الشيخ أحمد بن محمد عساف الكردي

أولا) حياته الشخصية:

ولادته ونسبه ونشأته الأولى:

هو جدي لأبي، أحمد بن محمد عسَّاف الكردي، ولد في عام /1299/هـ، في قرية تلعرن من قرى محافظة حلب، وتبعد عنها من جهة الشرق حوالي /2./ كيلوا مترا، من أب وأم كرديين، وأهل القرية المذكورة كلهم من الأكراد الدِّنَّاديِّين، المنحدرين من بعض القبائل الكردية المقيمة على حدود تركيا الجنوبية، في منطقة سروج، وكان أبواه وجميع أفراد أسرته في القرية مشهورين باسم عائلة الحجي، ومعروفين بالصلاح والتقوى، والبعد عن السفاسف والدناءات والتعدي على الآخرين، على خلاف ما عليه بعض من أهل القرى في كثير من الأحوال، وكان والده محمد عسَّاف من المشهورين بالتواضع والزهد في الدنيا، والعزوف عنها، والاكتفاء منها بالقليل من العيش، وقد عمَّر –رحمه الله تعالى- ما يزيد على مائة عام وهو بتمام الصحة والعافية، ولم يسقط من أسنانه سن واحد، وكان حاد النظر ولم يحتج إلى نظارة، وكان من حفَّاظ كتاب الله تعالى، وكان مشغولا بتلاوة القرآن الكريم ليل نهار، في ذهابه وإيابه وسائر أحواله.

وقد كان للشيخ أحمد الكردي من أبويه أخ واحد هو عبد الله، وأربع أخوات، وكلهم تزوجوا وأنجبوا البنين والبنات، وكانوا معروفين جميعا بالتقوى والتزام الحق والصدق في المعاملات، وقد خلَّف أخوه عبد الله سبعة من الأبناء وأربعا من البنات، من ثلاث زوجات، أما هو فلم يتزوج سوى بزوجة واحدة هي جدتي عائشة كرزون -رحمها الله تعالى- ولم يخلف منها سوى ابن واحد هو والدي محمد المهدي، وبنت واحدة أكبر من والدي هي عمتي فاطمة وحيدة، ولم يعمِّر والدي محمد المهدي طويلا، وتوفي في الثانية والخمسين من العمر في عام 1967م، بعدما تزوج من والدتي أميره هدى، وأنجب منها سبعة أبناء -أنا أكبرهم سنا- وست بنات، أما عمتي فاطمة وحيدة فقد عمرت ثم توفيت بعد الثمانين من العمر في عام /1998/م وهي عزباء لم تتزوج. 

وقد قرأ الشيخ -رحمه الله تعالى- القرآن الكريم، وتعلم مبادئ الخط والحساب، عند شيخ القرية وكُتَّابها، وسرعان ما حفظ القرآن الكريم، وقطع شوطا مناسبا في تعلم الكتابة والحساب، في مدة وجيزة، مما لفت انتباه شيخ القرية فأشار على والده أن ينزل به إلى مدينة حلب -دار العلم والمعرفة إذ ذاك- ليتلقى فيها العلم، بدلا من اشتغاله مع والده وأفراد أسرته بالزراعة ورعي الغنم -كما هو حال عامة أهل قريته والقرى الأخرى- فاستجاب والده لهذه المشورة -رغم حاجته إليه لمساعدته في أعمال الزراعة- وهو ابنه الوحيد في ذلك الوقت، حيث إن ابنه الثاني ولد بعد بلوغ الأول سن الشباب، وقطعه شوطا مناسبا في طلب العلم، وذلك لما أنس منه شيخ القرية من الذكاء وحب العلم، فنزل به إلى مدينة حلب التي كانت تعج وقتئذ بالعلم والعلماء، وتحتضن العديد من المدارس العلمية، فنسَّبه إلى المدرسة الرضائية(العثمانية)، وهي من أفضل المدارس العلمية وأكبرها وأشهرها في حلب في ذلك الوقت، وتقع في حي الفرافرة قريبا من باب النصر. 

 صفاته الخَلْقية والخُلُقية ومزاياه:

لقد كان الشيخ أحمد الكردي -رحمه الله تعالى- طويل القامة، يقارب طوله/18./ سم، وكان مستقيم الظهر، حنطي اللون، كثَّ اللحية، وكانت لحيته متوسطة الطول، خفيف شعر الرأس، جهوري الصوت، قوي البنية، مفتول الساعدين، وكان نظيف الثياب، مبتعدا عن الإسراف في التجمل بها وانتقاء الثمين منها، مكتفيا بالمتوسط النظيف، خشية الخيلاء والمراءاة، وكان متواضعا في جلسته، سريعا في مشيته، وحاد البصر لا يحتاج إلى نظارة حتى آخر حياته رغم تقدم سنه، وكان صريحا في قول ما يعتقد أنه الصواب والحق، دون مماراة أو مداراة أو خوف من أحد مهما كان، وقد كلفه ذلك الكثير من المتاعب والخسائر في حياته، لا يعرف المخاتلة والمخادعة والتقيَّة، يكره الكذب وأهله، ويبغض الكذابين ولو كانوا من ذوي الهيئات والمناصب، ويواجههم بذلك وإن أضر ذلك به، طويل الأناة، حسن الخلق ما لم تنتهك حُرمة أو يُنتقص من قدر حكم شرعي، فإن حصل ذلك ثارت ثورته، واستُفزت حفيظته، وكم حصل أن ضرب بعصاه مستفتيا رفض قبول الحكم الشرعي أو تعالى فوقه، ولو كان من ذوي السلطة أو المكانة الرفيعة في المجتمع، كما كان -رحمه الله تعالى- سمحا في معاملته للناس بعامة والمستفتين بخاصة، وبخاصة إذا كانوا من الفقراء أو المستضعفين، سمحا في شرائه لحاجياته، فلا يُغرق في المفاصلة على السعر، وسمحا في اقتضاء ما له على غيره من الحقوق أو الديون، يكرم الضيف ويخدمه بنفسه، ويحنوا على الفقراء والمساكين والضعفاء من الناس ويساعدهم بكل جهده، ماليا ومعنويا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويدعوا إلى ذلك كل من يحبه ويثق به، كما كان يحب العلماء ويجلهم، ويحب طلاب العلم وبخاصة النابهين منهم، كما كان يحنو على الفقراء من طلاب العلم ويسعى جهده لتوفير حاجاتهم ومواردهم المالية ليفرغوا للعلم، وكثيرا ما سعى جهده لهؤلاء في توظيفهم في الإمامة أو الخطابة أو الأذان بحسب كفاءاتهم العلمية، لتوفير رواتب شهرية لهم يستطيعون معها متابعة طلب العلم الذي لا يرى في حياته عبادة أفضل منه بعد الإيمان بالله تعالى، وكثيرا ما خاصم بعض أعضاء مجلس الأوقاف الذي كان يرأسه من أجل تعيين إمام أو خطيب من هؤلاء إذا نازعوا فيه رغم تأهله له، وكذلك إذا نازعوا في زيادة راتب إمام أو خطيب لا يكفيه راتبه لحاجاته الأساسية، لأنه كان يرى أن رواتب أرباب الشعائر الدينية هي من أهم ما يُستحق من واردات الأوقاف الخيرية، وكان -رحمه الله تعالى- شديد الحرص على حفظ أموال الأوقاف واستثمارها أحسن استثمار، وحسن صيانتها وإدارتها، وكم كان يغضب إذا علم أن عقارا من عقارات الأوقاف أُجِّر بأقل من أجر مثله، أو أن عقارا استُبدل بغيره بدون شروط الاستبدال الشرعية، وأذكر على سبيل المثال أن مديرية أوقاف حلب قامت بهدم مبان وقفية قديمة في أحد الأحياء في حلب، وأشادت بدلا منها مبنى جديدا كبيرا ذا طوابق متعددة، يضم محلات تجارية ودور للسكن، وبعد انتهاء البناء قامت المديرية بعرضه للإيجار، وكان ذلك في عام /1952/ م ، فتقدم المواطنون يتنافسون في استئجار محلات منه على سبيل المزايدة، إلا أن مدير الأوقاف إذ ذاك حجب بعض المحلات عن المزايدة، وأزمع إيجارها لأحد طالبي الإيجار بأجر قليل جدا، متذرعا بأنه كان قد وعده بذلك، ومال أكثر أعضاء مجلس الأوقاف -الذي يرأسه الشيخ أحمد الكردي والمخول بالإيجار- إلى مسايرة مدير الأوقاف في وعده لهذا الرجل، وقاموا بمنع المتزايدين من المزايدة في هذه المحلات التي خصوه بها، فجاء بعض المواطنين إلى المجلس وعرضوا استئجار هذه المحلات بأكثر من ضعفي الإيجار المعروض من قبل ذلك الرجل المخصوص بها، فرفض مدير الأوقاف ومعه الكثير من أعضاء المجلس ذلك العرض، عند ذلك ثارت ثورة الشيخ أحمد الكردي رئيس المجلس فانتصب قائما وقال لمدير الأوقاف ومن وافقه من أعضاء المجلس: ما أنتم إلا جماعة لصوص تنهبون أموال الأوقاف لمصالح خاصة، وحرام عليَّ بعد اليوم أن أجالسكم أو أشارككم في هذا المجلس، ثم انسحب من المجلس ولم يدخله حتى توفاه الله تعالى.

وقد كان -رحمه الله تعالى- شديد الخوف من الله تعالى، ويحتاط في أمر الفتوى كثيرا، ولا يصدر فتوى إلا بعد دراسة متأنية وتفحص كامل لموضوع السؤال، ثم البحث الدقيق عن النصوص الفقهية المجيبة عنه، ولا يفتي في مسألة حتى يرى فيها نصا فقهيا صريحا في كتاب معتمد، وكانت فتاواه دائما وفق القول الراجح من مذهب الحنفية خاصة، لأنه كان المفتي الأول في حلب، وواجبه وفق الأنظمة المرعية أن يفتي بمذهب الحنفية فقط، لأن للشافعية مفتيا آخر في المدينة، فإذا سئل في يوم عن مسألة ثم سئل في يوم آخر عن مسألة مشابهة للأولى لم يفت في الثانية حتى يعود إلى النصوص مرة ثانية، ولو كان ذلك في اليوم الثاني، ولمَّا سألته عن ذلك أجابني بقوله: لعلي أكون أخطأت الفهم للنص في المرة الأولى، أو أن النص معارَض بقول آخر للحنفية، فأصححَ ما كنت قد أخطأتُ فيه، أو جافيت المذهب في فتياي الأولى.

كما كان -رحمه الله تعالى- يحب كثيرا أقاربه مهما بعدوا عنه في النسب أو الجوار، وكان يصل أرحامه، ولا يألو جهدا في تقديم العون لهم، وكثيرا ما كان يُضطر للاقتراض من صديق في سبيل دفع حاجتهم وتأمين مصلحتهم ورفع عوزهم، وعندما توفي والده وترك بعض الأراضي والعقارات والأغنام التي يصعب أن تعف عنها نفس عادية عف عنها، ولم يأخذ منها سوى قطعة أرض بسيطة فيها أشجار كرم كان قد غرسها بيده في أول شبابه، وترك الباقي لأخيه الوحيد وأخواته الذين كانوا يستوطنون القرية ولهم أولاد كثر يحتاجون إلى النفقة.

 مزاجه النفسي وطريقته في الحياة:

لقد كان -رحمه الله تعالى- يحب البساطة ويكره التعقيد في الأمور كلها، بسيطا في لباسه، فلا يحب الزهو والخيلاء، بسيطا في حديثه ومجلسه، يحب الصغار من الأطفال ويحنو عليهم ويضمهم إلى صدره ويبرُّهم، وأذكر أنه كثيرا ما ضمني إليه عندما كنت صغيرا، وأجلسني إلى جانبه وأطعمني بيده ولاطفني بالحديث وحمل إلي السرور والبهجة بكل ما أوتيه من قوة ووسع، وإلى جانب ذلك كله كان يحب النظام والترتيب والنظافة والمحافظة على الوعد، والصدق في القول، فقد كان يتناول طعام الفطور عقب صلاة الفجر من كل يوم، ثم يذهب إلى عمله، أما طعام الغداء فكثيرا ما كان يتناوله في مقر عمله، وبخاصة في السنوات الأخيرة التي قضاها أمينا للفتوى ثم مفتيا، حيث كان مقره في المدرسة الرضائية (العثمانية) التي نشأ فيها، فكان يتناول الغداء هناك، ولا يعود إلى منزله إلا بعد صلاة العصر، فإذا دخله لم يخرج منه إلا في اليوم التالي، اللهم إلا إلى بعض الندوات الخاصة التي كان يحضرها أحيانا مع لفيف من زملائه بعد صلاة العشاء في دار الشيخ وحيد حمزة رئيس محكمة الاستئناف في محلة قاضي عسكر -وهي إحدى مناطق حلب القديمة الواقعة في الجهة الشرقية من المدينة- وإذا حان وقت المغرب صلاه ووُضع العَشاء فنتعشى جميعا، فإذا كانت العِشاء صلاها وأوى إلى فراشه، وأخص بالذكر هنا أنه ما كان يحب أن يَأكل طعام العشاء إلا إذا اجتمع جميع أفراد الأسرة معه على المائدة، وكان يرى في ذلك اللذة الكاملة والراحة النفسية التامة.

كان -رحمه الله تعالى- يحب الأصدقاء ويساعدهم ويتودد إليهم ويحفظ لهم مآثرهم، كما كان يحب طلاب العلم ويعطف عليهم ويقربهم ويبحث معهم مشكلاتهم، ويسعى جهده لإفادتهم، وكان يقول دائما: إن لديَّ طلاباً نجباء حرصوا على الفائدة، وسيكون لهم الحظ الأوفر والمكانة المرموقة في حياتهم العلمية والعملية، وفي طليعتهم الشيخ محمد فوزي فيض الله، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد الوهاب سكر، وبالفعل فقد بلغ هؤلاء من العلم مبلغا عظيما، ونالوا في الدولة مكانة مرموقة، فقد نال الشيخ محمد فوزي فيض الله شهادة الدكتوراه في الفقه الإسلامي من الأزهر الشريف، وأصبح أستاذ الفقه والأصول في كلية الشريعة من جامعة دمشق، ثم رئيسا لهذا القسم بعد ذلك ووكيلا للكلية، وأصبح الشيخ عبد الفتاح أبو غدة مدرسا للتربية الإسلامية في ثانويات حلب وأحد أقطاب العلم فيها، ثم نائبا في مجلس النواب السوري ممثلا عن مدينة حلب، كما أصبح الشيخ عبد الوهاب سكر مدرسا دينيا في محافظة حلب وعضوا في مجلس النواب السوري ممثلا عن منطقة الباب، وذلك بعدما أنهى الشيخان الأخيران تحصيلهما العلمي في الأزهر الشريف.

 ثانيا) حياته العلمية:

بدء دراسته وطريقته فيها:

لقد غادر -رحمه الله تعالى- قرية تلعرن مسقط رأسه بعدما حفظ القرآن الكريم وأصول الكتابة والحساب لدى كتَّاب القرية وشيخها كما تقدم -إلى حلب الشهباء، وهو في الثامنة عشرة من عمره أو نحوها، فانتسب إلى المدرسة الرضائية(العثمانية) وهي إذ ذاك من أشهر مدارس حلب الشهباء العلمية، تعج بالعلم والعلماء، يُدرَّس فيها الفقه وأصول الفقه والتفسير والحديث، إلى جانب العلوم العربية وعلوم الآلات، على أيدي كبار العلماء، أمثال الشيخ بشير الغُزِّي، والشيخ حسين الكردي، والشيخ الكَّلاوي، وغيرهم ممن شاع صيتهم في الأقطار والأمصار في ذلك الوقت.

بدأ -رحمه الله تعالى- من حينه الدأب والدرس والاستفادة، وعرف ذلك منه أساتذته فانقطعوا له وتعرضوا لإفادته وانكبوا على تعليمه، فقد كان يمضي عليه اليوم كله يقضيه في المطالعة والاستماع للدروس، دونما نصب أو ملل أو تعب، وقد يسهر الليل كله فيطلع عليه الفجر وهو في دروسه ومطالعته واجتهاده.

حدثني والدي الشيخ محمد المهدي -رحمه الله تعالى- نجل المؤلف، فقال: حدثني الشيخ علي المرعشي من طلاب العلم، وكان مقيما بجوار المدرسة الرضائية(العثمانية) فقال: إنني أسكن في جوار المدرسة الرضائية، ومن عادتي أني أنزل كل يوم إلى المدرسة قبيل طلوع الفجر للتهيؤ لصلاة الفجر في مسجدها، وكنت كلما نزلت إليها وجدت غرفها مظلمة راكدة، وكل من فيها من الطلاب نائمين، إلا غرفة والدك الشيخ أحمد الكردي، فهي منارة بالمصباح، فإذا اقتربت منها -ولها نافذة تطل على الممر الذي أمر فيه- وجدته فيها مستيقظا يستذكر دروسه، وقليلا ما كنت أراه متكئا والكتاب على صدره وقد أخذته سنة من النوم، وكانت هذه عادتي طيلة حياتي آهـ. كلام المرعشي. وأشير هنا إلى أن نظام المدرسة الرضائية وكثير من مدارس حلب العلمية آنذاك يوجب على الطلاب البيتوتة في المدرسة كل يوم، وكانوا يتناولون في المدرسة وجبات ثلاث كل يوم على حساب واقف المدرسة، كما كان القائمون على المدرسة يوفرون للطلاب كافة الخدمات؛ من غسيل الثياب، والتطبيب، والكتب، والأقلام، والأوراق اللازمة للدراسة، وكل المتطلبات الشخصية الأخرى، إلى جانب منحهم راتبا مناسبا يكفي لسد جميع حاجاتهم، وكل ذلك على حساب الواقف عثمان باشا -رحمه الله تعالى- وقد استمر الأمر على ذلك حتى ألغيت الأوقاف الذرية في سوريا، وضبطت فيها الأوقاف الخيرية في عام /1949/ م في عهد الزعيم حسني الزعيم، ثم بدأت هذه الأمور تتغير، حتى انتهت تقريبا في الزمن الأخير.

لم يكن الشيخ أحمد الكردي -رحمه الله تعالى- ليقتصر على الدراسة في المدرسة الرضائية فحسب، بل كان يتنقل بين المدارس العلمية في حلب، كمدارس: الشعبانية، والقرناصية، والإسماعيلية، والأحمدية، والحلوية، وغيرها، فيتابع العلم ويستمع إلى العلماء ويناظر الطلاب والأقران، حرصا منه على الفائدة العلمية وتوخي الصواب، ولم ينقطع -رحمه الله تعالى- عن الدراسة والبحث في جميع مراحل حياته وحتى شيخوخته وقبيل موته، بل كان لا يفضل على العلم أي عمل آخر، ويعده من أهم العبادات، وعندما لا يظفر بمطلوبه ولا بالحل المرضي لمشكلته العلمية، تجده يقلق ويضطرب وكأنما فقد أعز شيء لديه، يحب العلم للعلم، ويبلغ به السرور منتهاه إذا ظفر بحل مرض لمشكلته، أو تفسير محكم لما عرض عليه من الفتوى، كما كان حريصا كل الحرص على الفائدة العلمية، ولا تأبى عليه نفسه أن يجد الفائدة عند أقل الناس، بل كان منهجه في الحياة: (خذ الحكمة أنَّى وجدتها، والمعرفة أنى عثرت عليها، ولو عند أقل الناس علما ومعرفة) وكان يحب الكتب العلمية ويقتنيها ويخصها بحظ وافر من دخله، ويفضلها ويقدمها على الطعام والشراب، ويقول: هذه غذاء الأرواح، وأفرح بالكتاب الجديد كما يفرح الولد الصغير باللعبة تقدم إليه، وكثيرا ما جد الطلب في سبيل الحصول عليها فكلفته أضعاف ثمنها إذا كانت نادرة، وطالما أوصى طلابه الدارسين في مصر وغيرها بشراء ما جدَّ طبعه من كتب هناك، وإرسالها إليه، مهما بلغ الثمن والكلفة، حدثني بذلك أكثر من واحد، منهم الدكتور محمد فوزي فيض الله، والأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، والأستاذ عبد الوهاب سكر، وكان -رحمه الله تعالى- حريصا على كتبه من أن ينالها التمزيق والتفكك، ويعيب كثيرا على من يعبث بكتبه أو يفككها أثناء الدراسة فيها، وكتبه كلها جديدة نظيفة، بل كان يكره القراءة في كتاب عبثت به الأيدي اللاعبة، فضلا عن شرائه واقتنائه، وكثيرا ما كان يبيع كتابا قيما بثمن بخس، أو يقدمه عطية إلى أحد طلاب العلم، إذا ما حدث أن مزقت منه ورقة، أو نقص منه صفحات أو مجلد، وأذكر أنه أَهدى نسخة نفيسة من حاشية ابن عابدين على الدر المختار لأحد الطلاب، لأنه وجد فيها تمزيقا في بعض الأوراق، مع أنها عزيزة المنال في حينه، وثمنها كبير، وكان رغم ذلك كله لا يبخل بإعارة كتاب لأحد زملائه أو طلابه إذا طلب ذلك منه، بل كثيرا ما ضاعت له كتب في هذا السبيل.

تخصصه:

لم يكن الشيخ أحمد الكردي -رحمه الله تعالى- ليقصر جهوده العلمية على اختصاصه الأصلي: أصول الفقه، والفقه، والنحو، والمنطق، بل كان يحب الاطلاع والتعمق في مختلف العلوم و الفنون، فقد دَرَس المنطق، والبلاغة، وعلم الكلام، والفلك، على عدد كبير من أساتذته المختصين في هذه الفنون، وتعمق فيها، ووقف على خباياها، أتتقن دقائقها، وعرف مراميها، واشتغل فيها كثيراً، مناظرة وتدريساً وبحثاً، وكان يقول دائماً: (أود أن لا أُتهم بالجهل في فن من الفنون الشائعة في عصري)، ولكنه مع ذلك كان يؤثر الفقه، و أصول الفقه، والنحو، والمنطق، ويضعها في المرتبة الأولى من اهتمامه، حتى إنه عُرف بها واحتل مكان الصدارة في تدريسها في معظم مدارس حلب الشهباء، فقد كان يُدَرِّس الفقه في المدرسة الإسماعيلية، والفقة والنحو في المدرسة الرضائية(العثمانية) التي كانت تُعد أعلى معهد شرعي في حلب، وأن طلابها هم طليعة علماء حلب، منهم على سبيل المثال : الشيخ عبد الله حماد، والشيخ ناجي أبو صالح، والشيخ عبد القادر الكوراني، ووالدي الشيخ محمد المهدي الكردي .. كما كان يدرس أصول الفقه، والفقه، والنحو، وعلم الكلام، في المدرسة الخسروية(الثانوية الشرعية اليوم) التي كانت ولا تزال تعد في طليعة المدارس الشرعية في حلب، و قد كان لها على حلب الشهباء اليد الطولى، فقد خرَّجت الفحول من الطلاب، ومكنتهم من احتلال المناصب المرموقة في الدولة، بما غرسته فيهم من علم غزير، وإخلاص وتقوى، منهم: الدكتور معروف الدواليبي رئيس قسم الحقوق الرومانية في جامعة دمشق ورئيس وزراء سوريا بعد ذلك، والأستاذ مصطفى الزرقاء رئيس قسم القانون المدني في جامعة دمشق ووزير العدل والأوقاف بعد ذلك، والدكتور محمد فوزي فيض الله مدرس الفقه و الأصول في كلية الشريعة في جامعة دمشق ثم وكيلا للكلية، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة مدرس التربية الإسلامية في ثانويات حلب وعضو مجلس النواب بعد ذلك، والشيخ عمر مكناس أمين فتوى حلب، والشيخ محمد بلنكو مفتي حلب، وغيرهم . وكان -رحمه الله تعالى- يعقد الحلقات الخاصة لطلابه ويلقي فيها مختلف العلوم والفنون، فيحضرها فحول الطلاب والمتقدمون منهم بغية الفائدة، وما كنت تراه في الدرس يأبى الإجابة على سؤال ما، بل يقبل كل استفسار ويفنده ويجيب عليه بإجابات مدعمة بالدليل ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

 طريقته في الدراسة والتدريس:

كان -رحمه الله تعالى- يحب القراءة ويهواها ويدأب عليها، فقد كان يجلس الساعات الطوال يواصل فيها القراءة والدراسة دون ما ملل أو سأم أو نصب، يفترض المشكلات الفقهية افتراضا ثم يبحث عن حلها ويطيل البحث والتنقيب في الكتب المختلفة المطولة منها والمختصرة، إلى أن يظفر بحل مرض لها، ودليل مقنع فيها، وقد يطول الزمن دون أن يظفر بطائل، ولكن ذلك لا يمنعه من الاستمرار في البحث، وقد يمتد البحث عنها أياما، تجده فيها قلقا، وكأنه افتقد شيئا ثمينا، إلا أنه لا يتعب ولا يمل، ويواصل البحث حتى يقف على حل لمسألته، وكان لا يرضى في فتاواه إلا بالقول الراجح في مذهب الحنفية، كما هو الواجب عليه بحسب وظيفته، إلا أنه -رحمه الله تعالى- لا يتعبد لله تعالى إلا على وفق القول الراجح عند الإمام أبي حنيفة، ولو كان هو المرجوح في المذهب الحنفي، وذلك لمزيد ثقته بحصافة الإمام أبي حنيفة ودقة استنباطاته.

وكان -رحمه الله تعالى- لا يلقي درسا من دروسه سواء كان ذلك في المدرسة الرضائية أو الإسماعيلية أو الخسروية أو غيرها إلا بعد أن يستعد للدرس استعدادا مناسبا له، فيحضِّر مادته بقراءة العديد من الكتب والمراجع، حتى لا يفوته فرع أو يسهو عن مسألة أو يقع في لبس في إسناد رأي إمام إلى غيره من الأئمة، مهما كان موضوع الدرس سهلا في نظره، فإذا حضَّر الدرس قام بقراءة النص موضوع الدرس على الطلاب، ثم قام بشرحه لهم على أوسع نطاق، مستجمعا كافة فروعه وتفاصيله وآراء العلماء في ذلك كله، فلا يترك شاردة ولا واردة لها تعلق بالموضوع من قريب أو بعيد إلا ويذكرها، وكان يوضح ما يعرضه من الأحكام بالأمثلة المتعددة يضربها للطلاب، لتنجلي الفكرة أمامهم وتتضح في أذهانهم، حتى إن أحدهم ما كان يحتاج بعد انتهاء الدرس إلى مراجعة أو تتبع لأي من الجزئيات، لاستيفاء الشيخ لذلك كله في الدرس، وكان في درسه يفسح المجال واسعا أمام الطلاب للاستفسار والسؤال عن أي جزئية في الموضوع، بل والاعتراض على ما قرره أيضا، بصدر واسع ونفس مطمئنة، ويستمع إلى ذلك بروية، ويفسح المجال أمام المعترض ليدلي بأدلته وحججه، برضا وتشجيع وإعجاب، ثم يناقش ذلك بالدليل والبرهان، وربما مال إلى ترجيح ما ذهب إليه المعترض إن وجد فيه وجاهة، وكان يتميز بارتفاع صوته ووضوح نبراته أثناء التقرير، ولو كان عدد الطلاب قليلا، وكنت تجده يجهد نفسه في التقرير، ويبذل كل جهده في الإفادة، حتى إنه ليتصبب عرقا من شدة حرصه واهتمامه بموضوع الدرس، وحذره من الخطأ أو التقصير، وكان -رحمه الله تعالى- إذا استغرق في بحثه انقطع عن من حوله، وصرف أذهان الطلاب عن كل ما يمكن أن يشغلهم عن الدرس، بما يستهويهم به من حسن العرض وشدة الحرص، فلا يصرفه أو يصرفهم عن الدرس أخيرا إلا شدة الجهد والتعب، ينصرفون وكلهم شوق إلى الدرس القادم، وقد يستمر درسه ساعتين أو أكثر من ذلك، فقد حدثني أحد طلابه وهو الشيخ عبد الوهاب سكر، فقال: عندما كنت طالبا في المدرسة الخسروية، طلبت أنا وبعض الطلاب الآخرين من الشيخ أحمد الكردي أن يقرأ لنا دروسا في أصول الفقه في رمضان، فوافق على ذلك، وحدد لذلك ما بعد صلاة التراويح من كل ليلة، فكنا نجلس للدرس بعد التراويح، ولا نتفرق في كثير من الليالي إلا على أصوات طلقات مدافع السحور، من شدة حرصنا على الفائدة وحسن عرض الموضوع من قبل الشيخ.

وكان -رحمه الله تعالى- يُدخل النكتة والمرح في درسه كلما وجد في طلابه تعبا، وكان يربط النكتة بموضوع الدرس، ثم يعود إلى درسه مباشرة، مما يجعل لدروسه نكهة خاصة مميزة، تدعو الكثير من الطلاب إلى حضور دروسه ولو لم يكونوا من طلابه المنتظمين في حلقاته.

أساتذته الذين أخذ عنهم:

لقد أخذ -رحمه الله تعالى- علومه عن عدد من مشايخ حلب الشهباء المشهورين بالعلم، وكان لهؤلاء العلماء الأثر الكبير في توجيهه وحسن تثقيقه، إلى أن اشتد عوده وقوي ساعده وأصبح بإمكانه السير منفردا في التحقيق والسبر والتنقيب عن المشكلات العلمية، ثم اتخذ لنفسه مكتبة قيمة جمعت من الكتب العلمية أمهاتها، ومن الفنون أشتاتها، وعكف على الدراسة والبحث والتحقيق والتمحيص واستنباط المسائل، مسترشدا بما غرسه فيه شيوخه من توجيه حكيم وتوعية وتبصر، فحفظ كثيرا من المتون العلمية في مختلف الفنون، وأذكر منها متن الألفية لابن مالك في النحو والصرف، حفظه في مدة قصيرة وكان يردده دائما يوم الأحد من كل أسبوع دون انقطاع، حتى في مرضه الأخير كان يردده في موعده، كما أنه كان يردد في أيام الأسبوع الأخرى متونا أخرى حفظها منظومة ومنثورة، في علوم: الفقه، وأصول الفقه، وعلوم الحديث، والمنطق، والتوحيد، وغير ذلك.

وأول شيوخه الذين أخذ عنهم وكان لهم الأثر الأكبر في تكوينه العلمي، العلامة الكبير الشيخ بشير الألجاتي الشهير ب(الغزِّي)، والعلامة الشيخ حسين الكردي، والشيخ الكلاوي، فقد كان يحترمهم كثيرا ويتأدب في مجلسهم ولا يتهاون في خدمتهم، وأذكر أنه كان مغرما بشرب الدخان بل من المكثرين منه في أول حياته، ولا يستطيع مجانبته أبدا، ومع ذلك ما شرب لفافة واحدة منه أمام أي من شيوخه مهما طال مجلسه معهم، تأدبا واحتراما لهم، كما كان دائما يذكرهم ويذكر مآثرهم بإجلال واحترام، عرفانا بجميلهم، وتقديرا لجهودهم التي بذلوها في سبيل إعداده وتعليمه، وبخاصة منهم الشيخ بشير الغزي الذي اجتمع له من العلوم ما يندر أن يجتمع لغيره، فقد كان يقول عنه: إنه حجة هذا العصر في كل علم وفن.

 أقرانه وطلابه:

لقد كان -رحمه الله تعالى- حلو الحديث، حسن المجالسة، متواضعا مع أقرانه وطلابه، يحبهم ويعطف عليهم، ويعود مريضهم، ويساعد محتاجهم بماله وجاهه، ويحرص على مصالحهم، وطالما بذل ما في وسعه في سبيل معاونة أحد طلابه في أمر أهمه، وربما كلفه ذلك ترك وظيفة يتقاضى منها راتبا قل أن يضحي غيره بأمثاله، فقد حدثني أحد طلابه وهو الشيخ أحمد مُعَوَّد، فقال: حدث شجار في المدرسة الخسروية وقت كنت طالبا فيها، فقررت الإدارة طردي من المدرسة بتهمة اشتراكي في ذلك الشجار، واعتدائي على أحد أولاد ذوي المكانة من الطلاب، مع أنني لم أشترك في الشجار أبدا، والإدارة على علم بذلك، ولكن طردي حصل بسبب التستر على المعتدي الحقيقي، لأنه من أولاد أحد ذوي الهيئات أيضا، فكان الحل أن أكون أنا كبش الفداء في حل هذه المشكلة، ولما علم الشيخ أحمد الكردي بذلك -وهو أحد المدرسين في المدرسة- طلب من الإدارة الرجوع عن قرارها الجائر هذا، بعد أن بين لها الواقع، ولكنها رفضت الرجوع إلى الحق، فاستقال الشيخ الكردي من جميع دروسه في المدرسة التي كان يتقاضى عنها مبالغ لا يستهان بها في ذلك الزمن، احتجاجا على هذا القرار الجائر الذي تسبب في حرمان طالب بريء من نعمة متابعة العلم .

وقد كان -رحمه الله تعالى- يحب المرح و السرور البريء المشروع، ويصحب طلابه أيام الربيع والصيف في رحلات إلى بساتين حلب الجميلة إذ ذاك، فإذا وصل إلى البستان انخرط بين طلابه كواحد منهم، يمازحهم و يداعبهم ويشاطرهم العمل في إعداد الطعام، رغم إلحاحهم عليه بالراحة، ويقول: لا خير فيَّ إذا شاركتكم في الأكل دون العمل .

لذلك كثر أصدقاؤه و محبوه والتفوا حوله، كما كثر تلاميذه وتعلقوا به تعلقاً كبيراً، وكثيراً ما كان يندرج بين طلابه من هو أعلى منهم في الصف و المرتبة، فيتركون دروسهم وأساتذتهم ليحضروا دروسه، حرصاً منهم على الفائدة الجمة والتدريس المحكم والدرس المبسط المسهب .

و كان ينظر إلى طلابه على أنهم أولاده الحقيقيون لا طلاب غرباء عنه، فيحنو عليهم، ويسعى جهده لإفادتهم وتقريب المعلومات إلى أذهانهم، كما كان يلتفت إلى جانب ذلك إلى الاهتمام بتربيتهم وتحليهم بالخلق الكريم ومحاسن العادات وأفضل الشيم، وهذه الصفات كلها يعرفها منه الأصدقاء والطلاب جميعا، ولا ينكرها أحد، ولا أعرف في حلب الشهباء اليوم من طلاب العلم فيها أو العلماء من لم يعرف الشيخ أحمد الكردي فزامله أو تتلمذ عليه.

ومن أقرانه وأصدقائه الذين كانوا على صلة وثيقة به، الشيخ محمد الحنيفي الشهير شارح جوهرة التوحيد، والشيخ على العالم(الكيَّالي) مدرس المدرسة الرضائية (العثمانية) وقاضي حلب في حينه، والشيخ وحيد حمزة قاضي محكمة الجنايات وعضو محكمة الاستئناف في حلب، والشيخ سعيد الإدلبي الفقيه المقرئ، والشيخ نجيب سراج الدين المفسر الواعظ، والشيخ حامد هلال، والشيخ إبراهيم الترمانيني، والشيخ عبد اللطيف خزندار، وغيرهم كثير.

كما أذكر من طلابه الذين كانوا يأخذون عنه ويحرصون على حضور دروسه، الشيخ محمد الناشد الذي كان يلقب بالزمخشري الصغير لفرط تبحره في علوم العربية، والشيخ علي الدادا قاضي حلب، والشيخ سعيد العرفي مفتي دير الزور، والدكتور معروف الدواليبي رئيس وزراء سوريا، والأستاذ مصطفى الزرقاء الأستاذ في كليتي الشريعة والحقوق في جامعة دمشق ووزير العدل والأوقاف في سوريا، والأستاذ صبحي الصباغ رئيس محكمة التمييز في سوريا، والأستاذ محمد الحكيم مفتي حلب بعد الشيخ أحمد الكردي، والشيخ محمد بلنكو مفتي حلب بعد الشيخ أحمد الكردي أيضا، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة عضو مجلس النواب السوري، والشيخ عمر مكناس أمين فتوى حلب، والشيخ عبد الله حماد المدرس في العديد من المدارس الشرعية في حلب، والشيخ عبد الوهاب سكر عضو مجلس النواب في سوريا، والشيخ أمين الله عيروض المدرس في المدرسة الخسروية، والشيخ محمد الملاح المدرس في المدرسة الخسروية، والشيخ عبد القادر الكرمان المحامي لدى المحاكم في حلب والمدرس في المدرسة الخسروية، والطبيب الدكتور عمر خياطة، والدكتور محمد فوزي فيض الله، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وغيرهم كثير يجل عن الحصر، وكلهم إلى اليوم يجله ويحترمه ويثني عليه ويدعو له بالمقام العالي، وقد أخبرني أكثر من واحد من طلابه بأن الشيخ أحمد الكردي يلقى طلابه دائما ببشاشة وفرحة، حتى إن الواحد منهم ليشعر أنه المحظي الأول عند الشيخ، مع أن كل طلابه عنده كذلك .

هذا إلى جانب نجله والدي الشيخ محمد المهدي الكردي الذي أخذ عنه علومه كلها، ولم تفته حلقة من حلقاته ودروسه أينما كانت حتى وفاته .

المناصب العلمية والوظائف التي تقلدها في حياته:

كان أول منصب شغله الشيخ أحمد الكردي في حياته بعد تقدمه في العلم -رحمه الله تعالى- أن عين كاتبا في المحكمة الشرعية في حلب، فأمضى فيها مدة أربع سنوات، انتقل بعدها للتدريس في دار المعلمين في حلب، فدرس فيها العلوم العربية لمدة سنة، رجع بعدها رئيسا لكتاب محكمة قاضي القضاة في حلب، بناء على طلب شيخه العلامة الشيخ بشير الغزي، الذي عُيِّن وقتها قاضي القضاة في دولة حلب، ولم يطل به الأمر كثيرا حتى شغر منصب أمانة الفتوى بحلب، فرشح له من قبل الكثير من العلماء والمسؤولين في الحكومة، وعرضوا الأمر عليه فرفض إعطاءهم الموافقة على ذلك قبل استشارة شيخه، ولما شاور الشيخ محمد بشير الغزي في ذلك رفض التخلي عنه أولا، ثم عاد للموافقة بعدما رأى من المصلحة، وعندها انتقل الشيخ أحمد الكردي إلى أمانة الفتوى، وكان ذلك في عام /1921/م، واستمر فيها إلى أن أحيل الشيخ عبد الحميد الكيالي مفتى حلب إلى التقاعد، وشغر المنصب بعد إحالته، وأجريت انتخابات رسمية بين علماء حلب لاختيار المفتي الجديد -حسب النظام المتبع في ذلك- كان فيها الناجح الأول بأكثرية ساحقة، فعين مفتيا لحلب وملحقاتها من المناطق والقرى، وكان ذلك في عام /195./م، وبقي في هذا المنصب حتى وفاته -رحمه الله تعالى- .

وعندما أسست المدرسة الخسروية في عام /134./هـ و/1922/ م على يد مدير أوقاف حلب يحي بيك الكيالي، عين الشيخ أحمد الكردي فيها مدرسا لمادتي الفقه الحنفي والتوحيد، بالإضافة إلى عمله في أمانة الفتوى، وبعد ست سنوات تقريبا استقال من التدريس في هذه المدرسة بسبب قضية الشيخ أحمد معوَّد المتقدمة، ثم مضت الأيام وكرت السنون وأعفي مدير المدرسة الخسروية من منصبه، وتوفي الشيخ حسن الأورفلي مدرس أصول الفقه في المدرسة، فعين الشيخ أحمد الكردي مكانه مدرسا لأصول الفقه في الصفوف المنتهية، بساعات ممتازة، واستمر في ذلك مع أمانة الفتوى إلى أن غُيرت برامج المدرسة، وأحل مكانها برامج مستحدثة، عندها رأي الشيخ أحمد الكردي أن ذلك مسخ للمدرسة وخروج بها عن خطها الأكاديمي الشرعي، فاعتزل التدريس عندئذ نهائيا في هذه المدرسة، رغم إصرار المسؤولين عن الإدارة الجديدة يومها على بقائه فيها.

وفي عام/1934/م عين الشيخ أحمد الكردي رئيسا لمجلس الأوقاف الإداري في حلب، إلى جانب عمله في الفتوى، فكان له فيه أطيب الأثر وأعطر الثناء عليه، لما أحدثه في الأوقاف من إصلاحات قيمة ومشروعات مفيدة.

وفي عام /1944/م توفي الشيخ علي العالم (الكيالي) مدرس الفقه الحنفي في المدرسة الرضائية(العثمانية) فعين الشيخ أحمد الكردي مكانه لتدريس الفقه الحنفي، ثم استمر في ذلك مع عمله في الفتوى حتى توفاه الله تعالى، وكان يحضر دروسه يوميا بعد صلاة الفجر إلى جانب الطلاب الرسميين في المدرسة الرضائية عدد من طلاب العلم في حلب، بل عدد من علماء حلب، بغية الاستفادة وتكميل التحصيل العلمي، وكان يقرأ في دروسه حاشية رد المحتار على الدر المختار على متن تنوير الأبصار لابن عابدين، وهي من أمهات كتب الفقه الحنفي، وكان -رحمه الله تعالى- في دروسه هذه لا يقتصر على ما في الكتاب فقط، بل تراه يتوسع في شرحه، فيأتي بجميع الأقوال والآراء في القضية المعروضة، ويذكر كل ما جاء في أمهات كتب الفقه في المسألة، ولا يترك شاردة ولا واردة إلا ويذكرها، مع الاستدلال والمناقشة والترجيح الموضوعي القائم على الأدلة الأصولية والمنطقية.

وفي عام/195./م عين مفتيا في حلب -كما تقدم- بعد ما تم اختياره لذلك من قبل عامة العلماء، واستمر فيه إلى أن توفاه الله تعالى، وكان بموجب منصبه هذا يرأس مجالس الأوقاف بحلب، ومجالس العمدة المشرفة على المدارس الشرعية في حلب، وعضوا في المجلس الإسلامي الأعلى المشرف على شؤون الأوقاف في سورياز

وفاته:

توفي -رحمه الله تعالى- بُعيد أذان المغرب من مساء يوم السبت الخامس عشر من ربيع الأول عام/1373/هـ الموافق للحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني(نوفمبر) عام /1953/م، في منزله في حي البياضة في حلب، بين أهله وذويه، وكان عند رأسه ساعة وفاته ابنه الشيخ محمد المهدي، وبنته فاطمة وحيدة، وزوجته عائشة كرزون، وزوجة ابنه -والدتي- أميره هدى، وجميع أحفاده وحفيداته وأنا على رأسهم، وطالبه الشيخ الطبيب الدكتور عمر خياطة، وما أن لفظ أنفاسه الأخيرة بهدوء وسكينة -حتى إننا لم ندرك أنه توفي إلا بعد أن أخبرنا الطبيب الدكتور عمر بذلك- حتى شاع النبأ في الحي والمدينة، وكان كل من يسمع من أهل حلب بالنبأ المحزن ينعيه لغيره، ووفد إلى داره المذكورة بعد أقل من ساعة من وفاته جموع غفيرة من الأهل والجيران والأصدقاء، يعزُّوننا بالحادث الجلل، ويدعون له بالرحمة.

وفي صبيحة اليوم التالي لوفاته شيع جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة(كرزداده) في حي قاضي عسكر في حلب، وهي أقرب المقابر إلى حيه، وصلى عليه في جامع (بانقوسا) أعداد كبيرة من أهالي حلب، على رأسهم العلماء والوجهاء، وأمَّهم في ذلك نجله الشيخ محمد المهدي الكردي، ثم ساروا خلف الجنازة حتى واروه التراب في المقبرة المذكورة، وقد أقسم طلابه على أن لا يحمل نعشه إلى المقبرة إلا من على رأسه عِمَّة، ووفَّوا بقسمهم، فكان طلاب العلم والعلماء يتدافعون في حمل نعشه، وقد شارك في تشييعه محافظ حلب، وقائد الشرطة، ومدير الأوقاف، وعدد كبير من القضاة، ومدراء الدوائر، وطلاب المدارس الشرعية، ووفود من سائر المحافظات السورية من العلماء والوجهاء، كل ذلك بالإضافة إلى جماعات لا حصر لها من أبناء مدينة حلب، وسائر مناطقها وقراها، إلى جانب جميع الأقارب وأبناء العم من أكراد حلب، وهم أعداد كبيرة جدا.

وقد ألقى على قبره بعد دفنه عدد من العلماء كلمات، أشادوا فيها بعلمه وفضله ومواقفه وأثره في النهضة العلمية في حلب، وكان ممن ألقى كلمة في هذه المناسبة الشيخ محمد الحكيم قاضي حلب، الذي أصبح بعد ذلك مفتيا فيها، والشيخ عمر مكناس أمين الفتوى، وقد ضمن كلمته قصيدة في الإشادة بالشيخ وفضائله، ثم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، فبكوا وأبكوا.

وقد تلقت أسرة الفقيد بعد دفنه العديد من برقيات ورسائل التعزية والرثاء من مختلف المحافظات السورية والدول العربية الشقيقة، وسوف أنشر بعضا منها في آخر هذه الترجمة.

وبذلك اليوم خبا نبراس علم، وغاب عن حلب الشهباء شمس طالما أضاءت لأهل حلب سبيل العلم والهداية، تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه فسيح جناته، وأغدق له المثوبة، وجزاه بما قدم من خير جنات عرضها السماوات والأرض، إنه سميع مجيب.

وقد نظم أحد طلابه وهو الشيخ عبد الغفور السرميني أبياتا من الشعر ضمنها تاريخ وفاته، وطلب كتابتها على شاهدة قبره، فكتبت وهي:

أيُّ خطب يا لأهوال السمـاء زلزل الأرض وراع الأتقياء

إنه المفتي إلى الله مضــى يحمل الإيمان زادا والثنـاء

أحمد الكردي هذا أرِّخـــوا قد قضى العلم وطاح العلماء

وأبياتا أخرى كتبت على جنبي القبر، وهي: 

حل ذا الحبر الشهيـر روضة القبر المنير

أحمد المفتي الــذي قد فاز بالخير الكثير

وارث المختار في ال أعمال والعلم الغزير

رب فامنحه الرضـا والعفو عنه يا مجير

 مقتطفات من القصيدة والكلمة اللتين ألقاهما الشيخ عمر مكناس أمين فتوى حلب 

على قبر الشيخ أحمد الكردي إثر دفنه فيه

سهام الموت في الأخيار عجلى وبالأشرار كم تمشي وئيـــدا

فلا تقرر إذا ابتسمت ليـــال ففي أسحارها تجد الرعـــودا

أيا غصنا من العلماء يــذوي ويا بدرا هوى فينا فريــــدا

ويا طود العلوم فدتك نفســي وهذا البحر قد سكن اللحــودا

فكم من موقف دافعت فيـــه عن الضعفاء لا تخشى وعيدا

ومنها :

قضيت العمر في علم ونفع وسهلت المصادر والورودا وقد كنت المعلم والمربـي وكنت البحر عرفان وجــودا

أأحمد هذه الأيام ذكــرى لفقدك فالأسى ملأ الوجــودا

ولكن سنة الجبار فينـــا نودع راحلا لنرى وليــــدا

حييت محببا من كل نفـس ومت معظما فيهــــا ودودا

تدثر في ثراك قرير عـين لقد أعطيتنا درسا مفيــــدا

 ثم قال:

بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الباقي على الدوام، الذي لا يحل به موت ولا يعتريه انعدام، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله وأصحابه ما كر الملوان وتعاقب الجديدان، وبعد :

لمثل هذا فليعمل العاملون، لكل أجل كتاب، كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الإجلال والإكرام ، في كتاب الله سلوة عن فقد كل حبيب وإن لم تطب النفس عنه، وإن عظمت اللوعة به، إذ يقول عز وجل: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) 88/ القصص، وحيث يقول: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) 157/ البقرة، والموت سبيل الماضين والغابرين والخلائق أجمعين، وفي أنبياء الله وسالف أوليائه أفضل العبر وأحسن الأسوة.

أيها الراحل العزيز على كل نفس، المقيم في سويداء كل قلب، أي كوكب هوى من سمائه، وأي طود دك من عليائه، أي غصن رطيب ذوى، وأي فاجعة حلت بالشهباء، إن الخطب جسيم والمصاب جلل ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أجل لقد مات العلاَّمة الكردي، وترك في العيون دمعة، وفي النفوس لوعة، لقد فجعت الشهباء بلفيف من علمائها كانوا كواكب مشرقات، وبدورا ساطعات، فجعت الشهباء بالعلامة سعيد الإدلبي، وبعده الأستاذ محمد الشماع، وها نحن اليوم نودع العلامة الشيخ أحمد الكردي خاتمة الفقهاء، وآخر الجهابذة العلماء، وهكذا نرى قوافل العلماء سائرة دون رجعة ولا تعويض، ولا ريب أن خسارة العلماء أفدح الخسائر اللواتي تنزل بالأمة، لأنهم ورثة الأنبياء والهداة والمصلحين.

لقد كان الفقيد الراحل جبلا أشم في العلم، لا تعرض مشكلة علمية إلا ويكون حلاَّلها، وكان مجموعة نادرة في العلوم الشرعية والعقلية على اختلاف أنواعها، وكان -رحمه الله تعالى- جريئا في الحق لا تأخذه لومة لائم، يقول الحق مهما ترتب عليه من نتائج، ولا يخشى في الله أحدا، وكان يحب الخير ويساعد الضعفاء ويعطف على طلاب العلم.

أيها الراحل الكريم، إن نفوسنا التي أحبتك، وأرواحنا التي ألفتك، لتمر باضطراب لبعدك، وألم عظيم لفقدك، وإن قلوبنا التي أحلتك في سويدائها لتشعر بعدك بفراغ كبير، لئن غبت عنا فأنت في القلوب مقيم، لا ينزع صورتك من القلوب كر الأعوام ومر الدهور، رحمك الله رحمة واسعة، وأغدق عليك من فيض غفرانه، وأسكنك فسيح جناته، وألهم آلك الصبر والسلوان، وعوض هذه الأمة المسكينة عنك خير عوض، إنه سميع مجيب، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

 رسالة الأستاذ الشيخ عمر مكناس التي كتبها في رثاء المؤلف:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن الدراسة هي التي تربطني بالأستاذ الشيخ أحمد الكردي، ولذلك فإنني سأتكلم من هذه الناحية فحسب.

كنا نسمع ونحن في أول طلب العلم الشرعي أن الأستاذ أحمد الكردي واسع الاطلاع، قوي الحجة، سهل التدريس، فكنا نتشوق للحضور عليه، حتى إذا تحققت لنا هذه الأمنية وحضرنا عليه الفقه(الفروع والأصول) وجدناه فوق ما كنا نسمع، والأذن تعشق قبل العين أحيانا، كنا نطالع بعض المواضيع قبل حضور الدرس، فيعرض لنا إشكال نقلب له سائر الاحتمالات(حسب فكرنا وفهمنا) فلا نكاد نجد له حلا، ونعتقد أنه من المعضلات، حتى إذا كان وقت الدرس في اليوم الثاني ومر الأستاذ بهذه المعضلة فصَّلها تفصيلا جميلا، فذهب الإشكال، وكأنها من أبسط القواعد، فنكاد نطير فرحا، ويرسل بعضنا لبعض(نحن الطلاب) إشارات الإكبار والإعظام لهذا الأستاذ الذي أزال من نفوسنا ذلك الإشكال، وهكذا كان -رحمه الله تعالى- حلالا للمشكلات، فلا تكاد تعرف مشكلة علمية إلا وحلَّها حلاَّ صحيحا، وضرب لها الأمثلة، وساق الأدلة، حتى يزيل كل غشاوة عنها، وكان -رحمه الله تعالى- مجموعة نادرة من العلوم والمعارف، نحن نعرف بعض الأساتذة كانوا مشهورين في علم من العلوم، وآخرين مبرزين في ناحية ثانية، أما العلاَّمة الكردي فكان مجليا في كل فن، مبرزا في كل علم، فإذا ذاكرته في الفقه حسبته أبا حنيفة، وإذا حادثته في العلوم العقلية وجدته جب