صاحب الفرزدق ... العلامة الدالي ... وداعاً

هناك عرفتُه ... وفي ديوان الشيخ علي الصباح حزتُ شرفَ الجلوس بين يديه ... وفي طريقةِ كلامِه عاينتُ النفَّاخ ( على ما حُكي لنا من ذلك )... وفي تحقيقه تبيَّنتُ كيف يكون التحقيقُ على أصولِه ... وفي تعليقاته على أبيات الحماسة وشرحها المرزوقيِّ أدركت أيَّ علمٍ وفهمٍ كبيرين وراءَه ...

إنه أستاذُنا الدكتور العلامة المَجْمَعي ( عضو مجمع اللغة العربية بدمشق ) صاحبُ الفرزدق محمد أحمد الدالي ... الذي وفد على ربه صبيحةَ هذا اليوم بعد مُنازَلَةٍ قصيرةٍ مع داء كورونا، عافانا الله وإياكم .

أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويَصطفي *** عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّد

في يوم الأحد 7 / 12 / 2014م اصطفاني أستاذي ووالدي الدكتور محمد حسان الطيان فاصطحبني إلى ديوان الشيخ علي الصباح الأدبي في منطقة الدعية على شارع الخليج العربي الذي كان يقام مساء كل يوم أحد ، فيُقْرأ فيه شرحُ المرزوقيِّ على أبيات الحماسةِ لأبي تمام.

دلفتُ على وجل ، وتجولتُ بنظري في أرجاء الديوان ، وتأملت وجوه الحاضرين أبحث عنه بكل سرور ... فرأيت رجلاً عظيم الكتف ، شثْنَ الكفين والقدمين ، خشنَ الصوت ، حاني النظرة ، بشوش الوجه ، دائم البشر ، فقلت لشيخنا : هو ذاك ؟ قال : نعم ... إنه الدالي الذي طالما حدثتكم عنه ...

وبدأ المجلس فوراً ... وراح يُعَلِّقُ ... وفي المجلس أكابر القوم من أمثال الدكتور عدنان غزال ، والدكتور محمد فؤاد نعناع – وحضر مرة أستاذنا الدكتور فيصل الحفيان رئيس معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية بالقاهرة سابقاً، ثم في اصطنبولَ الآن – فالكلُّ يقيِّد عنه ، والكلُّ يسأله ، والكل يناقِلُه الرأيَ ، وهو في كل ذلك مبتسمٌ ، يتقبل القولَ الآخرَ ، ولا يتعصب لرأيه ، ويستعين بمخطوطٍ يحملُه الدكتورُ عدنان غزال ، في صورة قلَّ أنْ تجدَ لها مثيلاً اليومَ في عالمِ التعليمِ الخاصِّ أو العامِّ .

ولما ألقيتُ في عام 2019م محاضرةً بعنوان ( هلمُّوا نختلفْ ) في كلية الآداب من جامعة الكويت طلبتُ التجوُّلَ في أقسام الكلية ، وما القصدُ إلا زيارة الدكتور محمد الدالي والسلام عليه ، ولا تسلْ عن حسرتي إذ وجدتُ بابَه مُوصداً ، فقلتُ : قدَّر اللهُ وما شاءَ فَعَلَ .

ترك رحمه الله الكويتَ وجامعتَها في أوائلِ شهرِ آب ( أغسطس ) من عام 2020م، وعادَ السيفُ إلى قِرابِه، وحلَّ الليثُ منيعَ غابِه ، في مصيافَ التابعةِ لمحافظةِ حَمَاةَ ، حيث ألقى عَصَا التَّسْيَارِ ، وأقبلَ على صاحبِه الفرزدق، يجالسه ثانية، ويجاذبُه أطرافَ الحديثِ ، فقد طالَ انتظارُ الطلبة لهذا العملِ العظيم .

وبعدها وفي كل مناسبة كان أستاذنا الدكتور الطيان – حفظه الله - يحدثنا عنه وعن عمله على ديوان الفرزدق ... وأنه أمضى فيه خمسة عشر عاماً أو تزيد ، وأنه أمسى في الأمتار الأخيرة منه ... في الفهارس العلمية ... وكنا نترقب مِثله إخراجه إياه ... ولكن الموت اغتاله والمنية اخترمته ...

ولما سمعنا باقتحام الداء عليه حَوْزَتَه دعَونا ربَّ السماء له أن يَبَلَّ من مرضه، ويَتَعَافى من هذا الضيف الثقيل ... ولكن !!!

ولكن *** إذا جاء القضا ضاق الفضاء

وإذا المنية أنشبتْ أظفارَها *** ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

إن من يقرأ مقدماتِ كتب الدالي التي حققها يعلمُ أيَّ رجلٍ كان ... علما ً وفهماً ... وإخلاصاً لدينه ولغتِه وتراثِه ... ووفاءً لأشياخِه ...

يقولُ في مقدمة تحقيقه لكتاب ( أدب الكاتب لابن قتيبة ) :

ولم آلُ جُهداً في إخراج الكتاب على نحوٍ قريبٍ مما وضعَه عليه المؤلفُ ... وأرجو أنْ أكونَ وُفِّقْتُ في إخراجِه على نحوٍ يرضاه العلماءُ وتَقَرُّ بِه عينُ مؤلِّفه رحمَه الله .

وقال : وبعدُ: فإنْ كان لا يرادُ من الشكر توفيةُ حقٍّ أو قضاءُ دَينٍ؛ فإنني أتوجه بالشكر لمن شرفني الله بالتلمذةِ لهُ أستاذي إمامَ العربيةِ ، علَّامةَ الشامِ أحمد راتب النفاخ الذي كان – ولا يزال – المَفزع الذي أفزع إليه، والجبلَ الذي آوي إليه ، ولا أطمعُ أنْ أفيَه حقه ، فذلك ما إليه سبيل ، شَكَرَ الله له، وأثابه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم حفظه الله .

وليس شكري له بِمُحَمِّلٍ إيَّاه وِزر ما اقترفتُ مِن خطأٍ في الكتابِ ، فأنا المسؤول عما قد يقعُ فيه ، والإنسانُ خطَّاء. ( أدب الكاتب لابن قتيبة ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى عام 1982م - بتحقيقه رحمه الله ، ص: 5، 6).

وقال في مقدِّمته على الكامل : وقد لقيتْ الطبعة الأولى التي صدرت عام 1986 قبولاً حسناً ، أثنى عليها جماعةٌ من أهل العلم والفضل ، ورضي عن عملي فيها أستاذاي الكريمان الفاضلانِ العلامةُ الأستاذُ أحمد راتب النفاخ، والعلامة الدكتور شاكر الفحَّام، اللذان تولَّياني بالرعاية والتوجيه والتشجيع ، وأستاذي الذي تتلمذت عليه في كتبه ولمَّا أحظ بلقائه فخرُ أهل العلم في مصر العلامة الشيخ محمود محمد شاكر ، ولا يحيط شكري لهم بفضلهم وكرمهم ، ولكني لا أملك لهم إلا الشكر والوفاء ، شكر الله لهم وأثابهم وجزاهم خير الجزاء .

ولست أملك وقد اختار الله لجواره أستاذي علامة الشام وريحانتها وخزانة علمها أحمد راتب النفاخ يوم الجمعة 11 شعبان ١٤١٢ هـ / ١٤ شباط ١٩٩٢ م = إلا أن أدعو الله أن يتغمده برحمته ويرحمه رحمة واسعة ويجزيه الجزاء الأوفى ، إنه سميع مجيب . محمد أحمد الدالي ( مصياف ۱ حزیران ۱۹۹۲ م، 1 ذو الحجة ١٤١٢ هـ ) .

قال عنه أستاذنا الدكتور محمد حسان الطيان حفظه الله وهو العليم به الخبير :

هذا العلَم لا نظيرَ له في دنيا العربية ، ولو كنت أعلم له نظيراً لدللتكم عليه ، فإليه المنتهى في علم التحقيق والتدقيق ... لم أرَ عبقرياً يفري فريَّه، ولم أرَ قارئاً للغة العرب يفهم فهمه ، ولم أرَ محققاً في مخطوطات العربية يبلغ مبلغه... رضي بذلك من رضي ، وسخط بذلك من سخط.

و قال فيه : أ.د. محمد عبد المجيد الطويل عميد كلية دار العلوم بالقاهرة في تقديمه للحصائل : هذا السفر الجليل الذي يشرفني أن أقدمه لعشاق العربية عمل قلَّ أن نجد له نظيراً في هذا العصر ، هذا العصر الذي فشت فيه الرَّطانة ، واستشرتِ العُجمة ، وطغت العولمة بلغتها وثقافتها محاوِلةً طمس عروبتنا وهويتنا .

هذا العصر الذي صار فيه القابض على لغته كالقابض على الجمر ، يفجؤك صدورُ هذا العمل ، وهو جبل ضخم من جبال العلم العربي نحواً ولغة وأدباً وثقافة وبصراً بأساليبها ... إنه يذكرنا بعصور العربية الخالدة ، وشيوخها الكبار ، ولا يبعد أن تقول : هذا نفَس من أبي علي الفارسي ، وهذا مثَل من ثقافة ابن جني، مروراً بشيوخ العلم في العصر الحديث .

رحمك الله أبا أحمد ... وجزاك عن العربية وآدابها خير الجزاء وأتمَّه وأفضلَه ...

وأما أنت سيدي أبا عمَّار الطيان.. فلا أدري كيف أجزيك هذه اليد البيضاء ... لقد جعلتني أقول عن الدالي بدون تردد : (أستاذي الدالي )، هكذا بملء فِيَّ

ونُنْكِرُ إنْ شِئْنا على الناسِ قولَهم *** ولا يُنْكِرُونَ القولَ حينَ نَقولُ

ملاحظة : الصورة بكاميرتي

وفيها من اليمين : أستاذنا الدكتور محمد طاهر الحمصي – أستاذنا الدكتور فيصل الحفيان – العلامة الراحل محمد الدالي – أستاذنا الدكتور محمد حسان الطيان .

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين