قراءتها، ويبدي سروره وإعجابه بوقوفي عليها، ويثني عليَّ بصفات أنا دونها.

وأستعرض معه أسماء الكثير من الأعلام الذين أحبهم وصحبهم، وأذكره بمواقفهم، وأحضر له الكثير من آثارهم.. فيجد ما يسليه في غربته، ويؤنسه في وحدته، ويعيده إلى ما مضى من سالف أيامه.

وأقرأ له بعض ما كتب عنه... من ثناء ومدح.. وإعجاب وإنصاف... قرأت له ما كتبه الدكتور محمد رجب البيومي في :" النهضة الإسلامية" وما كتبه الشاعر الأديب عبد الله بلخير في "ذكرياته"، وما كتبه الأستاذ عبد الغني العطري في:" عبقريات وأعلام" ... فكانت عيناه تدمعان فرحاً وسروراً... لأنه لم يضع جهده وجهاده، ولم ينس الناس أثره وأعماله.. ويدعو الله سبحانه أن يتقبل منه، ويتجاوز عنه، ويُحسن خاتمته.

لقد كان الشيخ يعيش هموم المسلمين، وقضايا الأمة، فما زرته يوماً لأخبره بما يقع للمسلمين من أحداث، وما يحل بهذه الأمة من نكبات، إلا وكان الشيخ على دراية تامة، ومعرفة دقيقة بها، على الرغم من ضعف الشيخوخة التي أقعدته في بيته خلال سنوات عمره الأخيرة إلا أنه كان يعيش مع المسلمين في آلامهم وآمالهم، وأفراحهم وأتراحهم، وعسرهم ويسرهم، فهو معهم ومنهم ولهم.

وكانت أكبر أمنياته قوله:" وأسأل الله سبحانه كما سترني في شبابي أن يسترني في شيخوختي، وكما أحسن إليَّ في دنياي أن يٌحسن إليَّ في آخرتي، وأن يختم لي بالحُسنى، وأن يتوفاني مسلماً، ويلحقني بالصالحين، وأن يريني قبل موتي ظفر المسلمين وعودتهم إلى دينهم عودة كاملة صحيحة سالمة من كل عيب".( مقدمات علي الطنطاوي، ص 18).

الشيخ الطنطاوي مدرسة علمية حافلة، أمدَّ الله في عمره حتى تجاوز التسعين فأصبح منفرداً بين الناس في علمه وعمره وطبقته، لم يبق من أقرانه الذين صحبهم وصحبوه، وعرفهم وعرفوه، وأحبهم وأحبوه، إلا الاثنين والثلاثة بعد أن كانوا عشرات... وهؤلاء بعيدون عنه .. يسأل عنهم، ويسمع أخبارهم... فكان يحس بالغربة، ولطالما أنش قول الطغرائي:

هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا من قبله فتمنَّى فسحة الأجل

ولم يكن الشيخ ممن يتمنى فسحة الأجل بعد أن فقد أعز أصحابه، ولكنه فضل الله عز وجل الذي أطال عمره ووفقه لحسن العمل.

وشعر في أواخر عمره بثقل الأيام، ووهن الشيخوخة، فكان يردد قول الشاعر:

أترجو أن تكون وأنت شيخ=كما قد كنت أيام الشباب

كـذبـتـك نفــسك ليـس ثوب=جديد كالدريس من الثياب

ولكن الروح التي كانت تتخلل ذلك الجسد، كانت روحاً وثابة، والنفس التي تسكن ذلك الجسم كانت نفساً متطلعة أبية، تتطلع إلى رضوان الله وجنته، وتتشوق لقائه ودار كرامته.

لقد حمل الشيخ الراية بعزم وصدق وإخلاص.. وترك بصماته في حياة الناس... ونافح عن الإسلام، ودافع عن حرماته أمام المفسدين، وقاوم الظلم والظالمين، وترك وراءه تراثاً ضخماً، وعلماً نافعاً، وأدباً ثراً... ولم يكن يريد من ذلك كله إلا الأجر والثواب والجزاء من الله سبحانه، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

يقول الشيخ رحمه الله تعالى:" وأنا أخطب وأكتب من أكثر من ستين سنة، فإن خلصت لله نيتي في العشر منه، بل في معشاره، فكتب في صحيفة حسناتي فقد أفلحت وأنجحت، وإن اقتصر حظي فيه غداً على حفلات تأبين تقام، وخطب تلقى، ومقالات تكتب، فيا ضَيْعة المَسْعَى، إن ذلك كله يبقى ـ هنا ـ وإنما أريد ما يصطحبني ـ هناك ـ والله مالي إلا رجاء عفو الله، وأني مؤمن لا أشرك بالله أحداً من الناس، ولا شيئاً من الأشياء، والأمل بدعاء الصالحين من المسلمين.

اللهم إن تسألني :{ ما غرك بربك الكريم} قلت: غرَّني أنك وصفت نفسك بالكريم، لقد غرني يا ربي كرمك، والكريم لا يرد من وقف ببابه نادماً مستغفراً راجياً".

فما أصدقها من كلمات، وما أخلصها من دعوات...

إن الشيخ الطنطاوي غني بآثاره ومآثره عن كتابة مقالات في تأبينه، وصياغة أشعار في رثائه، ولقد كان يؤثر الصمت، والبعد عن الأضواء في أواخر أيامه، بعد أن كان ملء السمع والأبصار، وكان يرجو ثواب الله ومغفرته، ودعوات الصالحين من عباده، وهذا كل ما يـرجـوه ويتـمناه:" والثواب هو وحده الذي يبقى على حين يفنى الإعجاب، وتذهب الأموال، ويعود إلى التراب ما خرج من التراب، ولدعوة واحدة لي بعد موتي من قارئ حاضر القلب مع الله، أجدى علي من مائة مقالة في رثائي، ومائة حفلة في تأبيني، لأن هذه الدعوة لي أنا، والمقالات والحفلات لكتابها وخطبائها، وليس لي فيها شيء، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وأسألك حسن الخاتمة، والوفاة على الإيمان".

اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه.

" اللهم أْجرنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيراً منها، ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده".

مجد مكي

جدة9/ربيع الأول/1420 هـ .