رحيل نابغة الأصول أ.د عبد المعز حريز

له عينان ذكيتان لا تخطئهما العين الواعية، مزروعتان في عقل بصير وذروة جسد نحيل قصير، وبكلمات قليلات منه ينكشف لك مكان الرجل ومكانته فهو متحدّث وازن، قويّ البيان، سريع السرد، واثق الاستدلال، يصْدر عن قناعة مجرَّبة، ورأيٍ مدروس... وقد منحه علم الأصول الذي تخصص فيه، وملأ عليه حياته، منهجية حكم واستدلال وازنة، وهو علم تحوّل في حياته إلى فن وشخصيّة، حتى إن معرِّفه السرّي وحسابه الشخصيّ على الفضاء الأزرق الذي كان يتحرك فيه كان "علم الأصول"، ولم يحوّله إلى اسمه إلا قبل أشهر معدودة قليلة.

لم يكن الرجل أكاديمياً عاجيّاً، ولا تربويّاً تقليديّاً، بل كان مدرسة منهجية تتطلع إلى التغيير، وسعى إلى ذلك بعقل مفتوح، وخطوات محسوبة، ولعل أكبر منازله التي كان فيها سيّداً مؤثراً كان في مربع القضاء الحركيّ الذي وضع نظامه وأركانه مع ثلة من إخوانه، وناقش قضاياه الخطيرة، وتقاطعاته الحسّاسة، وظلّ صابراً في هذا المربّع الصعب حتى وجد أنه أدّى أمانته فيه، وبلغ فيه أقصى ما يمكن أن يقدّمه.

كنا نحبّ أن نتداول في قضايا التجارب الحركية، وعوامل ظهورها وضمورها، وكيفية تأطيرها وتسييجها، أو وضع إطار فكري لفهمها، ولولا خصوصية التجارب التي كان يطّلع عليها لأخرج لنا الرجلُ كنوزاً من النقد التجريبيّ المستنِد إلى معطيات حقيقية غير مصنوعة أو متكلّفة أو متوّهمة.

كان هذا الأصوليّ المفكّر واحداً من رموز الفضاء التخبويّ، وأتمنّى على إخوانه الذين رافقوه في ميدان هذا العمل أن يكتبوا عنه، ويدوّنوا تجربته ومنهجه، ولعل أكثر ما كان يشغلني أنا وإياه في كيفية تفهيم المنطق الحركي لكل الكوادر، وكيف نُخلّق ثقافة تنظيمية مؤسَّسة، وما هي مصادر هذه الثقافة، وكيف يمكن أن نتجنّب ثقافة المغامرات والانطباعات الشخصية والأفكار الشعوريّة التي غزت الفكر الحركيّ... وبدأنا مشروعاً معاً في جمع المصادر، والإشارات إلى هذا الفن من الكتب المتقدمة، إلا أننا توقّفنا لانعدام الغطاء.

وكان يحثّنا كثيراً على استمرار العطاء والمبادرة بالمحاضرات والدورات والانفتاح على أوسع جمهور، وكان يدعمنا كثيراً في مواجهة بعض الأصوات المتكبّرة أو الحاسدة أو القاصرة، ويكتب لنا ويحدّثنا عن عزائم الصبر، ومنازلة المنافرات، وتجاوُز المهاترات.

ثم لمّا مِلْنا إلى أنفسنا منذ دهر قريب مضينا معاً نتشاور في همسات القرآن، وظلاله المستورة التي لا تنكشف إلا على الخاصة من أهل العلم والتدبّر والبيان، وقد شاركني في بدايات تنظيره لمشروعه الكبير في أحد فروع الإعجاز البيانيّ في القرآن الذي وضع له هذا الوصف: " البُعد الزماني للحرف في الكلمة القرآنية" وتواعدنا أن نؤصِّل فيه، وكتب لي في ذلك مفاتيح نظريته، لكن الكورونا أصابت بيته أولاً ثم تبعها هذا المرض العضال الذي أقعده وأخرجه عن جوارحه حتى كتب الله له الراحة والقرار، واختاره الله إلى جواره مرحوماً مغفوراً له إن شاء الله.