الشّيخ بكري الزُّبَري مفتي حلب الذي عُزلَ مرّتين

بقي منصب الإفتاء في مدينة حلب متماهيًا مع منصب القضاء وجزءًا منه فكان القاضي هو المفتي إلى حين دخول العثمانيين إلى حلب عام 1516م، فأصدر السّلطان سليم الأوّل قرارًا بفصل منصب الإفتاء عن القضاء، وأصبح المفتي تابعًا إداريًّا للمفتي العام في الدّولة العثمانيّة الذي يطلق عليه لقب "شيخ الإسلام" ومقرّه الأستانة "إسطنبول"؛ وأصبح منصب الإفتاء فوق منصب القضاء فكان شيخ الإسلام هو الذي يعيّنُ قاضي القضاة.

وتعاقبَ المفتون على حلب التي كانت حينئذٍ من أهمّ ولايات الدّولة العثمانيّة وكانت لا تضاهيها في المكانة سوى ولاية إسطنبول وولاية القاهرة، وكانت شاسعة ممتدّة لتضم مع مدينة حلب وريفها لواء إسكندرون وصولًا إلى ولاية أضنة كما كانت تضمّ عنتاب ومرعش وصولًا إلى معرّة النّعمان.

مع نهايات القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين بدأ يتبلور مشهد أفول الدّولة العثمانيّة لظروف كثيرة انعكس على واقع الولايات المختلفة وكان الإفتاء في قلب الأحداث والتغيّرات، ولعلّ وضع الإفتاء في حلب في تلكم الفترة يقدّم صورةً عن تطوّر المشهد الدّيني في المدينة التي كان لها وضعها الخاص من جهة وغدت بعد ذلك جزءًا من الدّولة السّوريّة من جهةٍ ثانية؛ ممّا يساعد على رسم المشهد بطريقة بانوراميّة تطلّ على خلفيّات الأحداث لا مجرّد صورتها.

بكري الزُّبري؛ النّشأة والتّحصيل

في حلب عام 1824م ولد بكري بن أحمد ابن الحاج عبيد البابلّي الذي كان مشهورًا بالزُّبَري، وعمل الفتى بكري في بداية حياته بالعطارة غير أنّه لم يفلح في تلكم الصّنعة فتوجّه حين بلغ من العمر سبعة عشر عامًا إلى المدرسة القرناصيّة.

و"القرناصيّة" من أشهر المدارس الدّينيّة في حلب وتقع في حيّ الفرافرة، وتُنسب إلى بانيها وهو "بكتمر القرناصي الحلبي" وكانت في الأصل مسجدًا بني سنة 1369م، ثمّ حوّلها الحاج إسماعيل آغا ابن عبد الرحمن أفندي شريف سنة 1827م إلى وقفٍ لتعليم الحديث الشريف بعد أن بنى فيها إحدى عشرة حجرة ووقف عليها وقفًا ووضع لها نظامًا إداريًّا وماليًّا خاصًّا للإنفاق على الطلّاب والمدرّسين.

ظهر نبوغ الشّاب بكري الزّبري خلال دراسته الفقه الشّافعيّ في المدرسة القرناصيّة، ولمّا بلغ من العمر عشرين عامًا انطلق عام 1844م إلى مصر والتحق بالأزهر، وقد عانى من الضّنك والفقر وقلّة ذات اليد حتّى وصل الأمر إلى أن يرسل له بعض أهل الخير من حلب بعض النّفقات التي يستعين بها على التحصيل العلمي.

كان التحوّل الأبرز في مسيرة بكري الزّبري العلميّة تحوّله من المذهب الشّافعي إلى المذهب الحنفي الذي كان مذهبًا رسميًّا في الدّولة العثمانيّة، فهو مذهب المفتي العام "شيخ الإسلام" والمفتين الرسميّين في الولايات، على أنّه كان في كثيرٍ من الولايات ومنها ولاية حلب مفتياً للشّافعيّة لكنّه لا يتمتّع بالمزايا والمكانة الإداريّة والاجتماعيّة التي يحظى بها المفتي الرّسمي الحنفي.

التنقّل في الإفتاء والعزل الأوّل

عقب إنهاء دراسته في الأزهر، وقد أبدى الشّيخ بكري الزّبري نبوغًا وتميّزًا؛ عُيّن مدرّسًا في الأزهر، وكانت له مكانةٌ كبيرة وسمعة طيّبة ممّا أسهم في تعيينه مفتيًا لمدينة طنطا المصريّة التي تقع شمال القاهرة قرابة 93كم وتعدّ من أهمّ مدن الدّلتا.

في طنطا جمع الشّيخ بكري الزّبري بين منصب الإفتاء والعمل في الزّراعة، وقد كان عمله في الزراعة بوابةً لتحسّن أحواله الماديّة ورفعة مكانته الاجتماعيّة بعد تحسّن أوضاعه واستغنائه عن النّاس.

وفي عام 1881م قرّر الشّيخ بكري العودة إلى مسقط رأسه حلب، وفور عودته تناقل النّاس أخبار قدومه وهرع إليه طلّاب العلوم الشرعيّة ليتتلمذوا على يديه فنال مكانةً غير مسبوقة، وبدأ التّدريس في المدرسة القرناصيّة التي كانت محضن تعلّمه الأوّل، كما كان له درس في الجامع الأمويّ بحلب.

بعد أشهر قليلة من عودته صدر قرارٌ بتعيين الشّيخ بكري الزّبري مفتيًا لحلب، غير أنّه مكث في منصب الإفتاء سنتين فقط ليصدر قرار عزله وتعيين الشّيخ عبد القادر أفندي الجابري المشهور بحاجي أفندي مكانه.

لا تتحدّث المصادر المختلفة بشكل صريح ومباشر عن سبب عزله، غير أنّها تتحدّث عن الشيخ عبد القادر الجابري أنّه تداخَلَ مع الحكّام وصار على علاقة وطيدة معهم وتمّ تعيينه عضوًا في مجلس إدارة الولاية، وكانت هناك استقطابات بين بعض أعضاء مجلس إدارة الولاية والوالي جميل باشا، ممّا يوحي أنّ عزل الشّيخ بكري الزّبري كان نوعًا من تصفية الحسابات مع الوالي، وفعلًا تمّ عزل الشّيخ بكري الزّبري عام 1884م وتعيين الشّيخ عبد القادر أفندي الجابري مفتيًا وقد كان بينه وبين الوالي جميل باشا مواقف شديدة، وقد عمل الوالي على عزل المفتي حاجي أفندي وإعادة الشّيخ بكري الزّبري.

وفعلًا استطاع الوالي استصدار قرارٍ عام 1886م بعزل المفتي حاجي أفندي "الشّيخ عبد القادر أفندي الجابري" وإعادة تعيين الشّيخ بكري الزّبري مفتيًا لحلب، وهكذا غدا مصير المفتي الزّبري مرتبطًا بالوالي جميل باشا الذي كان أشهر الولاة العثمانيين وأقواهم في ولاية حلب.

العزل الثّاني للمفتي الزّبري بعزل الوالي

الوالي جميل باشا أشهر ولاة حلب وقد امتدّت ولايته عليها من عام 1879م إلى عام 1887م، وإليه يُنسَب حيّ الجميليّة الشّهير بحلب إذ بنى قصره فيها، وكان جميل باشا معروفًا بشدّة مضايقته للأغنياء، وقد حدث ذات مرّة أن مجموعة من التجّار أقاموا دعوى قضائيّة ضدّه واستلمها محامٍ أرمنيّ اسمه "زيرون جقمقيان المرعشي" وقد كان هذا المحامي متدرّبًا عند عبد الرّحمن الكواكبي، فما كان من الوالي إلّا أن نقم عليه ومنعه من العمل، وضيّق عليه وبقي يلاحقه حتّى عند خروجه من حلب فمنعه من العمل في مرعش ومن العمل في أنطاكية.

في عام 1886م وقعت حادثة شهيرة كانت السبب المباشر خلف عمليّة عزل الوالي جميل باشا؛ إذ تقدم "زيرون جقمقيان المرعشي" من موكب جميل باشا المتوجه من قصره في الجميلية باتجاه ساحة باب الفرج وصرخ محتجًا على منعه من العمل، وحدث هرج ومرج، زعم خلاله جميل باشا أن الأرمني زيرون أشهر مسدسًا بقصد اغتياله، وقد اختلفت الروايات كثيرًا حول قيام زيرون بمحاولة اغتيال الوالي، فمنهم من تبنّى الرّواية، ومنهم من ذهب إلى القول: إن جميل باشا اختلقها لتكون حجّةً لانتقامه من الرّجل ومن ينقم عليهم من تجّار حلب.

قبض الحرس على زيرون ونُقل إلى دمشق، كما ألقي القبض على مجموعة من وجهاء حلب بعدما اتهمهم الوالي بتحريض زيرون ودفعه لمحاولة اغتياله، وكان من بين المعتقلين عبد الرّحمن الكواكبي الذي تمكّن من إرسال عدة برقيات إلى السلطان عبد الحميد وإلى وزير الحقانية "العدل" والصدر الأعظم "رئيس الوزراء".

وردًّا على هذا الاعتقال حدثت احتجاجات عديدة أهمّها خروج مظاهرة نسائية ضمّت نساء الموقوفين للتّنديد بأفعال الوالي، وتذكر بعض الكتب أنّها أول المظاهرات النّسائية في تاريخ حلب.

وفي خطوة تصعيدية قام الوالي جميل باشا بكفّ يد القائد العسكري لحلب محمد علي باشا وعزله واستلم قيادة الجنود بنفسه.

أرسل السّلطان عبد الحميد مبعوثًا ليحقّق في الأمر فرفع المبعوث تقريره مع تقرير القائد العسكري المعزول محمد علي باشا إلى الأستانة بطلب عزل الوالي جميل باشا لتحقّق جوره وظلمه وتجاوزه، وصدر مباشرة قرار السلطان بعزل الوالي جميل باشا ونقله إلى الحجاز.

وبعد عزل الوالي جميل باشا صدر قرار بتغيير تسمية حي الجميليّة إلى "حي السّليميّة" غير أنّ الاسم الذي ما يزال متداولًا للحيّ إلى اليوم هو الجميليّة.

وكان من أوائل القرارات التي صدرت عقب عزل الوالي جميل باشا قرار عزل المفتي الشّيخ بكري الزّبري الذي دفع ثمن ارتباط اسمه باسم الوالي جميل باشا وتعيينه له.

عاد الشّيخ بكري إلى التّدريس في المدرسة القرناصيّة والجامع الأموي بحلب وبقيت له شعبيّته الواسعة عند طلاب العلوم الشرعيّة وعامّة النّاس وبقي على حاله إلى أن توفي في السّابع من نيسان "إبريل" عام 1895م، وصلّي عليه في الجامع الأموي وكانت جنازته مشهودة فقد امتلأ صحن الجامع الأموي بالمشيّعين، ودفن في مقبرة الكليباتي خارج باب قنسرين.