عمر معروف البوشي

1310 ـ 1396 هـ

1892 ـ 1976 م

الشيخ عمر بن الشيخ عبد اللطيف بن الحاج عمر معروف البوشي الحلبي.

عالم عامل، وصوفي مرب مرشد، شيخ الطريقة (النقشبندية) في مدينة حلب.

ولد الشيخ المترجم له في حي (قاضي عسكر)، أحد أحياء مدينة حلب القديمة، سنة: عشر وثلاثمئة وألف للهجرة، في أسرة عرفت بالتقى والصلاح، فوالده الشيخ عبد اللطيف، أحد شيوخ الطريقة (النقشبندية) رجل بسيط، يعمل نسّاجاً على آلة النسيج القديمة (النول العربي)، في منزله المتواضع المؤلف من غرفتين، جعل إحداهما للعمل، وترك الثانية للإقامة والمبيت.

ونشأ الشيخ عمر في حجر والده الذي اعتنى به، ولقنه مبادئ العلوم العربية والشرعية، ولمّا بلغ سن البلوغ، قدمه إلى شيخه الشيخ محمد زاهد البنقسلي، الذي لقنه الذكر، وأذن له بأوراد الطريقة (النقشبندية)، واعتنى بتربيته وسلوكه وإرشاده.

ولمّا بلغ المترجم له الثانية والعشرين من عمره، دقت طبول الحرب العالمية الأولى (السفر برلك)، وأعلن النفير العام في أرجاء السلطنة العثمانية، ودعي الشاب للالتحاق بصفوف الجيش العثماني، وخاض غمار هذه الحرب في فلسطين، ولاقى فيها من الأهوال والخوف والجوع ما لاقى، ثمّ نجّاه الله منها، وعاد إلى موطنه ماشياً على قدميه محتملاً من المتاعب والآلام والمشاق ما لا يعلمه إلا الله.

وبعد عودته من هذه الحرب، وكان قد قارب الثلاثين من عمره، طلب منه والده التوجه لطلب العلم الشرعي، فانتظم طالباً في المدرسة الرضائية (العثمانية)(1)، وراح يقرأ فيها مختلف العلوم الشرعية والعربية، على شيوخها الأفذاذ، أمثال: الشيخ بشير الغزي، والشيخ حسين الكردي، والشيخ محمد الزرقا، وغيرهم من الشيوخ، ثمّ انتقل إلى المدرسة (الدليواتية)(2)، وأخذ يحضر دروسها على شيخها، الشيخ أحمد المكتبي الكبير، وقد عانى الشيخ المترجم له أثناء طلبه العلم، الكثير من المصاعب والحرمان، وتحمل آلام الجوع لفترات طويلة، صبراً على طلب العلم، وكثيراً ما حدثّ الشيخ تلاميذه عن هذه المرحلة من حياته بقوله: (عندما كنت مجاوراً في المدرسة (العثمانية) كنت أشتري في الأسبوع سبع رمّانات، أضعها في غرفتي، وكنت كلّ يوم أقتات برمّانة واحدة، وبقيت على هذه الحال مدة من الزمن)(3)، ويقول في موطن آخر: (كانت تمر بنا أيّاماً، لا نجد فيها طعاماً إلا الماء المضاف إليه قليلاً من اللبن، ليتغير لونه فقط مع شيء من الخبز).(4)

وكان الشيخ مع طلبه للعلم، لا ينقطع عن خدمة والده، والعمل معه سواء في العمل على آلة النسيج اليدوية ـ النول العربي ـ أو في مجال الدعوة والإرشاد، كما لم ينقطع عن الاتصال بشيوخه المرشدين في مجال الطريقة والتصوف، أمثال الشيخ أحمد الصديق النقشبندي، والشيخ العالم الزاهد أحمد الخضر، وغيرهم من شيوخ الطريقة (النقشبندية)، وقد وصل الشيخ المترجم له إلى مقام الإرشاد والتربية والتسليك في حياة والده، الذي أذن له بذلك قبل وفاته، سنة: إحدى وستين وثلاثمئة وألف للهجرة.

وفي هذه المرحلة من حياته، شدّ الرحال لأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام على قلة ما يملك من المال والمتاع، وكان السفر لأداء هذه الفريضة بواسطة الجمال، وقد عانى في طريقه معاناة عظيمة، سهلها عليه شوقه لبيت الله الحرام، وزيارة قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام.

وبعد وفاة والده، نهض بأمر الدعوة والإرشاد بكل همة واقتدار، فكانت له مجالس علم في جامعه (جامع قاضي عسكر)، يقرأ فيها لطلابه ومريديه دروس التفسير والحديث والفقه والنحو والتصوف وآداب القوم، كما كانت له مجالس ذكر وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يومي الاثنين والخميس، وكان لا يتوانى عن قراءة ختم السادة النقشبندية (الخواجكان)(5) كلّ يوم بعد صلاة العشاء، أما بقية أوقاته فكان يقضيها بالعبادة والذكر وقراءة القرآن الكريم، وقضاء حوائج الناس، والصلح بينهم وحلّ مشاكلهم الشخصية والاجتماعية.

وكان - رحمه الله - يحبّ مجالسة الفقراء والمساكين وأرباب المهن والعامة، ويرى فيهم المجال الأرحب لدعوته، فهو يقول: (أنا لا أريد العلماء والفقهاء، لأنهم ليسوا بحاجة للإصلاح، بل أريد العصاة والمذنبين والجاهلين، كي أدلهم على الصراط المستقيم، وأرشدهم إلى مزايا الدين القويم)، وربما اصطحب بعض تلاميذه إلى مقبرة والده، وجلس معهم يقرأ لهم في بعض كتب التصوف، ويقول لهم: (ليس لأحد فضل علينا في مجلسنا هنا، نحن نجالس أقواماً لا يؤذوننا إذا حضرنا، ولا يغتابوننا إذا غبنا)، وكان يجعل من هذا المجلس فرصة مناسبة للوعظ والإرشاد والتذكير بالموت وما بعده.

واشتهر الشيخ في المدينة وذاع صيته في كلّ أرجائها، وكثر طلابه ومريدوه وأحبه الناس عامتهم وخاصتهم، كما أحبه إخوانه من العلماء، وأجمعوا على قدره وفضله، وقامت بينه وبينهم علاقة ودّ وأخوة وصداقة حميمة، منهم: الشيخ أحمد شهيد، والشيخ محمد الشامي، والشيخ محمد النبهان، والشيخ عبد الله سراج الدين، والشيخ حسين المجدمي، والشيخ محمد مراد، والشيخ حسن الحساني، والشيخ عبد القادر عيسى، والشيخ المفتي محمد الحكيم، والشيخ محمد أديب حسّون، والشيخ عبد المطلب حمّاض، والشيخ عبد الله سلطان، والشيخ محمد ناجي أبو صالح، والشيخ عبد الله ريحاوي ـ رحمهم الله تعالى جميعاً (6)ـ والشيخ زهير الناصر، والشيخ عبد المجيد معاز، والشيخ أحمد أنيس، والشيخ عبد العزيز بوشي، وغيرهم من العلماء، وكان كثير منهم يزوره في مسجده، فيحتفي بهم احتفاء يليق بقدرهم ومنزلتهم العلمية، ويقدمهم إلى تلاميذه بالإكرام والتبجيل.

طيب القلب، حسن السمت، طويل الصمت، حسن الخلق، كثير الوقار والحياء، عفيف النفس، طاهر القلب واليد، عالي الهمة، دائم الذكر، مواظب على العبادة، شديد الصبر، لا يشكو هماً ولا كرباً، لا يقابل السوء بالسوء، بل يعفو ويصفح، يكره الغيبة في مجلسه ولا يرضى بها، كلّ ذلك مع تواضع جمّ للصغير قبل الكبير، وقد ذكر له كثير من الكرامات والمكاشفات(7).

بقي الشيخ على أخلاقه وأحواله هذه إلى قبيل وفاته بعامين تقريباً، حيث لزم بيته، وأقام في عزلة عن الناس، انقطع فيها إلى الذكر والعبادة، لا يزوره إلا أقرب المقربين إليه إلى أن أدركته المنية، في بيته في مدينة حلب، مساء يوم الأحد، الواقع في الخامس من ذي الحجة، سنة: ست وتسعين وثلاثمئة وألف للهجرة، وعمّ الحزن أهله وأصحابه ومحبيه، بل والمدينة كلها، وفي اليوم الثاني شيع الشيخ بجنازة حافلة، حضرها جلّ علماء المدينة، وحمل النعش على الأكتاف من بيته إلى جامع (قرلق)، حيث صلي عليه هناك، وكان الإمام في الصلاة عليه أخوه العالم الجليل المقرئ الشيخ محمد مراد - رحمه الله - ثمّ حمل النعش على أكتاف إخوانه من العلماء وطلاب العلم وجمهور غفير من تلامذته ومحبيه في موكب مهيب إلى جامعه (جامع قاضي عسكر)، ودفن هناك بين دموع محبيه ودعاء إخوانه. - رحمه الله -

وبعد وفاته بأيام أقيم له حفل تكريم وتأبين، أشاد فيه إخوانه العلماء والخطباء بسيرته ومناقبه، وألقيت في الحفل قصائد الرثاء المؤثرة.

ومن الشعراء الذين رثوا الشيخ، أخوه وصديقه الشيخ بكري رجب - رحمه الله - في قصيدة مؤثرة، نقتطف منها هذه الأبيات:

خطب أجلّ أناخ في الشهباء= فتبدلت أفراحها بعزاء

وتفاقم الكرب المبرح في الملا= بفقيدها المعروف ذي النعماء

(عمر) هو (البوشي) فخر هداتنا= أكرم به من خيرة النبلاء

النقشبندي الجليل المقتفي= أثر الرسول بهمّة شمّاء

عمرت به الألباب فهو يقودها= لعمارة الأخرى بغير مراء

وبه تعمّرت المجالس بالتقى= فلذا نراها في أتمّ صفاء

أخلاقه خلق النبي المصطفى= وأنعم بتلك الشيمة الغراء

متواضع، متخضع، متخشع= صافي الضمير كسلسبيل الماء

أسفاً على تلك المكارم تنطوي= في الترب تثوي ولات حين لقاء

إن المصائب في البرايا جمّة= وأجلهنّ مصيبة العلماء

يا ربّ روّ ضريحه بمكارم= تترى بكلّ صبيحة ومساء

واجعله من رفقاء أحمد دائماً= في جنة الفردوس والنعماء

وأعد علينا من مناهل فضله= بتكرم يا أرحم الرحماء

ما قال بكر في الرثاء معزياً= يرثي فقيد العصر في الشهباء

ومنهم الشاعر الأستاذ ضياء الدين صابوني، في قصيدة طويلة نقتطف منها هذه الأبيات:

هذا التقي الذي باهت به حلب= وعزت الشام وازدانت به القطر

فقيدنا المرشد المحمود مرشدنا= فقيد أمتنا ما عابه بشر

كم من مجالس ذكر راح يبعثها= جمّ التواضع للرحمن منكسر

من للطريقة إن ما غاب فارسها= من للمريدين والإخوان يا (عمر)

شيخ جليل يلوذ العارفون به= قد طاب عنصره والفضل منتشر

كم روعت حلب الشهباء في (عمر)= وكم تناقلت الآثار والخبر

هذا رثاؤك خذه اليوم من كبدي= إن القلوب من الأحزان تنفطر

إلى أن يقول:

وتنتشي بكم الأرواح وهي ترى= هذا الجلال وما في صفوه كدر

يا شاعر الدعوة السمحاء تكرمة= هذا مقامك خير الشعر مبتكر

دع القلوب تفيض اليوم من ألم= دع العيون على البوشيّ تنهمر

يبكي الفؤاد ولم تشعر بدمعته= والعارفون قليل ما همو شعروا

يا سيدي يا إمام الدين معذرة= إن قصر الشعر أو خانتني الفكر

ما قلته فيك عن حبّ وعاطفة= فحبكم في قلوب الأوفيا قدر

نم هانئ البال مرتاح الضمير فقد= حظيت بالخلد والغفران يا (عمر)

صلى المليك على طه وعترته= وصحبه الغر ما آووا وقد نصروا

والراشدين وآل البيت أجمعهم= والصحب ما دارت الأفلاك والعصر

ـ جامع قاضي عسكر وقد دمره الطغاة الحاقدون على المسلمين ـ

المصادر والمراجع

1- ترجمة خطية تفضل بها الشيخ محمد خير حلواني إمام جامع قاضي عسكر.

2- مقابلة شفهية مع بعض شيوخنا نذكر منهم: الشيخ محمد أديب حسّون، والشيخ محمد زين العابدين الجذبة، والشيخ محمد عثمان بلال، رحمهم الله.

3- مقابلة شفهية مع الشيخ مصطفى صدّيق.

4- مقابلة شفهية مع الأستاذ سعد الله برم.

(1) أنظر حديثنا عن هذه المدرسة في كتاب (التعليم الشرعي ومدارسه في حلب في القرن الرابع عشر الهجري) ص. 51.

(2) انظر المصدر السابق ص 58.

(3) عن ترجمة خطية تفضل بها الأستاذ الشيخ محمد خير حلواني.

(4) المصدر السابق.

(5) أنظر حديثنا عن هذه الطريقة في ترجمة الشيخ محمد أبو النصر خلف الحمصي في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 182.

(6) أنظر ترجمات هؤلاء الأعلام في مكانها من المصدر السابق.

(7) أعرضت عن ذكر هذه الأمور تمشياً مع منهجي في الكتاب.