الشيخ عيسى البيانوني - العالم القدوة
لعالم القدوة الشيخ عيسى البيانوني -رحمه الله
1290ـ1ا362هـ

ولادته:
على مسافة ثمانية أميال من الشمال الغربي من مدينة حلب، قرية هادئة تسمى "بيانون" تابعة لقضاء إعزاز، في هذه القرية المتواضعة، ولد سنة 1290 الأستاذ العالم الشيخ عيسى بن حسن بن بكري بن أحمد البيانوني، من أبوين صالحين كريمين، كان لهما شهرة في الكرم والصلاح، وحسن القرى للأضياف.
طلبه للعلم:

ولما بلغ من العمر عشراً، ساقته الأقدار إلى طلب العلم، فنزل إلى حلب، ولازم أخاه العالم الشيخ حمادة البيانوني رحمه الله، وكان أخوه هذا من علماء المدرسة العثمانية والمبرزين فيها، فذهب به أخوه إلى قارئ حلب الحافظ المتقن الشيخ أحمد الشهير بالحجار، فلازمه حتى حفظ القرآن الكريم غيباً، وأتقن تجويده، وأحسن تلاوته، وتعلم كتابة الخط من الشيخ بشير الحياني، وكان خطاطاً ماهراً، فأجاد الفقيد الكتابة وتفنن فيها، ولما تم له ذلك التفت إلى دراسة العلوم الدينية، وتلقيها من فحول العلماء.

في المدرسة العثمانية:
ولما بلغ من العمر الثالثة عشر تقريباً، انتظم في عداد طلاب المدرسة العثمانية، وقرأ على أساتذتها، وكانوا علماء جهابذة، لهم الصيت الذائع، والشهرة الواسعة، والباع في التحقيق، وسعة الاطلاع، فقرأ علم التفسير على العالم العامل الشيخ مصطفى الهلالي الشهير بالدرعزاني، كما قرأ عليه أيضاً علم المنطق، وشيئاً من علم النحو والإعراب.
وقرأ علم التوحيد على أخيه الشيخ حمادة، كما قرأ عليه مبادئ علم النحو والصرف والتصوف والفقه.

وحضر على مُدرِّس العثمانية الشيخ حسين الكردي، الذي كان يوصف بأنه مجتهد في العلوم العقلية، فقرأ عليه علم التفسير والتوحيد والمنطق والصرف، وعلم البلاغة بأنواعه، وباقي علوم الآلة.

ولزم حلقة العلامة الكبير الشيخ بشير الغزي رحمه الله تعالى، واستفاد من علمه الجم، وذكائه النادر، ونبوغه الباهر، وسعة اطلاعه، وتفننه في العلوم والقراءات كثيراً، فقرأ عليه علم الحديث النبوي، كما قرأ عليه شرحه للجزرية، وهو كتاب جامع لأحكام القرآن، تجويداً ووقفاً وتلاوة، كما قرأ عليه علم الأدب، وعلم المعاني والبيان.
وأخذ طرفاً من علم النحو عن أخيه الشيخ حمادة البيانوني، ومدرس المدرسة الشيخ حسين الكردي، وأتم دراسته في علم النحو على العلامة الورع الزاهد الشيخ أحمد المكتبي، فقرأ عليه شرح ألفية ابن مالك، وحاشيتها للخضري، كما قرأ عليه حاشية العلامة العطار على شرح الأزهرية، وكان الشيخ المكتبي رحمه الله تعالى نحوياً لا يُبارى.
أما علم الفقه، فإنه قرأه أولاً على أخيه الشيخ حمادة، ثم لزم العلامة الصالح الجليل الشيخ سعيد السنكري، فقرأ عليه حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري، ثم قرأ عليه شطراً من حاشية العلامة البجيرمي على شرح المنهج للخطيب في الفقه الشافعي، وقرأ أيضاً طرفا من علم الفقه على العالم الفقيه الشيخ أحمد البدوي الجميلي، الذي كان أستاذاً في المدرسة الشعبانية، وكان له التحقيق الوفي والاطلاع الواسع على المذهب الشافعي، حتى إن العلامة الكبير شيخ شيوخ حلب الشيخ محمد الزرقا رحمه الله تعالى كان يعتمد عليه في النقل عن المذهب الشافعي، ويثق بصحة فهمه وسداد نظره.

اجتهاده وذكاؤه، وثناء أساتذته عليه:
كل من اجتمع بالفقيد وسمع كلامه في وعظه وإرشاده، أو نصائحه وخطبه علم يقيناً أنه على جانب عظيم من الذكاء وتوقد الذهن، ولقد كان رحمه الله مبرزاً بين أقرانه في الفهم عن الشيوخ، وكان شيوخه يسألون رفاقه أولاً عن المغلق من العبارات ويستفسرون عن المشكل من الجمل، فإذا عجز رفاقه عن الجواب، وجهوا السؤال إليه، فكان يحل المشكل، ويفتح الغامض بأحسن جواب، وأسد عبارة، يقول عنه أقرانه: إنه لو لم ينصرف إلى الانشغال بالتصوف لكان من الفقهاء البارزين الذين يشار إليهم بالبنان، وربما بعضهم قال: لو بقي الشيخ عيسى مشتغلاً بالفقه عاكفاً على دراسته، لكان مرجحاً في المذهب الشافعي.
وجاء عنه في "تشنيف الأسماع: "العالم الفاضل الأديب الكامل المتمسِّك بالشريعة المحمديَّة عاشق الحضرة النبوية، كان يتردَّد كثيراً على دمشق للأخذ من أعيانها، خاصة شيخ علمائها الشيخ بدر الدين البيباني، وأخذ عنه جهابذة العلماء في حلب، وفي مقدمتهم شيخنا المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه لله، وحصل له إقبال من العام والخاص، وكان حلو النصائح، كثير التسبيح والحمد والتكبير والتهليل، يعدُّ من أهل الذكاء واليقظة، والنباهة والمعرفة والصلابة في الحق والفضل الواسع والتواضع، صحيح المذهب، حسن الصدر.
ويقول تلميذه فضيلة أستاذنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: ولقد حضرت عليه أنا ولفيف من كبار الطلاب، فكان رحمه الله إذا غلط أحدنا بقراءة العبارة أو كان فيها شيء من الخطأ والتحريف، أدركه أسرع ما يكون، ثم سألنا عنه، فإن أجبنا مدح، وإن عجزنا عن الإجابة نبهنا إليه، فكان في معرفته بصحة العبارة من خطئها كالصراف الجهبذ النقاد، أسرع ما يكون في استخراج الدرهم المزيف من الدراهم الصحيحة

وظائفه العلمية:
دخل في مسابقة علمية لتدريس بلدة المعرة، فحاز فيها الدرجة الأولى، وبقي فيها ست سنوات، ثم لما عاد إلى حلب، تقلد خطابة جامع المدرسة العثمانية، وعين مدرساً للأخلاق في المدرسة الخسروية (الثانوية الشرعية بحلب) فكان خير أستاذ في بث الأخلاق الطيبة علماً وعملاً.
ولما زار الشيخ العلامة المحدث بدر الدين الحسني الدمشقي رحمه الله بلدة حلب، ورأى من الفقيد الإخلاص في الوعظ، والتأثير على القلوب، طلب من مدير أوقاف حلب أن يعينه مدرساً للنساء، فكان لهن منه خير إفادة وأبلغ موعظة

إتقانه التصوف واشتغاله به:
وقد حبب إليه التصوف منذ انشغاله بالعلم، وكان يكثر من قراءة كتبه حتى تعلق قلبه بحب رجال الصوفية رحمهم الله، وأحب أن ينتسب إلى بعض طرائقهم، فانتسب إلى الطريقة القادرية وأخذها عن شيخه العالم الصالح الشيخ مصطفى الهلالي، واشتغل بها مدة طويلة، ثم عنَّ له أن يأخذ الطريقة الرفاعية، فتلقاها عن الشيخ المسلك محمد خير الله واشتغل بها أيضاً، وفي خلال عمله بها، حضر إلى حلب الشيخ محمد أبو خالد الدمشقي، وكان رشيدي الطريقة، فاجتمع به، وأخذها عنه، ثم أخذ الطريقة النقشبندية عن شيخه العالم الرباني الشيخ محمد أبو النصر خلف الحمصي رحمه الله تعالى.

تأليفه وآثاره :
ومع اشتغاله بالتدريس والخطابة والدعوة والإرشاد، فقد كتب عدة كتب طبع بعضها، ولما كان أكثر اهتمامه بالتصوف وما إليه، كان جلّ آثاره في هذا العلم، فقد ألف أكثر من اثني عشر مؤلفاً يسوغ لنا أن نقسمها إلى ثلاث زمر:
الأولى: في تهذيب النفس وتحليتها بالفضائل، و< B>الثانية: في بيان آداب الطريق ووظائفه وما إلى ذلك، والثالثة: في المحبة النبوية، وبيان فضلها والحض عليها، وهذه الزمرة هي أبرز مؤلفات الشيخ عيسى وأحسنها، وذلك لما كان له من حب وغرام بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه تفنن في وضع أكثر من عشرين مولدا نبوياًّ منها نظم ونثر، ومنها المتوسط والحسن والباهر، فمن مصنفاته:
1ـ كنز الهبات في الصلاة على سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم.

2 ـ كتاب المنكرات، في مجلدين.
3ـ كتاب مواد العقل السليم في متابعة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
4ـ كتاب تحذير الإنسان من آفات القلب واللسان.
5ـ أكواب الرحيق في آداب الطريق وهو ضخم.

6 ـ الآراب في الآداب، وهو مختصر كتباب: أكاب الرحيق، ويقع في جزء لطيف.

7 ـ أربعون حديثاً في المحبة النبوية، وقد شرحها شرحاً لطيفاً.
8ـ معرفة العبد ربه بالذكر والمحبة.
9ـ ثلاثة دواوين في الخطب الجمعية.،أحدها: مضمّن بآيات قرآنيه على هيئة التخميس. وثانيها: مجموع من الخطب النبوية. وثالثها: مجموع من الأحاديث القدسية.
10ـ ديوان شعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، سماه (فتح المجيب في مدح الحبيب)، مرتَّب على حروف الهجاء.
11ـ إعلام الإنسان بأحكام الصيام.
12ـ ستة عشر مولداً منها ما هو النظم، وما هو النثر.
- مجموعة أملاها في المبشِّرات.
وكان آخر مؤلفاته التي كان يشتغل بها وهو على مقربة من أبواب الآخرة، كتاب سماه: (غاية المطلوب في رؤيا المحب للمحبوب) تحدَّث فيه بما منَّ الله به عليه من رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم والتوله به والاقتداء بهديه والاقتباس من نوره.

جهده وجهاده:

لم يكن تصوف الشيخ، رحمه الله تصوف عزلة وانطواء، وإنما كان تصوف حب وعمل، ولذك فقد أخذ على عاتقه العمل في الميدان الاجتماعي والميدان السياسي ومقاومة الظلم والظالمين، لقد قضى الشيخ عيسى عمراً طويلاً تقلبت فيه البلاد شتى التقلبات، وتخلل ذلك الشيء الكثير من الاضطراب الخاص والعام، ولا نكون قد بالغنا إذا قلنا معه: إن البلاد كانت في شبه ثورة اجتماعية هائجة لا يُعرف لها اتجاه، أصبح الناس فيها غير الناس في تدهور الأخلاق وضعف الثقة وقلة الاكتراث بالدين واقتراف الموبقات والجهر بالمنكرات.


وهكذا نجد الشيخ عيسى رحمه الله ينتقل بين المساجد والجوامع، ويتغلغل بين الحلقات والمجتمعات داعياً إلى الله منادياً بنبذ المنكرات مُحِّبباً بالفضائل مظهراً للناس سبل الخير ، على أن أمره بالمعروف هنا كان يتطور أحياناً فيأخذ شكلا من القوة والحض على الجهاد في سبيل الله، وحدث ابنه الشيخ أحمد البيانوني رحمه الله قائلاً: قبل دخول الفرنسيين حلب قام والدي بحركة جهادية مباركة، فذهب إلى الأقضية والقرى، وحرض المسلمين على الجهاد، وجمع كثيراً من المتطوعين الذين قدموا حلب بخيلهم ورجلهم، ورأيتهم أنا وقد حمل كل منهم بندقيته متحمساً يشرق نور الإيمان من وجهه، ولم يلبث أن بلغه أن المقاومة قد انتهت في دمشق، وقد منعت حكومة حلب فعلاً أي مظاهر من هذا القبيل، فتفرقت الجموع، وما تم لها شرف الجهاد، ولما رسخت قدم الفرنسيين في البلاد، واستتب لهم الأمر علم من مصدر وثيق أن بعض الوشاة أبلغوا (غورو) بما صنع، فكان جوابه في حنكته السياسية أن قال: (إن هذا الأستاذ يشكر على عمله لأنه قام بواجب الدفاع عن وطنه) وكما كان يستشعر آلام الفقراء والمحتاجين، فيبذل جهده لجمع التبرعات في عصر لم تكن الجمعيات الخيرية قد قامت على سوقها، ليعين محتاجاً، وينفق على أرملة، أو مسكين، وقد كان كثير والاهتمام بفقراء المدينة المنورة. فقد حدث الشيخ عيسى رجل من الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، وطلب منه مد يد العون إلى أهل مدينته الكريمة، فبادر إلى جمع المال من المسلمين فجمع ما يزيد على مئتي ليرة عثمانية ذهبية وأرسلها مع مجموعة من أمناء الحجاج لتوزع على فقراء المدينة المنورة، حتى إنه قبيل انتقاله إلى جوار ربه أعطى ما معه من أمانات مجبية لهذه الغاية لتوزع على الفقراء، كل هذا يضاف إلى عمله الاجتماعي الكبير الذي كان يقوم به في تدريسه مادة الأخلاق في المدرسة الخسروية التدريس القويم، وبث الأخلاق في الشباب.
وفاته:
حج الشيخ عيسى رحمه الله سبع حجات، وبعد ما أتم مناسك الحج في حجته الأخيرة عام /1362/ هجرية، أصابه زحار، وهو استطلاق البطن، فأسرع رفاقه باستدعاء الطبيب ففحصه وحقنه إبرتين، وأعطاه علاجاً، ثم حقنه بإبرتين أخريين مساء، وكانوا حينئذ على أهبة التوجه إلى المدينة المنورة، فركب السيارة مع رفاقه، فأصابهم على الطريق سيول جارفة أخرت سيرهم، واضطرتهم إلى أن يبيتوا ليلتين، احتمل فيها الفقيد رحمه الله مشقة عظيمة، على رغم ما بذله رفاقه الكرام من خدمة له واعتناء به، فقد فسحوا له في السيارة مكاناً للاضطجاع إيثاراً لراحته، وتحملوا مشقة الصعود معه إلى السيارة والنزول منها كلما احتاج إلى ذلك كرما منهم وحباً به، فجزاهم الله خيراً.
ولما وصلوا المدينة المنورة عملوا بوصية الطبيب، فأخذوه تواً إلى المستشفى، فاهتم له الأطباء وفحصوه، فرأوا معه تسمما في الدم، والتهابا في الكليتين، ولم يزل ينحط جسمه، وتصعف بنيته، حتى توفي ليلة الأحد بعد العشاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة عام /1362/ هجرية، فشيعوا جثمانه، وصلوا عليه أمام الحجرة النبوية، وساروا به في موكب عظيم، حتى وصلوا به إلى البقيع المبارك، فوقف الأستاذ الشيخ محمد الحكيم، أحد رفاقه في سفر الحج، وعرف الناس قدره، وواروه التراب في منتصف المسافة بين ضريح سيدنا إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الشهداء، رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه.
أعدَّ الترجمة: مجد مكي باختصار من مقدمة ديوان:" فتح المجيب في مدح الحبيب"، بقلم تلميذه فضيلة الشيخ: عبد الفتاح أبو غدة، وتلميذه الشاعر الأديب عمر بهاء الدين الأميري. ومن كتاب:" تشنيف الأسماع" للأستاذ محمود سعيد.