ترجمة الأستاذ المحدث حسين سليم أسد الداراني (2)

الجامعة وتحديد الاتجاه:

لقد كانت الفترة ما بين 1960 إلى عام 1980 ميلادية تقريبا، هي فترة البناء والنضج على جميع الأصعدة، ففيها أتمَّ دراسته الجامعية، وفيها ترسخت مكانته كمدرس للغة العربية يشار له بالبنان، وفيها كذلك وضح حجمه الاجتماعي وتأثيره فيمن حوله، ولا يمكننا الفصل بين المرحلتين لأنهما متداخلتان ،فللتدريس أثره، وللجامعة أثرها فمضى في الجامعة حاملا رصيد تفرده في بيئة قلَّ فيها المتعلمون متجاوزا الكثير من الصعاب التي يعاني منها كل داخل إلى واقع جديد ومن بيئة إلى بيئة مغايرة ،إضافة إلى الخوف من الجامعة التي كانت رمزا كبيرا أمام كل المتعلمين .

دخل الجامعة، وأثبت فيها قدراته، وقضى سنواتها دون أي رسوب، وزاده هذا الأمر ثقة على ثقة وثباتا على ثبات، تعرف فيها على الكثيرين سواء في كليته أو غيرها من الكليات وتعامل مع أساتذة أجلاء كان يذكرهم أمامنا على الدوام، فتأثر بهم ونهل من علومهم وتوجيهاتهم وإرشاداتهم نحو كثير من المصادر التي كان يقتنيها شيئا فشيئا وهذا ملكه ثروة وإمكانية للمحاججة ومبادلة الرأي بالرأي وتوسيع المدارك وزيادة الطاقات.

إن بنيانه السابق وبداياته عند مشايخ الكتاتيب كونت لديه نواة لتوجهه المستقبلي ، نماها اختصاصه في اللغة العربية التي لا يمكن للجاد بدراستها أن يتم ذلك إلا بالتعامل مع القرآن والسنة وما تفرع عنهما من علوم، سواء كانت علوم الدين بالذات أم علوم الأدب واللغة والبلاغة والبيان، ولم يكتف الوالد بهذا بل تجاوزها -والفترة فترة انتشار الفكر الدخيل والإلحاد بين الشباب- ليدرس الأفكار الدخيلة ويدخل في معترك المقارنة والتدافع الفكري، مما جعل لذلك أثرا في بنيانه العقيدي والثقافي الإسلامي الذي وضح في كل مجالات حياته فيما بعد.

ولعلَّني أستطيع القول وأنا أول أولاده -ولدت عام 1957 ميلادي أنني بت من بداية هذه الفترة شاهدًا ومعايشًا لهذه الأحداث التي كانت تتنامى وتتَّضح كلما تتالت الأيام.

في الجامعة وكما ذكرت سابقا: تأثر بالكثيرين من أساتذته أمثال الدكتور صبحي الصالح، وعمر فروخ، وسعيد الأفغاني، وراتب النفاخ كما كان يذكر غيرهم في فروع أخرى كالشريعة مثل الدكتور مصطفى السباعي، والدكتور أمين المصري، والشيخ ناصر الدين الألباني وغيرهم كثير، كما كان يذكر الكثيرين من مخالفيه ممن لمع نجمهم في تلك الفترة.

كان من الذين تعرف عليهم في الجامعة ولازمهم فترة طويلة فيما بعد الأستاذ محمد حسن شراب الموسوعي الفلسطيني الذي كان يرى في الوالد صاحبا ورفيقا وشقيقا مثل كثير من المثقفين من أبناء داريا ومن دمشق وغيرها توزعوا في شتى الأماكن والمراكز والبلدان.

التدريس:

كان التعليم بالنسبة للوالد رسالة، والمدرسة مكان تربية وإعداد للجيل، ولهذا كان الطلاب بالنسبة إليه أمانة ورعايتهم مسؤولية، فحمل ذلك على عاتقه بإخلاص وجد وأثناء تأديته لهذا الواجب احتكَّ بالكثير من أجلاء الأساتذة وصاحبَ كبار المدرسين في دمشق ولمع نجمه هو في مجاله مدرسا مؤثراً محبوباً رغم قسوته في بعض الأحيان.

أحبَّه طلابه وتأثروا به حيث كان لهم المدرس والأب الرفيق، ولا زلت أذكر كيف كان يعد لكل طالب دفترا خاصًّا به يصدره بصورة له، ويطلب منه أن يكتب رأيه في أبيه وأسرته وإخوته ومدرسته ومعلميه وما يحبه وما يكرهه، ويطلب منه أن يجعل هذا الدفتر سجلا يلخص به كتبا وقصصا تزيد ثقافته وتهذب تربيته وترقي فعاليته في بلده ووطنه.

ولقد اتضح تأثيره هذا فيما بعد حينما كبرت وإخوتي فما نزلنا منزلا إلا وكان لنا فيه معين ودليل يذكر والدنا بخير، وكم من المرات التي كنت فيها معه فيبادرنا أناس لا يعرفهم ولا أعرفهم، يقبلون يده ويذكرونه بأنهم كانوا طلبة عنده، وأن نصائحه لهم وأحيانا عقوبته لهم جعلتهم ناجحين في ما كانوا يذكرون له من مجالات.

كان مؤثرا في الطلبة وفي الأساتذة والمديرين، وكان المديرون والموجهون يهتدون برأيه في حل بعض العقد والمشاكل، وكذلك الأساتذة الذين يكنون له احتراما مجبولا بالحب أو مجبولا بالخوف لسلاطة لسانه ونقده اللاذع، وهنا تعرف على كثير من الأساتذة الذين استمرت علاقته بهم كالأستاذ محمد خير أبو حرب صاحب المعجم المدرسي، والأستاذ عبد العزيز رباح رحمهما الله، وكثير من مشايخ دمشق الذين صار لهم شأن فيما بعد.

لم يكن عمل الوالد في دمشق يثنيه عن خدمة أهل بلده وطلابها بعد أن عرفوا بلاءه في التدريس وخاصة أيام الامتحانات والشهادات فقد كان يفتح باب بيته أيام الامتحان طيلة الوقت يجيبهم عن أسئلتهم ويشرح لهم بعض موادهم ويتوقع لهم أسئلة الامتحان، وهنا كان لا يرد أحدا ولا يأخذ مقابلا وما من طالب في داريا آنذاك إلا ويعرف له هذه الخلة وهذا العطاء.

إن كل هذا النشاط في الجامعة والمدرسة والبلد وكثرة حواراته وردوده على من يحمل آراء مغايرة في شتى الاتجاهات جعله هدفا لكراهية بعضهم مما عرضه لوشاية أو دس أو عداوة، ولهذا تعرض للاعتقال عدة مرات كانت لا تطول حينما كان يتبين أن وراء الوشاية حاسد أو مبغض أو عاجز عن مجاراته فأراد بها النيل منه والتشفِّي والانتقام.

يتبع

الحلقة السابقة هـــنا