ترجمة الأستاذ المحدث حسين سليم أسد الداراني(6)

بعض أفكاره ورؤاه:

إن نسيت فلا أنسي أبدا توجيهه لي ولإخوتي:

-اياكم النظر إلا إلى الذرا، واياكم طلبها بلا زاد، وإياكم وتضييع الجهود، فضياع الجهد اليوم سوف يقنعكم في الغد بالدون والقليل.

-كن الأول في ميادين الخيرات والأسوة والقدوة في كل معروف، ولا تنتظر من الآخرين شكرا ولا عرفانا، فالفعل المخلص والقول السديد باب للأجر يتعاظم إلى يوم القيامة.

- لا تطرب لمدح المادحين ولا لإطراء المطرين، فربَّ مدح كان أول مسمار في نعش إخلاصك وقبول عملك عند رب العالمين.

-دينكم حياة، كالماء العذب الزلال يروي كل عطشان فلا تقتلوه يقوالب من صنع أيديكم تنسبونها اليه وهو منها براء.

-دينكم حياة، وليس معرضا للانتقاء والاختيار، كل على هواه، خذوه كلا او دعوه، فهناك غيركم كثير (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).

-أطيعوا ربكم يطوع لكم كل من خلق، وبروا والديكم وأرحامكم يفتح لكم كل درب، ويزيل لكم من طريقكم كل نكد وعسر.

- ما من لحظة تفكر فيها بخير لغيرك، إلا وعبد مثلك يفكر بخير لك، فلا تجعل للشح طريقا اليك، فالله عزوجل لا يحتمل منّة عبده، بل سيعيد لك ما أنفقت أضعافا في دنياك مع الأجر يوم القيامة.

-طهروا مواضع أقدامكم قبل ان تنظروا ساحات الآخرين، فمن آاكم دون ما تحملون زهد فيكم وفيه.

-كل نظرة لمؤمن بسوء سهم قاتل، وقوس الله بالمرصاد وسهامه صائبات.

-كل خير في أفكار الأرض هو بقية من خير جاء به رسول، والعوج والعور الذي فيها هو نتاج البشر القاصرين، فلا تغر بأفكار الأرض وانظر إليها وقد تهاوت كزبد البحر عربد وعربد لكنه صار زيفا وذهب جفاء ولو بعد حين.

-دار المقامة أولا وآخرا هي الشغل الشاغل للأتقياء العاملين، والعاجز الغبي هو الذي استطاب المقام في مركب سيغادره، قصر الزمان عليه أو طال.

هذه نقاط غيث روى بها الوالد نفوسنا، وسطرها على صفحات قلوبنا وغيرها كثير كثير نسأل الله عز وجل أن نكون أهلا لما استأمننا عليه وأثابه عنا خير ما جزى والدا عن أولاده وبنيه.

أما عن بعض ما تميز به في عمله:

-كان ينظر في بداية كل عمل يريده:

هل اخذ هذا العمل ممن سبقه ما يستحق من الجهد وهل سيضيف عليه جديدا فإن رأى أنه سيفعل ذلك أقدم عليه واعتمد على الله خاصة إن كان هذا العمل بكرا لم تمتد إليه يد كأرض يستصلحها بيده ويضيف إليها ما يستطيع، فلم يكن يهمه أن يضيف إلى قائمة أعماله عنوانا جديدا يكون عبئا عليه وعلى المكتبة دون فائدة ولا طائل غير أنه مكرور بإصدار جديد، ولقد ظهر هذا في أجل كتبه: مسند أبي يعلى، وصحيح ابن حبان، وموارد الظمآن، ومجمع الزوائد الذي أخذ منه الوقت الكثير.

-ما من أحد الا ويؤخذ ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الرسول المبلغ الناصح الخاتم الأمين ،لا ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى ، ولهذا فلا يعني وصول أحد ممن سبق إلى غير ما وصل إليه عامل لاحق أن يشن التالي لسانه وقلمه عليه متجاوزا مادة الخلاف إلى الشخصنة والجرح والاتهام ، فهذا لا يتناسب مع قدسية العلم الذي يخدمه ويريد الحفاظ عليه، وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجميل أن يصل الإنسان إلى الحق والصواب موضحا عدم كمال أو خطا حكم وصل اليه آخر ولكن دون أن ينال من صاحبه جرحا ولا اتهاما فهذا لا يتناسب مع خلق العالم ولا علمه ولا تقواه ، ذلك أن كل العاملين في هذا الدرب هم اناس لهم من الحصانة ما يمنع من التهجم عليهم إلا بدليل يخرم عدالة المسلم المؤمن فيهم ،أما نتاجهم فهو عرضة للنقد والغربلة والتمحيص دون أي مهادنة أو مجاملة في دين الله ، وهذا ما يجعل لسان العالم وقلمه عفيفا حصيفا حليما متأنيا ، ولا نرى قلمه كسيف لوثته آثار الدماء ، ولا لسانه وهو يتلمظ من بقايا الدم لاك به شخوص الآخرين بلا هوادة، وكان الهدف صار هو النيل من العامل وليس تقويم وتصويب ما عمل من أسفار .

كما أن العامل في هذا العلم الجليل لا ينبغي له أن يرى نفسه الأوحد نضجا وكمالا، فلا سابق مثله ولا لاحق يمكن أن يتجاوزه، فالأول الكامل والآخر الكامل هو الله عز وجل لا يعتوره نقص ولا يمتد إليه خطأ ولا قصور.

فالعالم هنا تمتد يده برفق وعرفان ليتناول ممن سبق امانته، وتمتد يده برفق أكبر ولطف ورحمة ومراعاة لمن سيسلمه الراية بعده، كما تتصافح يداه الاثنتان بكل حب ووئام مع من عايشه وشاركه الصحبة والسير، ليكملا مع بعضهما الحفاظ على ثاني الوحيين سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.

ولهذا كنت أرى الوالد حينما يصل إلى خطا أحد يبديه دون جرح ولا نيل من صاحبه ويدعو له بالغفران والقبول، وإذا ما ناله أذى من أحد فلا تثور له عصبية ولا يشهر دون ذلك سيفا ولا سنانا، بل يدعو لمن نقده بالخير والجزاء الحسن إن أصاب، أو يوضح ما ذهب اليه إن كان أخطأ، ويدعو له بالهداية والصواب وسبيله في هذا المجال أن العمل هنا هو مظنة الأجر والمثوبة وليس ساحة لتضييع الأجر وهدر الجزاء.

-في مشكلة عمله في صحيح ابن حبان رأيته متألما أشد ما يكون الألم، وكان ذلك باديا في عدة مواطن مما كتبه، لكنني سمعته كثيرا وفي مواطن عدة يدعو بالغفران لمن كان السبب مسامحا وعافيا، ويقول: لو أنه استقبل من أمره ما استدبر لما أخذت تلك المشكلة هذا الحجم عنده فإنما المقصود هو الله وما عنده من أج،ر وما هذه الحياة الدنيا بكل ما فيها إلا لعب ولهو وزينة وتفاخر في الأموال والأولاد .

لكن هذا لا يعني أن تضيع الحقوق بل تبين بكل هدوء (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) ذلك أن رابطة العالم بما عمل أوثق من رابطة الدم والنسب، وما عمله هو أقرب من الولد ويدفع فيه الوقت والجهد والروح ويبذل عصارة العمل كله ليلا ونهارا ليصل إلى ما وصل اليه، ثم يأتي بكل بساطة واحد ينسب اليه هذه الثمرة وهذا النتاج !!!

ودور النشر والناشرون وأخص منهم ناشري العلم الشرعي قرآنا وسنة كان لهم النصيب الكبير من نصحه وملاحظاته ,فاصطفاء الله عزوجل لهذه الدار بنشر كتاب من الكتب أولا ، وإحسان الله جلت أسماؤه على صاحب الدار بالمال والثروة ثانيا لا يعني لهما بأي حال من الأحوال أن يضيعا الحقوق ، والحقوق ليست المال فقط ، بل الحق الأكبر هو نسبة الأمر إلى أهله ، وليس ما تفعله كثير من الدور لأغراض تجارية أو مراعاة وزلفى لصاحب مال أو جاه أو سلطة في نسبة الكثير من منشوراتها إلى من لا يعرف عن هذه المنشورات لا لبا ولا قشرا ، سوى أنهم مهروا اسمه على طبعة أنيقة جميلة وصلوا بها إلى ما يريدونه منه وهو المخدوع بزيف آني يضحك الجميع عليه بعد حين ، ويوقفه موقف خزي وعار يوم لا ينفع فيه جاه ولا مال ولا صولجان .

ثم إن كثيرا من العلماء الذين استأمنهم الله علمه ، وقيض لهم من يتعلم على أيديهم ، وينقل عنهم الأمانة ينسون أو يتناسون أن تعليم الطالب لا يعني طمس شخصه، وأكل حقه ، فكم من الأسفار المطروحة تحمل أسماء كبيرة والذين أنجزوها هم أناس آخرون كتب الله لهم العمل تحت إمرتهم إما ليتعلموا منهم أو حتى يتكسبوا لتدبير أمور حياتهم ، فيعملون ويعملون ويقوم العالم المشرف والدار الممولة بنسبة الأمر له دون مراعاة لحق ولا أمانة لأولئك المجهولين وذلك للدعاية والانتشار التجاري ، فالدار تفعل والشيخ صامت، والعامل المجهول صامت : مدرك متألم أو ساكت جاهل لا يريد من الغزوة الا الأجر والغنيمة .

وهنا كان الوالد يرى أن الجميع متهم في هذا الأمر: الدار والعالم والعامل الخفي ، وكل له في المسؤولية نصيب فلا تعني التجارة والرواج للدار أن تنسب الحق لغير أهله، وكيف يرضى العالم أن ينسب تعب غيره إليه والله عزوجل يرى ويسمع ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ), فلم لا يوضح مقدار عمله وحدود أعمالهم فيكون لكل ما فعله واضح للعيان ،أما ذلك الطالب المجهول فلا يعني عمله للأجر أو طلب العلم أن يرضى بنسبة ما أنتجه وبذل فيه عمره للآخرين مهما كانت الحاجة وعظمت الأسباب, ولا يعني ذلك مطلقا خروجا على آداب طالب العلم ولا نكرانا للجميل.

- يرى الوالد أن علوم الآلة الشرعية مثل علم مصطلح الحديث وعلوم الجرح والتعديل كما علم القراءات والتجويد وعلوم اللغة هي علوم شريفة وجليلة ، ولا ينقص من شرفها وقدسيتها كونها علوم خادمة لأمور أجل وأعظم وهي الكتاب والسنة ، فعلم المصطلح علم خادم للسنة الشريفة وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يحولن الاهتمام به دون الوقوف عند الهدف وهو الحديث نفسه وكونه حياة للأمة ونبراس لهدايتها واستقامتها ، وهذا ما نراه عند كثير من المحدثين الذين يصولون ويجولون في هذا البحر لكنهم في فهم ونقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو روح وحياة ليسوا على ما يرام كما كان الصحابة وتابعوهم أمثال سفيان وشعبة وعطاء ووكيع وأحمد والشافعي ومالك وعطاء وأبي حازم وعبد الله بن المبارك وغيرهم كثير وعلو كعبهم في علوم الحديث لا ينقص أبدا من كونهم قمما في العبادة والدعوة والجهاد .

وكذلك كثير ممن يهتمون بالتجويد والقراءات تراهم أساطين في هذا العلم آتاهم الله مزامير داوود تلاوة وترتيلا، لكنهم جهلة في كتاب الله وأبعد الناس عما فيه، اكتفوا منه بما يكفي للتكسب والارتزاق، وكأن كتاب الله غدا أناشيد لا يهمهم منها سوى المدود والألحان والمقامات.

لمثل هذا الأمر رأينا الأستاذ الداراني يكرر كثيرا بأنه يأمل ان يعطيه الله المزيد من العمر والجهد والعافية حتى يقف مع الأحاديث وقفة كاملة يولي فيها لمتن الحديث مناسبة ودراسة وعبرا ما أولاه للإسناد من دراسة، فيكون بذلك قد أعطى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يستحق من عناية.

وبذلك يكون كمن بنى السور المحكم المنيع لهذا الوحي، وسلط الأضواء على هذا القبس الهادي المبين لأسس الإسلام والمهدم لكل دعائم الكفر والضلال، فأسأل الله ان يمد له في عمره حتى يحقق ما يصبو إليه ويأمله في هذا المجال.

- وأخيرا وبعد هذه العجالة أقول:

لقد قدمت هذه الترجمة على عجالة من أمري، ولكني أسأل الله أن أوسعها وأعود للوقوف عند كثير من النقاط التي كنت فيها مرتحلا سريع الخطا أمر عليها مرور الكرام ، ونقاط اخرى ليس الوقت الآن مجالا لذكرها وتفصيلها ، مع الوعد بان أقدم دراسة موجزة عن كل مؤلف من أعماله ومنهجه فيه ، وليس فقط تعدادها دون أي تفصيل ،مع تقديم النقاط التي ميزت عمل الوالد كي أكون منصفا وراضيا عما كتبت عنه ،عساي بذلك ان أعطيه المكانة التي ينبغي أن تعطى له كخادم من خدام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمضى جل عمره فيها ،ورجائي ممن لا يخيب الرجاء عنده أن يجعل له ذلك جواز سفر إلى أعلى جنان الخلد مع الجند الأوفياء لهذا الدين مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ويكرمهم معه بالنظر إلى وجهه الكريم انه أكرم من يجيب . (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون).

والحمد لله رب العالمين.

الحلقة السابقة هـــنا