الشيخ مصطفى محمَّد صديق

الشيخ مصطفى محمَّد صديق الحسيني الحلبي الحنفي الرفاعي

(1379ـ1438) (1960-2016)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا ومولانا محمَّد وآله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن صحابته من الأنصار والمهاجرين.

أما بعد: فهذه ترجمةٌ موجزةٌ لوالدي فضيلة الشيخ مصطفى محمَّد صديق رحمة الله عليه.

اسمه: مصطفى محمَّد أحمد صديق، وينتهي نسبه إلى سيِّدنا الحسين بن أمير المؤمنين سيِّدنا علي بن أبي طالب، وسيدتنا فاطمة عليهم السلام.

والده: الحاج محمَّد صديق من أهل الصلاح وحب العلم، كان أمِّيًّا رحمه الله، واشتهر بالإصلاح بين الناس، وقد ورث الشيخ مصطفى هذه المزيَّة منه، حتى فاق والده، وعُرِف بذلك بين الخاصَّة والعامَّة، وأصلح بين الكثير.

والدته: الحاجة غبشة دادو، وكانت من الصالحات الذاكرات الله كثيرًا.

ولادته: ولد في الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة، في مدينة حلب، في حيِّ قارلق من أحياء حلب القديمة، يوم الجمعة 17/ رجب/ 1379 هـ، الموافق 15/1/1960.

دراسته وتلقيه العلوم: درَس في المدرسة الابتدائيَّة الحكوميَّة كعادة أبناء حلب.

ثم دَرَس في المدرسة الشعبانيَّة، وتخرَّج فيها، وتلقَّى فيها العلوم الشرعيَّة على علماء أجلَّاء لطالما اعتزّ بهم، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين، والشيخ بكري رجب، والشيخ محمَّد عوامة، والشيخ أحمد القلَّاش، والشيخ زين العابدين جذبة، والشيخ سامي بصمه جي، والشيخ ناصر الدين ناصر، وأجازوه.

وصحب بعضهم خارج المدرسة، وتلقّى عليهم بعض العلوم زيادةً عن مقرراته المدرسيَّة؛ لإشباع نهمه ورغبته في تلقِّي العلوم.

ودرَس على غيرهم، وأخذ عن علماء عصره كالشيخ عبد الفتاح أبو غدَّة رحمه الله، وغيره.

وكان شيخه الشيخ عبد الله موضع فخره بين أساتذته وأشياخه، دائم التوقير له وإن ذكره قال: شيخي أو شيخنا، وإن ذكر غيره قال: الشيخ فلان، وكان يعتز بتلك الإهداءات على أول صفحات الكتب التي ألَّفها الشيخ عبد الله سراج الدين، وكتب في أول صفحة منها إهداءً بخطِّه، يختصّ فيها الشيخ مصطفى ببعض الكلمات اللطيفة، وكان دائم التعظيم له والثناء عليه والاستشهاد بكلامه، واحترام أولاده وذريته ومدرسته، وكل ما يخصُّه.

وحفظ القرآن الكريم كاملًا، والمتون الشرعيَّة، وكان يراجع القرآن الكريم حتَّى آخر عمره.

ثمَّ توجَّه إلى مدينة القاهرة في مصر حيث جامعة الأزهر الشريف، وتفرَّغ للدراسة فيها، وتخرَّج في كلية أصول الدين، وكان حريصًا على حضور المحاضرات فيها طوال السنوات الأربع، مُقيمًا في حي مصر الجديدة طوال فترة الدراسة، على خلاف أغلب الطلبة فقد كانوا يذهبون فقط وقت أداء الامتحان، ولم يكتف بذلك، بل كان كثير الحضور على علمائها وأساتذتها، حريصًا على الإِفادة منهم قدر استطاعته.

وحاول أن يُكْمِل الدراسات العليا فيها، فحالت الظروف دون ذلك، فتوقَّف بعد أن نوى وشرع بذلك.

ثمَّ بعد فترةٍ حرص على إتمام دراسته العليا رغم مشاغلة العلميَّة والأُسَرِيَّة، فانتسب إلى كلية الشريعة في مدينة بيروت، لكي يُتمّ الدراسات العليا فيها ثمَّ لم يتيسّر له ذلك.

وبعد قيام الأزمة السوريَّة رحل بأسرته إلى مصر، وعاود التسجيل في الدراسات العليا، في قسم الحديث الشريف، كليَّة أصول الدين، جامعة الأزهر، حبًّا بالعلم وطَلَبِه، لكن قطعته المنية عن ذلك، ونسأل الله أن يحشره طالب علم.

كان رحمه الله من نوابغ الطلبة، فأحبَّه مشايخه وأساتذته، وتوطَّدت علاقته بهم من صغر سنه، واستمرَّت علاقته الطيبة بهم، وبقي على تواصل مع أبنائهم بعد انتقالهم لدار الحق.

نشاطه العلمي: درَّس في العديد من مدارس حلب، وعلى رأسها المدرسة الشعبانيَّة سنواتٍ طوال؛ فدرَّس فيها الفقه الحنفيّ (كتاب الاختيار)، والتفسير (تفسير النسفيّ)، والحديث الشريف (مختصر البخاريّ)، وقواعد الفقه (الأشباه والنظائر، والشمائل المحمديَّة، وحفظ القرآن الكريم، وكذلك في الثانوية الشرعية (الخسرفيَّة).

ودرَّس مادَّة التربية الإسلاميَّة في ثانوية الصقر، والعاديات.

أمَّ في بعض مساجد حلب، وخطب في بعضها، حتَّى استقرَّ به الأمر خطيبًا في جامع قارلق. وكان إمامًا لصلاة الفجر فقط في مسجد المدرسة الشعبانيَّة.

وبقي يصلِّي التراويح عشرين ركعةً خفيفةً في مسجد المَلَنْدِي، في حيِّ المشاطِيَّة، طيلة ثلاثين عامًا، ويعطي بعد التراويح درسًا لطيفًا، يذكر فيه تراجم علماء حلب وغيرهم.

وله دَرْسٌ أسبوعيٌّ يوم الاثنين في الفقه الحنفيِّ. ودَرْسٌ في الفقه في منزل والده، الحاج محمَّد صديق الكائن بحيِّ قارلق.

وكان عنده غرفةٌ في المدرسة الرِّضائِيَّة (جامع العثمانيَّة)، يلتَقِيَ فيها بعض أحبابه وطلَّابه، يتذاكرون العلم، ويراجع فيها محفوظاته من القرآن الكريم، ويسألون الشيخ رحمه الله في أمورهم الخاصَّة، ويسعى في قضاء حوائجهم، ويستفتونه في الأمور العلميَّة، والمسائل الفقهيَّة.

وعندما أقام في القاهرة في الفترة الأخيرة، قصده طلَّاب العلم وأخذوا عنه، فألقى دروسًا في الجامع الأزهر الشريف، في الفقه الحنفيَّ، فشرح من كتاب الاختيار كتاب الصوم والاعتكاف والزكاة، وقدَّم لدروسه بمقدِّمةٍ ماتِعَةٍ نافعةٍ عن الفقه الحنفيِّ.

وكذلك ألقى دروسًا عامَّةً في مسجد السلطان حسن في القاهرة، في شهر رمضان المبارك، وفي مضيفة الشيخ صادق العدويّ في القاهرة، واستجازه بعض الحضور فأجاز الموجودين بما صحَّت له روايته على عادة علماء السلف، وذكر عددًا من شيوخه ومشايخهم.

وقد التقى بعلماء أجلَّاء أثناء رحلاته، ففي مصر التقى السيِّد الشريف المفسِّر العلَّامة المُحَدِّث المحمَّديِّ محمَّد إبراهيم عبد الباعث الحُسينيِّ وتزاورا مرَّات عديدة.

والتقى بالشيخ علي جمعة مفتي الديار المصريَّة أثناء إلقاء درس الفقه الحنفي بالجامع الأزهر.

وفي رحلاته إلى الحجاز كان يحرص على الالتقاء بعلماء المدينة المنوَّرة ومكَّة المكرَّمة في كلٍّ رحلَةٍ، أمثال الشيخ السيِّد علوي المالكيِّ، والشيخ زكريَّا البُخاريِّ، والشيخ زهير الناصر، والشيخ محمَّد عوامة، وغيرهم، ويحرص على الاستفادة منهم والإجازة منهم.

رحلاته: لقد كان رحمه الله قليل الأسفار، إنَّما جاب الأراضي السوريَّة، وقابل علماءها، وأفاد منهم، وكذلك رحل إلى الديَّار المصريَّة مرَّات وكرَّات، وذلك أوَّل عهده بطلب العلم في جامعة الأزهر، ثمَّ توالت رحلاته إلى مصر قصد العلم، والزيارة، وقد رحل إلى الأراضي التركيَّة في سفرٍ سريعٍ.

هذا وقد أنعم الله عليه فحجَّ بيت الله الحرام مرَّاتٍ ومرَّات، أوَّلها عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، واستمرَّ على ذلك يحاول كلَّ عامٍ حتَّى قارب العشرين حجَّةً. ولم يمض عامٌ إلَّا وقصد زيارة بيت الله مُعْتَمِرًا.

شمائله ومزاياه:

كان رحمه الله مَقْصِد الناس في حلب للفُتْيا والسؤال، وقد عُرف بلطفه الشديد، وصبرِه على السائل، وأدبِه الجَمّ، وتواضعه الشديد.

وأعطاه الله القبول عند الناس العوامِّ، وبين العلماء، وأمام الطلاب، وعند الأقران وأولي الأمر، وقلَّما اجتمع هذا في أحدٍ من العلماء، وكان حضوره جميلًا خفيفًا، يحضر أعراس الناس وأفراحهم، ويعقد قِرانهم، ويعود مرضاهم، ويشيِّع جنازاتهم، ويحضر عزاءهم، ويخفِّف عنهم.

ولعل أشهر ما اشتهر به رحمه الله إصلاحه بين الناس في المنازعات الأُسَرِيَّة والتجاريَّة، ولطالما اشتهر بهذا، وعُرِفَ عنه ذلك، بل صار من أخصِّ مزاياه، ولكم حلَّ من مُشْكِل، وأصلحَ من مُعْضِل.

كان رحمه الله عفيف اللسان، عفيف اليد، جميل المظهر، مبتسمًا طول لقاءك به، بشوشًا مُبشِّرا، متفائلا بالخير، يُقبل على المتحدِّث بكليَّته، ويعطي وقته لزائره وسائله، ولمن قَصَدَه بخدمة.

وكان رحمه الله بيته مفتوحًا لطلبة العلم ولزواره، يحبُّه من يراه أوَّل مرَّة، لا تَملّ حديثه اللطيف، وكلامه المتنوِّع الطريف، يرحِّب بالطلاب، ولا يعبس بوجه أحدٍ منهم، ولا يعنِّف أحدا، ولا يوبِّخ ولا يشتم، فإن رأى ما يكره نصح ووجَّه بلطفٍ لا ترى مثله، ويبعث حديثه السكينة والطمأنينة، لطيفًا لا يُثقِل على أحدٍ، كريمًا متواضعًا.

كان رحمه الله مُحِبٍّا لسيِّدنا النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، موقِّرًا لجنابه الشريف، دائم الاحتفال بمولده الشريف، ويقرأ قصَّة المولد بنفسه، ويعظِّم هذا اليوم أيَّما تعظيمٍ ويحتفل به أعظم احتفال، ويحضر كلَّ احتفالٍ بالمولد.

كان رحمه الله يحبُّ العلم والعلماء، القدامى والمعاصرين، يقرأ سِيَرَهُم، ويحدِّث عنهم، ويشجِّع على الاقتداء بهم.

كان رحمه الله يحرص على أن يكون لطالب العلم حرفة أخرى يكتسب بها، ويعفُّ نفسه، فلا يحتاج لأحد، وكان هو القدوة فحاول في أمور كثيرة، حتى استقر الأمر ووفقه الله في مهنة التطريز الالكتروني.

أقواله: كان يحفظ الكثير من الشعر والقصص التاريخيَّة، والقصص عن مدينة حلب وعلمائها ومشايخها وكراماتهم، ويسرد القصص الشيقة عن لقاءاتهم كالشيخ عبد الله سراج الدين، والشيخ محمَّد النبهان، والشيخ عمر البوشي، رحمة الله عليهم جميعا، وغيرهم كثير.

ولطالما ردَّد على أسماع طلَّابه كلماتٍ سرَت بينهم مسار المثل السائر: التاريخ أبو الغرائب والعجائب، التاريخ محكمةٌ متناقضةٌ، الإنسان الناجح هو الإنسان الواضح، السيدة فاطمة تعرف أبناءها.

زوجته وأولاده:

وتزوَّج من السيِّدة الشريفة فاطمة ناصر ابنة أستاذه الشيخ ناصر الدين ناصر رحمه الله.

وأنجب منها أبناءه السبعة:

الفقير إلى عفو ربِّه محمَّد، أكبر أبنائه درَست في الشعبانيَّة وتخرَّجت فيها، ثمَّ لما تخرجت عمَّمني بيده، وناولني الخرقة الشريفة، وأجازني إجازة عامة وخاصة بكل ما أجيز به من أشياخه، رواية ودراية، معقولا ومنقولا، في الحقيقة والشريعة، ثم انتسبت لجامعة الأزهر الشريف، وتخرجت فيها، وزوجني من ابنة الشيخ عيسى محمد علي .

عبد الله، درس في الشعبانيَّة، وأثناء الأزمة لم يقدر على إكمال دراسته فيها؛ ولما قدموا مصر أتم دراسته في الأزهر الشريف.

ناصر الدين، أصغر أولاده خرج من سوريا طفلا إبان الأزمة، ودرس في الأزهر الشريف من أول مراحله.

عبير، تزوَّجها السيد محمد دقنيش، عمل في تجارة الخيط، وبعض الأعمال الحرة، وأكرمها الله وأكملت دراستها في جامعة الأزهر الشريف وتخرَّجت فيها.

نور تزوَّجها السيد حازم كتلو، خريج جامعة حلب كلية الاقتصاد، ويعمل في المملكة العربيَّة السعوديَّة، في مجال تخصصه، وأكرمها الله وتخرَّجت في جامعة الأزهر الشريف.

راما وأكملت أيضا دراستها في جامعة الأزهر الشريف. تزوَّجها السيد بكر شوا وهو من طلاب المدرسة الشعبانية، وأتم دراسته في جامعة الأزهر الشريف وتخرّج فيه، ثم انتسب لقسم الدراسات العليا.

فاطمة وأكملت أيضا دراستها في جامعة الأزهر الشريف. تزوَّجها السيد عبد الرحمن اليوسف، وهو من طلَّاب المدرسة الشعبانيَّة، وأتمَّ دراسته في جامعة الأزهر الشريف، ثم نال درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من جامعة الدول العربية.

وكانت هذه أمنيته رحمه الله أن يدرس أولاده العلم الشرعي، وكان من جملة حديثه قوله: الحمد لله السبعة طلاب علم في الأزهر الشريف.

وكان محبًّا عطوفا حنونا يُضرب المثل به، لا يذكر أولاده إلا وقرنهم بالرضا، وعطف بالدعاء.

مرضه ووفاته:

وقبل وفاته بأيام أبلغه بعض أحبابه برؤيا مُبَشِّرَة من سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمَّ انتقل إلى رحمة الله تعالى في أرض مصر، ودُفِن بالقاهرة بعد مرضٍ لم يطل. رحمه الله رحمةً واسعةً وأعلى درجاته في جنات النعيم، وكانت وفاته في الثاني من صفر 1438، الموافق 2/11/2016، عن ستٍّ وخمسين عامًّا.

وبعد وفاته ذكر أحد الحاضرين أنه لمس حضورًا نبويًّا أثناء قبض روحه، وكذلك بقيت تفوح رائحة كأنَّها المسك يشمُّها الإنسان من خارج المنزل تفوح من مكان سريره، ولا عجب، فقد بقي يراجع القرآن الكريم حتى آخر لحظة، وقُبِض وهو طالب علم، وهو من نسل أهل البيت عليهم سلام الله؛ مع ما أوردته من ترجمته.

وفي الختام هذا ما جاد به القلم، وأسعفت به القريحة من ترجمة والدي رحمه الله، والحمد لله الذي بنعمته تتمِّ الصالحات، وصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنا ومولانا محمَّدٍ وآله.