الشيخ يونس دميرجي المهاجر الصالح والكتبي الناصح

والدي رحمه الله تعالى ولد في قرية سنجار بولاية أنقرة في عام 1925 م تقريبا. ونشأ فيها، وحفظ القرآن في سنّ مبكرة. فقد كان والده_ جدي_ نوري دميرجي إماما في القرية، فأورث ابنه حب القرآن منذ طفولته.

وعمل في شبابه بتحفيظ القرآن لأبناء القرية والقرى المجاورة، وتزوج من القرية، وأنجب خمسة أبناء، توفي اثنان منهم صغارا، روت أمي _ رحمها الله _ أن أحدهما كان اسمه عبد الخالق.

وفي أوائل الخمسينيات هاجر والدي إلى سورية لطلب العلم الشرعي. فقد كان التعليم الشرعي في تركيا محظوراً مضيَّقا إلى أبعد الحدود. فقد ضيق الخناق على والدي بسبب تعليمه القرآن. واستدعي إلى المخفر مرات عديدة بتهمة تعليم القرآن.

واستقر في حلب، وانتسب إلى المدرسة الشعبانية بحي الفرافرة. وهي إحدى المدارس العثمانية التي أنشأها العثمانيون في حلب مثل الخسروية والعثمانية والبهائية، وكثير غيرها.

وتلقى فيها العلوم الشرعية والعربية على أيدي فضلاء علمائها، ومنهم: الشيخ محمد أبو الخير زين العابدين، وأخوه الشيخ عبد الرحمن زين العابدين، والشيخ عبد الله سراج الدين، والشيخ عبد الوهاب سكر، والشيخ بكري رجب، والشيخ أحمد قلاش، والأستاذ أمين الله عيروض، والشيخ محمد الملاح، والأستاذ سامي بصمه جي رحمهم الله جميعا ونور قبورهم. وربما فاتتني أسماء أخرى.

ولضرورة تدبير أمور المعيشة فقد عمل والدي رحمه الله في خان البرتقال القريب من الشعبانية لأصحابها آل السقا، ثم انتقل إلى مصبنة محمد نجيب جبيلي بباب قنسرين حارسا بها براتب شهري قدره تسعون ليرة سورية

وفي عام 1955 سعى والدي رحمه الله في استقدامنا من تركيا لتكون عائلته معه، ويتعلموا العلوم الشرعية. وقام جدي الحاج نوري رحمه الله باصطحابنا من القرية باتجاه الحدود السورية التركية_ وبين قوسين كبيرين _ لم تكن معنا أية إثباتات رسمية: لا جوازات سفر ولا أي شيء. فجدي رحمه الله لم يكن يحب التعامل مع النظام القائم في أي شيء أبدا، وفهمكم كفاية. وعبرنا الحدود في ليلة 25/12/1955 من منطقة قرقخان إلى منطقة عفرين السورية وتحديدا إلى قرية مجيد آغا قرب راجو. وهناك أعزائي التقيت لأول مرة والدي الغالي رحمه الله بعد فراق سنين طويلة، وسكنا في غرفة واسعة بمصبنة الجبيلي والدي وأمي رحمة الله عليهما ونحن الإخوة الثلاثة: محمد ثابت، ومحمد أمين، والفقير مصطفى نزار.( جميعنا أسماؤنا مركبة) على الطريقة العثمانية

وكان عمر أخي محمد ثابت آنئذ اثني عشر عاما وأنا في عمر تسع سنوات وأخي محمد أمين خمسة أعوام.

هذه الغرفة التي أمضينا فيها سبعة عشر عاما لم تكن ترى النور صيفا ولا شتاء ولا تدخلها الشمس أبدا.

في هذه الغرفة كنا ننام جميعا، ونطبخ ونأكل ونستقبل ضيوفنا من أنحاء المعمورة وكان أصحاب أبي يصفون دارنا بأنها أوسطها. وخير الأمور أوسطها

نعم في فصل الصيف وعندما تخف أعمال طبخ الصابون وآثار الزيوت كنا نخرج إلى برحة المعمل، ونجلس في الهواء الطلق طوال أشهر الصيف.

استمر والدي رحمه الله في تلقي العلم في الشعبانية حتى تم إغلاق المدرسة في أيام الوحدة، وألحقت بالخسروية. ونقل طلابها إليها _ من رغب منهم_ فقد أجبروا على العلوم العصرية كالرياضيات واللغات وغيرها. فاضطر والدي إلى ترك الدراسة مكرها وهو في الصف السادس الأخير، وتفرغ لتدريس أولاده وكان اهتمامه باقتناء الكتب بنهم شديد يشتريها براتبه الضئيل (مئة ليرة). فقد زادوا راتبه عشر ليرات بعد قدومنا. وكان يحاول ألا نحس مرارة الغربة لكنها الغربة!

أذكر في أول عيد مر بنا عام 1956 أخذنا رحمه الله إلى الجامع الكبير بحلب لصلاة العيد. وجلسنا ننتظر الصلاة. وجلس أبي بالقرب منا. ولمحته يبكي!! ؟؟

وكأنه حزن لأن هذا العيد يمر بنا ونحن بعيدون عن الاقرباء والقرية مازلت أتذكر المشهد بعد مرور 65 عاما.

وزادت صلة والدي بالكتب واهتمامه بها فاقترح عليه بعض الأصحاب أن يفتح مكتبة لبيع الكتب، وكانت صلتنا وثيقة بمحمد اوزدمير وهو كردي من دياربكر أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكننا علمناه صنعة الكتب، فافتتح مكتبة في دياربكر ولعلها أول مكتبة فيها للكتب العربية. وسرت العدوى إلينا فافتتح والدي مكتبة الفرقان حول القلعة بجانب غرفة الزراعة بالاشتراك مع عبد الغني نكه مي أصلحه الله. ثم انفصل عنه.

وكنا نستورد الكتب من دار إحياء التراث العربي من بيروت

وكان من عادته رحمه الله ألا يبيع كتابا إلا بعد تقليبه صفحة صفحة تحرزا من أن يكون في بعض ملازمه بياض او نقص تورعا منه

وكان يقنع بالربح القليل، فلا يتجاوز ربحه نسبة خمسة أو عشرة بالمئة.

كان رحمه الله يتحرى الحلال في كل ما يرده. ذكر لي فضيلة الشيخ محمد عوامة حفظه الله شيئا من ذلك عندما زرته بالمدينة المنورة

وسافرت إلى السعودية للعمل في العام الأعجف 1980 وزاد هم الاغتراب عند والدي. ثم سافر أخواي في العام التالي 1981 وقدر الله عليهما حادثاً مرورياً توفيا بسببه. وكانت الفاجعة على والدي كليهما وبقيا وحيدين في حلب يأتيان عندي في المدينة بتأشيرة عمرة لمدة أسبوعين كل عام ويبقيان أشهر الصيف مخالفين حتى الحج فيحجان ثم يعودان إلى حلبهما

وبقيت ثمانية أعوام أحاول الحصول على إقامة لهما عندي. ورجوت كثيرين جدا إلى أن قيض الله لي رجلا فاضلا من علماء دمشق

توسط لي في استخراج تأشيرة إقامة لهما. رحمه الله، وجزاه خيرا وفيرا.

ثم كانا بعد ذلك يمضيان أكثر العام عندي، ويعودان إلى حلب حي الجلوم الذي سكنا فيه بعد مصبنة الجبيلي.

وفي إحدى سفراتنا إلى حلب في عام 1998 وفي بيتنا المستأجر في بناية الوراق مرض والدي وراح في غيبوبة عميقة ونقلناه إلى المستشفى. ولم تنفع الجهود في إفاقته من الغيبوبة. ونقلناه إلى دمشق. ثم إلى المدينة المنورة حيث مكث هناك في غيبوبته ستة أيام وفاضت روحه إلى بارئها ظهر يوم الجمعة5/6/1319

25/9/1998

ودفن ببقيع الغرقد بعد صلاة العصر.

رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ونور قبره وجزاه عني وعن أخوي خير الجزاء. إنه غفور رحيم.