الإعلام عمن تولى إفتاء حلب من الأعلام(21)

المفتون في القرن الحادي عشر الهجري

61- ابن العلبي

- في العقد الخامس من القرن الحادي عشر الهجري.

مصطفى المعروف بابن العلبي، مفتي الحنفية بحلب، وأحد رؤسائها تفرد عن أهله الذين يعملون بالتجارة باتخاذ شعار العلماء، حتى نبغ وعلا شأنه.

سافر إلى القسطنطينية، وقصد صديقه شيخ الإسلام، يحيى بن زكريا ملتمساً منه منصباً سَنِيّاً في حلب، ولم تكن الفتوى تخطر له على بال، ولكن مشيئة الله قضت أن يموت المفتي أبو اليمن البتروني، ويصل التماسه بأن تكون الفتوى لابنه إبراهيم فوجد شيخ الإسلام منصب الإفتاء أسهل وأنفع منصب لصاحبه ابن العلبي، فسعى له به لدى الوزير الأعظم.

وهكذا عاد الشيخ مصطفى إلى حلب، وهو يحمل الفرمان السلطاني بتعيينه مفتياً لحلب، ثم زاره صديقه الشيخ يحيى بن زكريا شيخ الإسلام، فأضاف إليه قضاء مدينة إدلب، ولم ينل هذه المرتبة أحد المفتين قبله، مع ما كان مشهوراً عنه من الجهل، حيث كان يعتمد في فتاويه على كاتبه (أمين الفتوى) المعروف بابن ندى الذي كان ينظر في الفتاوى ويكتب عليها، ولم يكن للمفتي ابن العلبي سوى وضع توقيعه على الفتاوى.

وقد سجل له بعض معاصريه مواقف تدل على جهله استغلها، بعض الشعراء فهجوه بها. ([1]) من ذلك ما ذكره الشيخ راغب الطباخ من أن المفتي العلبي حضر يوماً الجامع فأحضرت جنازة فقدم للصلاة عليها إماماً، فكبّر خمساً فقال فيه السيد أحمد بن النقيب:

ومُذْ مصطفى صلى صلاة جنازة=وكبّر خمساً أعلن الناس لعنه

فقلت اعذروه إنه قلّد الندى=(ومن قبل في الفتوى لقد قلّد ابنه)

يشير إلى قول أبي تمام في قصيدته التي رثى بها إدريس بن بدر، ومطلعها:

دموع أجابت داعي الحزن هُمّع=توصل منا عن قلوب تقطع

إلى أن يقول:

ولم أنسَ سعي الجود خلف سريره=بأكسف بال يستقيم ويطلع

وتكبيره خمساً عليه معالناً=وإن كان تكبير المصلين أربع

وما كنت أدري يعلم الله قبلها=بأن الندى في أهله يتشيع

وقوله (ومن قبل في الفتوى لقد قلّد ابنه): إشارة إلى كاتب أسئلته أمين فتواه ابن الندى

توفي في العقد الخامس من القرن الحادي عشر الهجري ([19]).

62- أبو الوفا العرضي

993-1071 هـ

1585-1660م

أبو الوفا، ابن عمر بن عبد الوهاب العُرضي [20] الحلبي، مفتي الشافعية بحلب وابن مفتيها.

إمام عالم، محقق مدقّق، فقيه شافعي، انتهت إليه الرياسة في حلب، ومؤرّخ متتبّع، ومفسر مجيد، وعالم بالعربية، وشاعر جيد الشعر.

أحد أعيان العلماء في المعرفة والإتقان والحفظ والضبط، متواضع، حسن السمت، لطيفُ تأدية الكلام، واعظ يدخل قلوب مستمعيه بحسن أسلوبه وسرعة دخوله إلى قلوب الناس.

ولد بحلب، وأخذ العلوم العقلية والنقلية عن والده، ولزم العلامة أبا الجود البتروني، وأحمد بن المنلا توفيقي، وأحمد بن جمال المجذوب وغيرهم، وجدّ واجتهد حتى تصدّر للتدريس والتصنيف والإقراء والإفتاء، وأخذ عنه كثير من علماء حلب وفضلائها في دار القرآن الحيثية[21] وفي المدرسة الحلاوية، وكان له مجلس وعظ في الجامع الأموي الكبير.

وقد ترجمه وأثنى عليه كثير من العلماء وأشادوا بعلمه ومناقبه كيوسف البديعي في كتابه (ذكرى حبيب) والخفاجي[22] في (ريحانة الألباء).

كما مدحه كثير من الشعراء منهم: حسين بن أحمد الجزري، وسرور بن سنين وغيرهم.

ترك المفتي الشيخ أبو الوفاء عدداً من المؤلفات، في مختلف العلوم الشرعية والعربية، نذكر منها [23]:

1- سوابغ الإنعام في تحرير أول سورة الأنعام؛ تفسير.

2- حاشية على تفسير البيضاوي؛ تفسير.

3- شرح سورة والضحى؛ تفسير.

4- حاشية على شرح المنهاج للمحلي؛ فقه شافعي.

5- حاشية على شرح المفتاح؛ فقه.

6- طريق الهدى؛ تصوف.

7- شرح على ألفية ابن مالك؛ نحو.

8- فتح المانح البديع في حل شكل الطراز البديع؛ شرح لبديعته.

9- معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب؛ تاريخ [24].

كما ترك المترجم قصائد ومقطعات شعرية في التصوف والإخوانيات والغزل والمديح، وغير ذلك من الأغراض الشعرية.

وقد أثبت له الأستاذ محمد راغب الطباخ في كتابه إعلام النبلاء عدداً من القصائد والمقطعات الشعرية ولعل أهمها: لاميته التي تضاهي لامية العجم والتي نظمها سنة: 1037هـ ومطلعها.

جلالة الفضل تنفي زلة الرجل=وذلة الجهل توهي صولة البطل

ومنها:

واضرب على العقل أسواراً محصنة=تقيك فتنة أحداث أولى حيل

ولا يروقك ماء الحسن قطره=نار الحياء على الخدين كالشعل

ولا حلاوة ثغر حشوه درر=فكامن السمّ في العسّال والعسل[25]

وظل المترجم المفتي أبو الوفاء على دأبه في التدريس والتصنيف والإفتاء والوعظ، إلى أن أدركته المنية، في اليوم الرابع من شهر محرم، سنة: إحدى وسبعين وألف للهجرة النبوية الشريفة [26].

63- محمد بن عمر العرضي

1071هـ 1660م

محمد بن عمر بن عبد الوهاب العرضي.

عالم فاضل، وأديب باهر، وشاعر مجيد.

ولد بحلب، وتأدّب وتفقّه على علمائها، وبرز ونبع إلى أن ولي القضاء والإفتاء والتدريس في المدرسة الكلتاوية [27] والمدرسة السعدية [28].

تولى إفتاء الحنفية مدة طويلة، ثم سافر إلى الآستانه، وأقام بها مدة يسعى لنفسه بمنصب لكنه عاد خائباً، ولما مات أخوه أبو الوفاء، صار مكانه مفتي الشافعية بحلب، والواعظ في مسجدها الجامع الأموي الكبير، وحصل له في آخر حياته جذب إلهي، وراح يتكلم بوعظه برموز ودقائق على لسان القوم (الصوفية).

وقد أعجب به الشيخ محمد راغب الطباخ، وأثنى عليه وأظهر انحيازه له فقال: "لم تنجب الشهباء منذ بنيت بمثله، كان في الفضل بمرتبة الآحاد، ومن الأدب في مرتبة لا تنال بالاجتهاد، وحاصل ما أقول: إني له عاشق والعاشق معذور فيما يقول.." [29].

أما شعره فحسن رائق ولو جمع لبلغ ديواناً، فيه مختلف الأغراض الشعرية؛ من مديح نبوي وغزل وإخوانيات ورثاء، ذكر بعضه الخفاجي في (ريحانة الألباء) والمحبي في (خلاصة الأثر) والطباخ في (إعلام النبلاء).

كما ترك المفتي المترجم له رسالة سماها "منهل الصفا على اسم المصطفى"[30]، بدأها بقصيدة في مدح النبي عليه الصلاة والسلام.

أما أشعاره الغزلية ففيها ملاحة وطرافة من ذلك قوله:

يا ليلة طالت على عاشق=بات من الوجد على جمر

كليلة الميلاد في طولها=تسبح فيها العين بالقطر

كأنها ثكلى جنين لها=أغرّ قد سمّته بالفجر

ومنها هذه الأبيات الرقيقة:

ومن عجبي أن الظباء رأيتها=تُصادٌ بها الآسادُ وهي كواسر

وأعجب من هذا عيون كليلة=تذل لها الأسياف وهي بواتر

وأعجب من هذين هن نواعس=دلالاً، وأجفان الملوك سواهر

وأعجب من هذا وهذا وهذه=تناسيك لي مع أنني لك ذاكر

وأعجب من هذي العجاب بأسرها=تجور على ضعفي وماليَ ناصر

وأعجب من أضعاف ذلك كله=تواني قريباً والبعيد تجاور

ولما عاد إلى حلب وتولى إفتاء الشافعية فيها، والوعظ في جامعها الأموي الكبير لزم الزهد والتعبد، وترك شعر الغزل إلى الأشعار المتعلقة بالعبادة والزهد والتوسل والمناجاة، ومن ذلك قوله:

أيا ربُّ أتعبتني حظوظها=وتسويلها الإيقاع في زلة القدم

فيا رب إن كنتُ الشقيّ بفعلها=فما أنا إلا السنّ يقترع الندم

ولست بإياها وحاشاي إنني=من الروح ذات القدس لي أوفر القسم

وكانت وفاته في صفر سنة إحدى وسبعين وألف للهجرة النبوية الشريفة [31].

[19] خلاصة الأثر 4/395 ومعادن الذهب ص206 و207 و234 و235 وإعلام النبلاء 6/280.

[20] تقدم باقي نسبه في ترجمة والده عمر بن عبد الوهاب.

[21] دار القرآن والمدرسة الحيشية هي دار القرآن والمدرسة العشائرية المتقدم ذكرها.

([22] الخفاجي أحمد بن محمد بن عمر: أديب عالم قاض، له عدد من المؤلفات في التفسير والفقه والأدب والتاريخ، ولد ونشأ بمصر، ورحل إلى بلاد الروم، واتصل بالسلطان العثماني، ثم ولي قضاء مصر، وعُزل منها، ورحل إلى الشام وحلب، من أشهر كتبه/ (ريحانة الألبا)، توفي بمصر سنة (1069هـ) يُنْظَر: الأعلام، الزركلي، 1/238.

[23] ذكر هذه الكتب المحبي في خلاصة الأثر ونقل عنه الشيخ محمد راغب الطباخ في إعلام النبلاء، كما ذكرها الدكتور التونجي في مقدمة تحقيقه لكتاب معادن الذهب، ص21، وذكر بعضها محمد رضا كحالة في معجم المؤلفين، 3/165.

[24] الكتاب الوحيد الذي رأى النور وطبع بجهود الدكتور محمد التونجي في مطبعة دار الملاح للطباعة والنشر سنة 1407هـ-1987م.

[25] إعلام النبلاء، وذكر المؤلف أن بحث عن هذه اللامية كثيراً فلم يعثر عليها ولو عثر عليها لنشرها بتمامها، إعلام النبلاء، 6/291.

[26] معادن الذهب ص21، وخلاصة الأثر 1/148، وهدية العارفين للبغدادي الذي توهم أنه وأخوه محمد واحد، وذلك لأنه وأخوه محمد توفيا في سنة واحدة، 2/288، وإعلام النبلاء 6/289، ومعجم المؤلفين، 13/165.

[27] المدرسة الكلتاوية: بناها الأمير طقتمر الكلتاوي المتوفى سنة 787هـ، وشرطها للمذهب الحنفي، ومع مرور الزمن ضاع وقفها وتهدمت، ولم يبق منها سوى ساحة محاطة بأربعة جدران وقبلية صغيرة، وفي سنة 1384 قام الشيخ محمد النبهاني رحمه الله بإعادة بناء جامع الكلتاوية وبنى بجانبه مدرسة ضخمة على الطراز الحديث وجعلها لطلاب العلم، وأطلق عليها اسم (دار نهضة العلوم الشرعية)، وتقع الكلتاوية على نشز من الأرض على يسار الداخل من باب الحديد وقبل وصوله إلى (قبو النجارين). يُنْظَر: نهر الذهب، 2/310، وإعلام النبلاء، 5/94، وعلماء من حلب في القرن الرابع عشر، والتعليم الشرعي ومدارسه في حلب في القرن الرابع عشر (كلاهما للمؤلف).

[28] المدرسة السعيدية: أنشأها علي بن سعيد الملطي في حدود سنة 920هـ، بجانب الجامع الذي بناه الحاج ناصر الدين بن عمر بن بدر الدين الصروي، فأضحت تُعرف بالمدرسة الملطية أو السعيدية، وهي الآن تابعة لجامع الصروي، وقد تهدمت أكثر حجراتها، وخلت من مجالس العلم وطلابه، تقع في منتصف شارع البياضة قرب (قبو لنجارين). يُنْظَر: نهر الذهب، 2/302، والتعليم الشرعي ومدارسه في حلب في القرن الرابع عشر(للمؤلف)

[29] إعلام النبلاء 6/299.

[30] ذكرها المحبي في خلاصة الأثر 4/89.

[31] معادن الذهب ص25، وخلاصة الأثر 4/89، وريحانة الألباء 1/274، وهدية العارفين، 2/288، وإعلام النبلاء 6/299. وكانت وفاته بعد وفاة أخيه المتقدم بنحو شهر.