كلمة أخرى عن الشيخ طاهر خير الله

قرأت الكلمات الطيبة التي سطرها الأخ الأديب يحيى حاج يحيى عن أستاذنا الشيخ طاهر خير الله، أسكنه الله جنات الفردوس.

فقد تتلمذنا على يديه ست سنوات في مدرسة الخسروية، أو الثانوية الشرعية، وهي تضم المرحلة الإعدادية مع الثانوية. وكانت له هيبة في قلوبنا، نكن له الاحترام والتقدير، ومن لا يكون كذلك من بعض الطلبة الذين تجتالهم شياطين الإنس والجن؛ كان يهاب سطوته؛ بقامته الطويلة، وجسمه الممتلئ، وحزمه الشديد.

كنت أتابع حضور خطب الجمعة في مسجده بدءاً من جامع (بانقوسا) الأثري شرقي دوار باب الحديد، ثم انتقل إلى جامع سيف الدولة، يمين المتجه غرباً نحو دوار ما يسمى الكرة الأرضية، ولما افتتح جامع الروضة بمعماره الفني الرائع، كان لشيخنا طاهر خير الله ألق على منبره، يجتمع إليه المصلون يوم الجمعة كما يجتمع النحل في الروضة الزاهرة، فكان جامعه روضة مبنى ومعنى، وحقيقة ومجازاً.

وهذه بعض المواقف التي تحتفظ بها ذاكرتي عنه ومعه (رحمه الله رحمة واسعة):

- كان الشيخ في الركعة الثانية من صلاة الجمعة يقرأ (ملك يوم الدين) من غير مد الميم، وكان ذلك يجذب انتباهنا. ومرة طلب منا في الصف أن نسمعه قراءة الفاتحة، فقرأ أحد الطلاب (ملك يوم الدين) تقليداً لقراءة الشيخ يوم الجمعة، فلم يرض له بذلك، وجعله يعيد القراءة. ولعله أراد ألَّا ينتشر ذلك، لعدم معرفة الناس عندنا بهذه القراءة، فيظنوها خطأ، ويحصل من ذلك لغط لا حاجة إليه.

- كان الشيخ في الفقه على المذهب الحنفي، فسألنا مرة عن دليل المذهب في عدم كون قراءة الفاتحة ركناً، إذ الأحناف يفرقون بين الفرض والواجب، أو الركن والواجب. ومع أننا في شعبة الفقه الحنفي في المدرسة، ومعرفة هذا الدليل من البدهيات، فلم يجب عن سؤاله أحد!.. وكنت أعرف الجواب، وهو عموم دلالة (ما) في الآية الأخيرة من سورة المزمل من قوله تعالى: ((فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ))، و((فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ))، ورغم معرفتي بالجواب؛ تملكني خوف شديد، وارتفعت نبضات قلبي فلم أجرؤ على الإجابة، وتعجب شيخنا من عدم معرفتنا هذا الدليل بعد إكمال قراءة كتاب "الاختيار لتعليل المختار" في الفقه الحنفي جزءاً جزءاً في مدة ست سنوات!..

- كانت بوادر التقلبات في سورية تظهر شيئاً فشيئاً، وكان الشيخ طاهر لا يحجم عن تسمية الأمور بأسمائها صراحة، فخطب مرة على مبنر الجمعة في جامع الروضة منادياً بأعلى صوته وبكثير من الغضب والانفعال: (لن نسكت على جرائم حزب البعث العربي الاشتراكي)، وكان لخطبته وكلمته هذه تأثير في الحضور الشبابي المتحمس، فخرجوا من الجامع ليجدوا سيارة عناصر مخابرات أمامهم، فهاجموها بالهتافات والحجارة. وبالتأكيد لم يقصد الشيخ إثارة مثل هذا التصرف المباشر، ولكن الكلمة الحماسية نار موقدة، لا يعرف ماذا تحرق؟ وماذا لا تحرق!؟

- من شروط إقامة صلاة الجمعة في الفقه الحنفي، أن تكون في مصر جامع، ولابد من إذن السلطان أو نائبه. ولهذا كانت صلاة الجمعة لا تقام في القرى التي تأخذ بالفقه الحنفي، والفتوى كانت على منع إقامة الجمعة في القرى. وكان ذلك يسبب قلقاً لي ولأمثالي من المبتدئين في طلب العلم، نظراً لتغير حقيقة هذين الشرطين، فلا المصر الجامع بقيت كما كانت، ولا القرية بقيت في وصفها السابق، فقد تغير وضع القرى بسبب فتح الطرق، ووصول الإنارة، والهاتف، وتقارب المسافات مع سرعة التنقل، وغير ذلك، ولا بقي السلطان ونائبه على ما كان، في أوضاع المسلمين الحالية. ولحرصي على إقامة الجمعة في قريتي كنت أناقش أستاذي الشيخ طاهر في هذه المسألة: من هو السلطان الذي يسمح أو يمنع إقامة الجمعة؟ هل هذا الشرط للقرى فقط؟ أم هو للمدن أيضاً؟ هل توقفت صلاة الجمعة في حلب أيام الاحتلال الفرنسي؟ وهل كان الاحتلال الفرنسي هو السلطان؟ وهل يعقل أن ترتبط إقامة شعيرة في الإسلام بإذن سلطان كافر؟ واليوم (عام 1970م) هل يعد الحاكم الذي لا يصلي (الخمس) سلطاناً ينتظر إذنه لإقامة الجمعة؟ ومن هو نائب السلطان؟ هل هو وزير الأوقاف؟ أو المفتي؟ أو المحافظ؟ أو رئيس البلدية؟ أو مدير الناحية أو المختار في القرى؟

وهكذا تتوالى الأسئلة مني وأستاذي الشيخ طاهر يسمعني بالحلم والصبر، ويجيبني إجابات مقتضبة، ونحن سائران من المدرسة باتجاه سوق المدينة الأثري، ثم قال: يمكنكم أن تصلوا.. وقال كلمة: (التلفيق)، ولم أدرك ما قاله تماماً، لأن الذي كان يهمني: صلوا الجمعة. ثم بدأنا نصلي الجمعة بعد الحصول على فتوى خطية من عمه الشيخ عبدالله خيراالله (رحمه الله)، مفتي الأحناف، وكان مكتبه في جامع العثمانية.

- كنت مع أستاذي الشيخ طاهر ننتظر الباص أو الترام في موقف جادة الخندق أمام شرطة النجدة بباب الفرج، (لمن يذكر ذلك القديم)، فتقدم رجل بلباسه القروي، واقترب من الشيخ طاهر وسأله مباشرة: شيخي.. أنت عالم!؟ كان السؤال مفاجئاً، فتوقف الشيخ طاهر ثانيتين، وقال: لا..! وانصرف الرجل. هذا الموقف لا يزول من ذاكرتي، ففي اللحظة المفاجئة لم يخطر لشيخنا أن يقول للرجل: ماذا تريد؟ ما مشكلتك؟ بدلاً من الإجابة عن سؤاله مباشرة، بالنفي: لا..

ولم تسعفني المفاجأة أن أتدخل لأقول للرجل مثل ذلك، أو لأقول لشيخي: لعله يريد أن يسأل شيئاً، وهو مؤكد. وملأ نفسي ذلك الموقف إكباراً وإعجاباً بأستاذي الشيخ طاهر إذ إن نفسه لم تتطاوعه أن يقول: نعم.. أنا عالم!.. فقال بملء فمه: لا!. رحم الله شيخنا وأستاذنا الشيخ طاهر خير الله، وأخلف المسلمين عنه وعن أمثاله خيراً.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين