الشيخ عبد الغفار الدروبي

 العالم الرباني والداعية الزاهد

الشيخ / عبدالغفار بن عبدالفتاح الدروبي "رحمه الله"

1338هـ ~ 1330هـ

1920م ~ 2009م

  الحمدلله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد معلم الناس الخير وعلى آله وأصحابه أجمعين،، وبعـد : 

إن التربية لن تؤتي ثمارها إلا إذا اعتمدت على القدوة الصالحة التي تعلم الناس بلسان حالها قبل أن تعلمهم بمقالها لذلك وجهنا الله تعالى إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ...} لأنه صلى الله عليه وسلم كان { خلقه القرآن }، وكان لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له. 

أما وإن ميراث النبوة لم ينقطع بوفاته صلى الله عليه وسلم فخلفه العلماء العاملون الذين يدلون الناس على طريق الخير وينهونهم عن طريق الشر قال صلى الله عليه وسلم : { العلماء ورثة الأنبياء}. 

ولقد اقتضت سنة الله تعالى في هذه الحياة أن يحمل هذا الدين في كل عصر علماء عاملون ودعاة مخلصون يعيشون مع الناس بهمومهم وآلامهم وآمالهم يسلكون بهم الطريق القويم فيصححون مسيرتهم ويقومون اعوجاجهم. 

ومن هؤلاء العلماء الذين شرفني الله تعالى بمعرفتهم والاستفادة من سلوكهم وعلمهم العالم الرباني الزاهد العابد الداعية المخلص الشيخ / عبدالغفار بن الشيخ عبدالفتاح الدروبي "رحمه الله تعالى" وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به في الفردوس الأعلى تحت لواء سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، حيث إني كنت – منذ طفولتي – إذا نظرت إلى الشيخ أو استمعت إلى حديثه أشعر أنني أمام عالم رباني من بقية السلف الصالح أتمثل في سمته ونظراته، قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل : أي جلسائنا خير ؟ فقال : { من ذَكَّرَكم بالله رؤيته، وزاد في عِلْمِكم منطقهُ، وذَكَّرَكم بالآخرة عمله }. 

وكثيراً ما كنت أقصد مسجد جورة المشياخ "مسجد الدعوة " في حمص لاسارق النظر إلى الشيخ فأشعر بالراحة والطمأنينة ورحم الله ابن الجوزي إذ يقول في كتابه "صيد الخاطر" : ( كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته ). 

والشيخ عبدالغفار "رحمه الله" واحد من الثلة المباركة من العلماء العاملين التي حبا الله تعالى بها مدينة حمص في فترة ندر وجود أمثالهم مجتمعين في بقية المحافظات.

 فقد كانوا مضرب المثل في وحدة الكلمة والتجرد عن حب الذات، والحرص على مصلحة الأمة مع الصدق في الأقوال والأفعال يصدرون عن رأي واحد بعد المشاورات والمداولات سواء كان ذلك أمام الحاكم، أو أمام عامة الناس وخاصتهم. 

ولقد أكرمني الله تعالى أن عشت فترة من الزمن استظل بظلهم وأنهل من علومهم، وكثيراً ما كان والدي "رحمه الله" يصحبني معه في سفر أو نزهة، أو رحلة دعوية يكون فيها مجموعة من هؤلاء العلماء.. بالإضافة إلى أني عملت مشرفاً في المعهد العلمي الشرعي الكائن في جامع الصحابي خالد بن الوليد "رضي الله عنه" في حمص لعدة سنوات والذي كان يُدَّرس فيه ثلة من هذه النخبة المباركة، وأذكر من العلماء الذين كانوا في المعهد وشرفني الله بمعاصرتهم : 

والدي الشيخ / عبدالفتاح المسدي "رحمه الله" مدير المعهد، وشيخنا الشيخ/ وصفي المسدي حفظه الله وأمتعنا بحياته، وشيخنا الشيخ / عبدالغفار الدروبي "رحمه الله" المُتَحَّدثُ عنه في هذه الصفحات، وكذلك الشيخ / أحمد الكعكة، والشيخ / محمد جندل الرفاعي.. بالإضافة إلى العلماء الآخرين من خارج المعهد أمثال : 

الشيخ / طاهر الرئيس، والشيخ / أبو السعود عبدالسلام، والشيخ / محمود جنيد، والشيخ / محمد جنيد، والشيخ / عبدالعزيز عيون السود، والشيخ / طيب الأناسي "مفتي حمص"، رحمهم الله جميعاً، والشيخ / محمد علي مشعل "حفظه الله". 

ولقد كان يضم الجميع جمعية العلماء المباركة التي كان لها دور قيادي في مدينة حمص، فقد كان الناس في حمص يصدرون عن رأي علمائها، بالإضافة إلى أنه كان لهذه الجمعية ارتباط بكافة النخب من علماء سوريا. 

وقد كان شيخنا الشيخ / عبدالغفار أحد أقطاب هذه الجمعية وأعمدتها الذين يشار إليهم بالبنان عند المشاورة والمداولة. 

وحتى لا يتشعب بنا الحديث حيث إن كل واحد ممن ذكرت يحتاج إلى مؤلف خاص، فإني أود أن أسجل على هذه الصفحات أهم السمات التي تميَّز بها شيخنا "رحمه الله" وذلك لنستلهم الدروس من سيرته العطرة بعيداً عن كيل الثناء والمدح لأن ذلك لن ينفع الشيخ في شيء بقدر ما ينفعه ما قدَّمه من أعمال صالحة. 

اسأل الله تعالى أن يتقبله في الصالحين ويعلي منزلته.

 مولده ونشأته :

ولد الشيخ رحمه الله تعالى في حمص 1338هـ الموافق 1920م لأسرة كريمة عريقة في العلم والنسب فوالده الشيخ عبدالفتاح بن عبدالسلام الدروبي المتوفى 1388هـ - 1966م. العالم القارئ المقرئ والفقيه، والداعية، والرحالة في نشر الدعوة والعلوم الشرعية. 

وقد اعتنى الشيخ عبدالفتاح "رحمه الله" بابنه عبدالغفار عناية فائقة فدفع به إلى الكتَّاب ليتعلم أصول القراءة والكتابة على شيخ الكتاب، ثم ألحقه بالمدرسة الشرعية الوقفية لما صار عمره عشر سنوات، وهذه المدرسة تعتبر أول مدرسة شرعية أسست في حمص لدراسة العلوم الشرعية حيث تأسست 1347هـ الموافق 1927م على يد نخبة من كبار علماء البلد، ودرس الشيخ "رحمه الله" العلوم الشرعية على أساتذتها من العلماء الأكابر وأذكر منهم : 

الشيخ / محمد زاهد الأتاسي مدير المدرسة ت 1366هـ - 1947م "رحمه الله". والشيخ / أنيس كلاليب "رحمه الله". والشيخ / محمد علي عيون السود. ت... والد الشيخ / عبدالعزيز "رحمهما الله" وآخرون.. 

كما أنه حفظ القرآن الكريم على يد والده الشيخ / عبدالفتاح "رحمهما الله" وقرأ القرآن الكريم بالقراءات العشر على الشيخ / عبدالعزيز عيون السود المتوفى 1399هـ - 1979م وحصل على الإجازة بذلك.

كما كان تلقى دروساً خاصة بالفقه الحنفي على العلامة الشيخ / عبدالقادر الخوجه "رحمه الله" المتوفى 1372هـ-1953م. 

وقد أمضى الشيخ رحمه الله في المدرسة الوقفية أربع سنوات رغم أن الدراسة كانت فيها خمس سنوات، ثم أصبحت ست سنوات، ولم يكمل الدراسة فيها بناءً على طلب والده لظروف اضطرارية اضطرته لذلك ولكنه بقي متابعاً في طلب العلم في حلقات العلماء.. 

وبعد ذلك توجه للعمل المعيشي فاشتغل في صنعة النسيج "النول" لعدة سنوات، وقد أتمَّ خلال عمله حفظ القرآن الكريم. 

وفي نهاية 1938م ترك الشيخ العمل بالنسيج وتفرغ للتعلم والتعليم، فوضع العمامة البيضاء بتوجيه من والده ومشايخه، وكان لبس العمامة بالنسبة لطالب العلم الشرعي بمثابة إجازة وإذن من المشايخ لذلك الطالب لأن يمارس مهمة الإمامة والخطابة والدعوة إلى الله تعالى. 

وقد استلم الشيخ الإمامة والخطابة في عدد من المساجد في محافظة حمص وقراها إلى أن استقر به المطاف في النهاية في مسجد "جورة الشياح" وذلك في سنة 1960م. 

ومن هنا كانت الانطلاقة الدعوية المتميزة للشيخ رحمه الله تعالى واذكر فيما يلي أهم السمات التي تميز بها الشيخ رحمه الله. 

 أهم سمات الشيخ "رحمه الله" في الدعوة إلى الله والتربية : 

كان الشيخ "رحمه الله تعالى" مدرسة عملية في الدعوة إلى الله والتربية الإيمانية فمنهجه في ذلك قول الله تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ...}. 

فمسجد " جورة الشياح" اشتهر بمسجد " الدعوة " فقد كان أشبه بخلية نحل يعجُّ بالشباب المؤمن، وقد كان الشيخ رحمه الله شبه متفرغ للدعوة من أول النهار إلى آخره. 

ففي الصباح له درس بعد صلاة الفجر في مسجد الصحابي خالد بن الوليد "رضي الله عنه" إلى الضحى ثم بعد ذلك يقوم بالتدريس في المعهد العلمي الشرعي الكائن في نفس المسجد إلى الظهر. 

ثم يعود بعد ذلك إلى مسجده ليؤدي فيه صلاة الظهر، ولا يخلو ذلك الوقت من مُستَفتِين أو من طالبي تحكيم وإصلاح بينهم. 

ثم بعد صلاة العصر حلقات خاصة لتعليم القرآن الكريم حيث هو القارئ المقرئ الجامع للقراءات العشر، بالإضافة إلى دروس خاصة في الفقه والحديث وغير ذلك من العلوم الشرعية. 

ثم بعد المغرب يأتي الدرس الأساسي الذي كان مجمع الشباب من طلاب المتوسطة والثانوية والمرحلة الجامعية بشكل يومي عدا يوم الجمعة حيث كان درس الشيخ في منطقة الوعر في جامع الروضة. وكان كثير من الناس في يوم الجمعة يقصدون الوعر للتنزه بالإضافة إلى حضور درس الشيخ. 

أما بعد العشاء فغالباً ما كان للشيخ دروس خاصة في البيوت بالإضافة إلى حضور المناسبات التي يشاركه بها أحبابه وأقاربه.

   رحلاته الدعوية : 

 لقد كان للشيخ رحلات دعوية إلى قرى حمص وغيرها، يصطحب فيها بعضاً من طلابه، وكان الذهاب إلى القرية يتمُّ بأي وسيلة نقل متيسرة حتى إنه ربما ذهب راكباً على الدراجة العادية خلف أحد طلابه. 

لقد كان الشيخ في هذه الرحلات الدعوية ينَّمي في طلابه حبَّ الدعوة إلى الله تعالى، ويعلمهم فيها آداب السفر، وآداب الصحبة، وآداب الطعام والشراب، وقد كانوا ينزلون في مسجد القرية من غير أن يكلفوا أحداً بتحمل شيء من طعام وخلافه، أو يضيقوا عليه في مكان، ويمضون هذه الساعات أو الأيام بإلقاء المحاضرات والدروس ومجالس الذكر. 

ولم يكتفِ الشيخ بالدعوة في قرى حمص بل كان يذهب إلى شمال لبنان وخاصة منطقة الضنية داعياً، وموجهاً، ومربياً، مقتفياً في ذلك أثر والده الشيخ عبدالفتاح الدروبي"رحمه الله تعالى" الذي كان قصب السبق في ذلك. 

وقد لمست أثر بصماتهما – رحمهما الله – في تلك المنطقة، فقد حدثني بعض أهلها ممن عاصر رحلة الشيخين إلى قراهم عن البركات والفوائد التي تعود عليهم بقدوم الشيخين إليهم. 

لقد كان الشيخ "رحمه الله" بحق مدرسة عملية في الدعوة إلى الله تعالى، فقد كان يعيش مع طلابه همومهم، وآمالهم، وآلامهم، يتفقد أحوالهم ويقدم لهم ما يستطيع من عون ومشورة وتوجيه... فهو أب للجميع يعطيهم من علمه وخبرته وعاطفته وحنانه. 

ولما هاجر إلى السعودية لم تفتر حركته ونشاطه بل واصل مسيرته التربوية، ومما أذكره في هذا المجال أنه يوم قدمنا السعودية عام 1400هـ/1980م قدم الشيخ بعدنا بقليل فالتقينا به على مأدبة عشاء، وكانت الأحداث في سورية مازالت جديدة ومستمرة، فبعد أن صلينا العشاء، جلسنا نتحدث فيما بيننا بأمور كثيرة بعيداً عن الواقع الأليم، الذي هاجرنا من أجله. 

كلُّ هذا والشيخ مستغرق في صلاته، فلما انتهى التفت إلينا متحدثاً ناصحاً مذكِّراً لنا بأن لا ننسى محنتنا وأن نجدد الصلة بالله تعالى، وذكر لنا قصة مفيدة ومعبرة بهذا الخصوص وهذه القصة ذكرها ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى في سورة الأحقاف : { فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم، تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين}.{الأحقاف : 24-25}

 وانقل هذه القصة كما رواها ابن كثير في تفسيره : 

لما أصاب قوم عاد القحط والجدب بعثوا وفداً يقال له " قيل" فَمرَّ بمعاوية بن بكر فأقام عنده يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان، فلما مضى خرج إلى جبال مهرة، " أي الوفد " فقال : { اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسقِ عاداً ما كنت تسقيه، فمرت سحابتان سوداوتان، فنودي منهما اختر ؟ فأومأ إلى سحابة سوداء، فنودي منها رماداً رنداً " أي : كثيراً دقيقاً جداً " لا تبق من عاد أحداً .. } فما أُرسل عليهم من الريح إلا قَدرَ ما يجري في الخاتم حتى هلكوا، فصارت مَثَلاً، وكانوا إذا أرسلوا وفداً قالوا له : " لا تكن كوافد عاد ". 

رحم الله شيخنا على هذه الموعظة التي مضى عليها ما يقارب من ثلاثين سنة، وما زلتُ أذكرها، وقد فُتحت علينا الدنيا، فنسي الكثير منا دعوته، ونسي أحبته وعلماءه، وأقول شهادة ألقى الله تعالى بها بأن الشيخ "رحمه الله تعالى" لم تفتنه الدنيا، ولم تغيِّر من حاله فإذا نظرت إلى وجهه تشعر أنه يحمل هموم المسلمين وآلامهم ويتابع أخبارهم، ويتابع طلابه وأحبابه، وينصحهم ويوجههم، ففي يوم وفاته صلى الصبح إماماً بالمسجد وقنت بالمصلين ودعا لأهل غزة أن يفرج كربتهم، نعم هكذا ينبغي أن يكون أهل العلم. 

ثم تابع الشيخ مسيرته التربوية والدعوية في السعودية فعمل مدرساً للقرآن الكريم والقراءات في جامعة أم القرى في مكة المكرمة بالإضافة إلى خطبة الجمعة في أحد مساجد جدة، وكذلك دروس القرآن الكريم في بيته أو بيوت طلابه حيث قرأ عليه القرآن العشرات بل المئات من الطلاب والطالبات في مكة المكرمة، وجدة، فحصلوا على إجازات في القرآن الكريم، وحملوا الراية من بعده. 

وهذا من بركات العلم أن يخلف العالم من يرث علمه ويبلغه بعد وفاته وذلك حتى يبقى الأجر موصولاً، وفي الحديث الصحيح : { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له }. 

فطلابه من فضل الله تعالى كثيرون وهم في صحيفته وصحيفة مشايخه إن شاء الله تعالى، بالإضافة إلى أن الله تعالى أكرمه بذرية طيبة اسأل الله أن يجعل فيها الخير فابنه الشيخ / فيصل، وحفيده الشيخ / عبدالغفار ممن حملا القرآن عنه، وحصلا على الاجازات في القراءات منه، ومن علماء ومقرئين آخرين ربما كانوا أعلى سنداً من الشيخ ولعلَّ هذا من عاجل بشرى المؤمن إذ يقول الله تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين }.

  العابد الذاكر : 

رغم اهتمام الشيخ "رحمه الله تعالى " بأمور الدعوة والتربية والتعليم فإن هذا لم يحجب الشيخ عن أن تكون له ساعات يناجي بها ربه بكل أنواع الذكر من قراءة للقرآن الكريم وذكر وتسبيح وصلاة. 

لقد كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يزال لسانك رطباً بذكر الله } يتمثل به وبأمثاله. 

وكنت إذا نظرت إلى الشيخ تشعر أنه يعيش بروحه وأحاسيسه في عالم من الأنس بالله ومناجاته، ورحم الله الدكتور مصطفى السباعي إذ يتكلم عن هؤلاء المتلذذين بذكر الله ومناجاته فيقول : ( من أَنِستْ نفسُهُ بالله لم يجد لذة في الأُنس بغيره، ومن أشرق قلبه بالنور لم يَعُدْ فيه متسع للظلام، ومن سَمتْ روحه بالتقوى لم يرضَ إلا سكنى السماء ) هكذا علمتني الحياة. 

 حياة الشيخ مع القرآن الكريم : 

مازلت أذكر أني أول ما سمعت منه حديث الحال المرتحل للقرآن الكريم وذلك منذ أكثر من أربعين سنة ونص الحديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رجل : يارسول الله ! أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله ؟ قال : { الذي يغرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حلَّ او ارتحلَ }."رواه الترمذي والدارمي" 

وللشيخ مع القرآن الكريم وضع متميز فيه ذكرى لكل مؤمن يبحث عن النموذج الأمثل في حياته الواقعية، وأذكر من ذلك ما حدثني به حفيده الشيخ عبدالغفار "حفظه الله" : 

· كان وِردُ الشيخ اليومي قراءة ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم، أي إنه كان يختم في الشهر ثلاث مرات. 

· كان وِرده اليومي في رمضان عشرة أجزاء أي كان يختم كل ثلاثة أيام، أي في الشهر عشر ختمات، فقد كان في رمضان يتفرغ للعبادة ويوقف أكثر دروسه الخاصة. 

· ختم القرآن الكريم كاملاً في صلاة الفجر عشرين مرة، حيث كانت له ختمة يقرأها في صلاة الفجر أثناء إمامته في مسجد "جورة الشياح" فكان يقرأ في كل صلاة ربع حزب من القرآن الكريم.

· كان شديدَ المحافظة على الأذكار الواردة في عمل اليوم والليلة. 

· كان حريصاً على قيام الليل، فقد كان يستيقظ كل يوم قبل الفجر بساعة ونصف للصلاة ثم يذهب إلى صلاة الفجر في المسجد.

  الصفاء، والتجرد عن حبِّ الذات : 

لقد كان الشيخ "رحمه الله " حسب ما لمسته بنفسي، وحسب ما حدثني به أهله، وأقرب الناس إليه أنه كان لا يحمل في نفسه غِلاً ولا حقداً على أحد، وما سمعته يوماً تناول أحداً بغيبة أو نميمة.. فهو كما في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيٌّ الناس أفضل ؟ قال : { كل مخموم القلب صدوق اللسان } قالوا : صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب ؟ قال : { هو التقي النقي، لا إثم ولا بغي، ولا غل ولا حسد }. 

ولحساسية الشيخ المرهفة في الحرص على صفاء القلوب، حصل مرة أن ضرب أحد طلابه أثناء تدريسه في المعهد العلمي بحمص ضرباً خفيفاً، ومن عادته أنه لا يضرب، وكان الطالب من المقيمين في السكن الداخلي التابع للمعهد والذي كان تحت إشرافي، وفوجئت أن الشيخ "رحمه الله"، حضر إلى السكن الداخلي ليطلب السماح من الطالب، رغم أن الطالب كان مخطئاً وبالفعل سلَّم على الطالب وطلب منه السماح. 

إنها الأخلاق الرفيعة التي تركت أثراً طيباً عند كافة طلاب المعهد، وأضحت حديثهم.. { ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم }. 

 التواضع والعزوف عن الدنيا : 

لقد كان الشيخ رحمه الله تعالى مثالاً في التواضع، ونكران الذات، والزهد في الدنيا، فقد كان متواضعاً في لباسه، وفي أثاث بيته رغم أنه كان بإمكانه أن يفرش بيته بأحسن أثاث، ويُمتّع نفسه بزينة الدنيا.. وكم كان يتمنى كثير من طلابه أن يُقدِّم له ذلك، ولكن كانت نفسه تأبى عليه ذلك. كما كان في حديثه متواضعاً سهلاً لا يحب التكلف وتنميق الكلام. 

فكم من العلماء زلَّتْ أقدامهم بالعجب والغرور ..!! وذلك إما بالجماهير التي تصغي لدروسهم وخطبهم، أو بالفصاحة والبلاغة التي وهبهم الله إياها في حديثهم، أو بثناء الناس عليهم ومدحهم لهم حتى ظنوا أنهم من أوتاد الأرض بهم يدفع البلاء أو ما شابه ذلك. 

فالعالم الحق هو الذي يعتبر العلم الذي أكرمه الله به امتحاناً له، فيحرص على أن يكون عاملاً بعلمه، مخلصاً لله فيه، متواضعاً مخبتاً، غايته رضوان الله تعالى، وقد جاء في كتاب الحلية لأبي نعيم أن أبا قلابة الجرمي "عبدالله بن يزيد البصري" خاطب أحد تلامذته بقوله : { يا أيوب إذا أحدث الله لك علماً فأحدث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدث الناس به }، وهكذا كان الشيخ "رحمه الله" لا يحب المدح والثناء، فلا يرى لنفسه ميزة على أحد، أو منّة على أحد.

 وأما زهد الشيخ "رحمه الله" فقد كان من الأمور التي تشغله، فقد عزف عن زخرفة الدنيا وزينتها فما جاءه منها وكان حلالاً طيباً لم يمتنع عنه، واستعمله فيما يرضي الله تعالى، وما كان سوى ذلك لم تتطلع نفسه إليه ولم يقترب منه.. 

وقد كان أكثر ما يحدث به إخوانه وأحبابه هو الزهد والاستعداد ليوم المعاد، وكثيراً ما سمعته ينشد بصوته الهادئ الحنون. 

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان بالأمـس بانيها 

فمن بنـاها بخير طـاب مسكنه ومن بناها بشرٍّ خاب بانيها 

 الصابر الراضي بقضاء الله وقدره : 

كلُّ إنسان في هذه الدنيا تمر عليه أيام عصيبة من مرض، وخوف، وفقد لحبيب، وغير ذلك من أنواع الابتلاء، وهذه سنَّة الله في خلقه حيث قال تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف ...}. 

والبلاء واقع لا محالة ولكن كيف يستقبل المؤمن هذا البلاء، وهل يكون ممن عناه قوله تعالى بقوله : { وبشر الصابرين }. 

· ولقد كان شيخنا "رحمه الله" آية في الصبر والتسليم وما لمست منه يوماً من الأيام جزعاً أو ضجراً مهما كانت المصيبة كبيرة وأذكر وفاة ابنه العالم النابه الذكي/ عبدالوكيل "رحمه الله" سنة 1976م في ريعان شبابه وسنِّه لم يتجاوز 31 سنة حيث توفي في حادث سير مروع.. وقد أُخبر الشيخ بوفاته بعد وفاته بأكثر من شهر حيث كان الشيخ يومها في الحج، ولم يشأ أهله وأحبابه إشعاره بالخبر، حتى يتم فريضة الحج ويعود إلى بلده، وبالفعل التقاه العلماء وأهله يوم عودته من الحج وأخبروه الخبر فحمد واسترجع ولم يزد على ذلك. 

· وقد ذهبت معه مرة – ونحن في حمص – لحضور جنازة شاب في قرية شمال حمص اسمها "جُديْدََة" وهذا الشاب كان من طلاب المعهد الشرعي توفي بحادث سيارة، فقال لي الشيخ بعد أن انتهينا من الصلاة عليه والدفن، ونحن راجعون إلى حمص لقد دمعت عيناي اليوم أكثر من يوم إعلامي بوفاة ابني عبدالوكيل، تأكدت ساعتها أن الشيخ "رحمه الله" كان يعتبر طلابه جزءاً منه يتألم لآلامهم ويعيش همومهم. 

· يوم المحنة التي حصلت في سوريا فقد الشيخ اثنين من أولاده وعدداً من تلاميذه، لم يظهر منه كلمة ضجر أو سخط، بل كان الرضى والتسليم شعاره، رغم أن الشيخ لم يكن موافقاً على أكثر التصرفات التي تصرفها الشباب ولكنه كان لا يحب أن يثير هذه المواضيع إلا عند الحاجة للتنبيه على الأخطاء.

 · توفيت زوجته أم فيصل "رحمها الله" قبله بسنة ونصف تقريباً ويذكر حفيده / أيمن فارس أنها توفيت قبيل المغرب بقليل وكان الشيخ في المسجد فذهب إليه بعض أهله وأخبروه بوفاتها فحمد الله واسترجع، ولما طلبوا منه أن يذهب معهم إلى البيت استَمهَلهم وقال لهم : حتى نصلي المغرب فلا أحب أن أجمع إلى مصيبتي مصيبة أخرى.. ويقصد بذلك أنه لا يمكن أن يضيع صلاة المغرب مع الجماعة.

  حسن الخاتمة : 

لعلَّ من عاجل بشرى المؤمن أن تكون خاتمته حسنة مباركة، وأن يشهد له أحبابه وإخوانه الصالحون بالخيرية، وأذكر فيما يلي بعض البشائر التي تدل – بإذن الله تعالى – على حسن خاتمة شيخنا "رحمه الله" ولا أزكيه على الله، والله حسيبه. 

والهدف من ذكرها أن تكون أمامنا صورة عملية للقدوات لنتأسى بها ونحذو حذوها لعلَّ الله يكرمنا كما أكرمهم، وإلا فإن الشيخ ذهب إلى ربه ونسأل الله أن يجعله في عليين ولن ينفعه مدحنا وثناؤنا بقدر ما ينفعه ما قدم من الصالحات : 

· الشيخ خرج مهاجراً في سبيل الله تعالى من بلده والمهاجر شهيد بإذن الله قال تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ...}. 

· كان الشيخ محافظاً على قيام الليل وكما يذكر المقربون منه كان يستيقظ غالباً قبل الفجر بساعة ونصف على الأقل فيصلي ما كتب الله له. 

· كانت لا تخطئه صلاة الجماعة في المسجد إلا من عذر قاهر وخاصة صلاة الفجر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : {... ومن صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله }، وقد كان آخر صلاة صلاها صلاة الفجر مع الجماعة إماماً ولم تدركه صلاة بعدها. 

· كان الشيخ مواظباً على أذكار الصباح والمساء فهو في حفظ الله. 

· كان لا يدع قراءة سورة تبارك كل يوم بعد العشاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن سورة ثلاثين آية شفعت في صاحبها حتى غفر له : { تبارك الذي بيده الملك ... } }.رواه ابو داود والترمذي وقال : حديث حسن 

· كانت وفاته يوم الجمعة وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم من يموت يوم الجمعة بأن يحفظه من فتنة القبر.. وفي الحديث عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر }.رواه الترمذي

 حدثنا الأخ الكريم أ. حسام السباعي أنه كان في صحبة الشيخ ليلة وفاته ليلة الجمعة فقال له الشيخ : ( إنني أنتظر لقاء الله ... )، وقد نُقل عن والده الشيخ عبدالفتاح "رحمه الله" أنه كان يقول : أنا كالجندي جاهز للقاء الله في أي وقت.. 

وفي صباح الجمعة 19 محرم 1430هـ صلَّى الشيخ الصبح إماماً مكان حفيده د. عبدالغفار وقنت بالصلاة ودعا لأهل الغزة حيث كانت معركة غزة على أشدها، ثم ذهب إلى البيت. 

وعند الضحوة الكبرى قام الشيخ واغتسل، وصلَّى الضحى، وقرأ ما كتب الله له من القرآن الكريم، وقبيل دخول وقت الجمعة لبى منادي الله وفاضت روحه إلى بارئها وهو على طهارة حيث كان متهيئاً لصلاة الجمعة ولم تفته وقت صلاة في ذلك اليوم الذي قبض فيه، وكان يسأل الله تعالى أن لا تفوته صلاة.. كل هذه بإذن الله تعالى بشائر بحسن الخاتمة. 

وختاماً اسأل الله أن يرحم شيخنا الغالي وأن يعلي منزلته فيحشرنا – وإياه – في زمرة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا... 

كما اسأله أن يؤجرنا في مصيبتنا بفقده وأن يعوضنا خيراً منها، كما نسأله أن يبارك في عقبه وتلاميذه وأن يجعلهم خير خلف لخير سلف. إنك يا إلهنا سميع قريب مجيب.

 بقلم 

د.محمد ياسر المسدي

15/02/1431هـ