شاعر طيبة: محمد ضياء الدين الصابوني

قرأت بعض أشعاره و ترنمت بها و أنا طالب في الجامعة و استمعت إليه في مساجد حلب يشدو بمديح المصطفى صلى الله عليه و سلم

ثم قدر الله أن نلتقي بعد ذلك فعرفته عن قرب عام 1973 في مركز تصحيح اختبارات الشهادة الثانوية بحلب، حيث يلتقي عدد كبير من المدرسين من أكثر من محافظة، فتكون أيام عمل و تعارف و إفادة علمية و استماع إلى قصائد و أشعار و تبادل و إهداء دواوين و قصص بين الزملاء !

أسمعته بعض قصائدي في مديح النبي صلى الله عليه و سلم فسر بها و استمتع بقراءتها و شجعني على جمعها و طبعها و قد كان ذلك !

كثيرا من الأوقات في أثناء الاستراحات قضيتها في مجلسه ينشد و يطلب إلي أن ألقي ما نظمته

و في إحدى هذه المجالس عبرت له عن حبي لشخصه الكريم و لشعره الرائع الجميل، فكتبت أربعة أبيات و قدمتها له و قد هزتني ديباجته الأصيلة، و معانيه الجميلة

نفحاتُ شعرِكَ يا ضياءَ الدينِ قبَساتُ نورِ، و انبثاقُ يقيـنِ

جددتَ فيها ما ونى من هِمّتي وبعثتَ في روحي حَميةَ ديني

و بلغتَ بالحب المقدس ذروةً فوقَ الذرا تبدو لكـل أميـن

فاصدحْ-فديتُكَ-بالمديح، فإنما مدْحُ النبيّ من الضّنى يشفيني

وقد ضاعت هذه الأبيات مع غيرها من المقطعات و القصائد في الهجمة اللئيمة التي قام بها جيش الأسد الهالك، على مدينة جسر الشغور في 10 /3/ 1980

و لولا ذكر الأخ أحمد الجدع لها في كتابه [ أدباء و علماء عرفتهم ] لما وجدت إليها سبيلا

ثم اضطررنا بعد إعنات و تسلط إلى الخروج من البلاد و لم يكتب لي لقاء شاعرنا ضياء الدين إلا في عام 1984 في المدينة المنورة، لأفاجأ بعد تعاقدي مع الجامعة الإسلامية للتدريس في المعهد الثانوي فإذا الشيخ - رحمه الله - هو الموجه التربوي للغة العربية في الدور و المعاهد !

وكان لقاء حارا بعد نأي وانقطاع.. و يحضرني من ذكريات هذه الفترة أننا جلسنا في غرفته نتناشد الأشعار، و نتذاكر الهموم، حتى إني نسيت موعد استلام بدل الإيجار فجاءني أحد الزملاء ليخبرني أن أمين الصندوق على وشك الانصراف!؟

وتوالت اللقاءات في غرفة التوجيه، أو في أثناء زيارته لي في الفصل و قد أسند لي تدريس الأدب و البلاغة و كنت قد جعلت من درس البلاغة مجالا للتذوق الأدبي و تقريب المعاني و لا سيما أن أكثر الطلاب كانوا من غير العرب، و وجدت أن المصطلحات و أمثلتها القديمة المكررة قد لا تنفع فكان الشيخ يُسّر و يثني أمام الطلاب و أمام إدارة المعهد... و في المساء كان يصطحبني أحيانا إلى مجلس الشيخ عبد الحميد عباس لأستمع و أُسمع منتفعا و في المجلس أكثر من شاعر و ذواقة للشعر كالشيخ محمد المجذوب و الشيخ عبد الحميد و الدكتور حسين قاسم [ أبو حمزة ] رحمهم الله.

وأذكر أن أحد الشعراء نَفَسَ على الشيخ ضياء أن يردد و يكتب عن نفسه: شاعر طيبة، و في أبناء طيبة شعراء كثر ؟!

(و كان شاعرنا يستعذب هذا اللقب، و يحب أن ينادى به، بل هو يصر على كتابته على صفحات دوواينه و مؤلفاته، و يشبه نفسه بحسان بن ثابت رضي الله عنه فإذا كان حسان شاعر الرسول صلى الله عليه و سلم فيما مضى فهو شاعره الآن. يقول:

هذا الرسول فكن في الشعر حسانا و صُغْ من المدح في ذكراه ألحانا

واستمر يحمل هذا اللقب، و يعتز به ! و قد ذكر في مقدمة ديوانه نفحات القرآن: أن الشيخ عبد الحميد عباس - أحد فضلاء المدينة.. هو الذي أطلق عليه هذا اللقب [شاعر طيبة] لكثرة ما يهجس بجلالها، و يتغنى بفضائلها، و بسيد العالمين ساكنها عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم [من ألقاب الشعراء: شاعر طيبة، مقاله للدكتور عبد الرزاق حسين - مجلة الأدب الإسلامي العدد 76]. و من ذكريات تلك المرحلة أن الشاعر أكرمني، فكتبت تقديما لديوانه [في رحاب رمضان ط1] أشرت فيه إلى أنه يطوف ما شاء له أن يطوف، و لا يزيده التطواف إلا حنينا لطيبة، و شوقا إلى ربوعها ! و تعبق نفحات القرآن، و يتجدد ربيع القلوب و يشدو ضياء الدين بأعذب ألحانه، إذ يقول:

شوقي لطيبةَ دائبٌ تتجـدّدُ و الحبُّ لا يفنى و لا يتبـددُ

أنا ما سمعتُ بذكرها إلا هفا قلبي، و نيرانُ الجوى تتوقدُ

ثم كتبت دراسة عنه تحت عنوان: أشواق و ذكريات في رحاب رمضان، نشرت في مجلة المجتمع الكويتية، العدد 816 - 8 رمضان 1407، كان في خاتمتها استشهاد بأبيات للشاعر، عبر فيها عن فرحته برمضان في طيبة الطيبة:

رمضانُ ! ما أحلى ليالي طيبةٍ و الذكرياتُ تُهيجنا و المرتعُ

وعن سعادته بالعيد و هو في مدينة المصطفى صلى الله عليه و سلم:

هذه طيبـةٌ، وأنتَ محــبُّ =وأرى الشوقَ في الضلوع استبدا

لستُ أنسـى وقد حللْنا ضيوفا عند خير الورى، و أكرم رفـدا

و عقبت المقالة: ألا يحق للشاعر أن يكون محب طيبة لا شاعر طيبة - كما سماه بعض الأدباء !

لأن كل محب شاعر - و إن لم يقل شعرا - و ليس كل شاعر محبا صادقا فقد عودنا الشعراء أن يكتبوا عن طيبة قصائد معدودات، و لكن شاعرنا ضياء الدين، أتحفنا بديوان شعر كامل مع ديوانين سابقين نفحات طيبة و رباعيات من طيبة ! و هذا ما يفعله المحبون، لا الشعراء!

كان الشاعر - رحمه الله - يهدي إلي و إلى الكثيرين كتبه و دواوينه و كتب أدب و دين يرى أنها نافعة لقارئها

فلا يكاد يوجد كتاب لدي من إهدائه إلا أجد عليه عبارات الإهداء الراقية، أو أبياتا يرتجلها و يسجلها بخطه و منها على سبيل المثال ما كتبه في الصفحة الأولى من ديوانه نشيد الإيمان:

حديثُكَ يا أخي يحيى لذيـذٌ=ويلمسُ كلَّ قلب في الصميم

عرفتكَ مخلصا حـرا أديبا =تسير على هدى النهج القويم

وما أحلى لقاءً في [رحاب] =فيالك مـن أخ ندْبٍ كريـم

وبعد سنوات يهدي إلي ديوانه نفحات حب و خلجات قلب: إلى الشاعر.. و الوفي الكريم الأخ..

إن كان للشعر أن يزهو بشاعره=فإنما بكَ يزهو الشعرُ فتّانـا

بيني و بينك يا أسـتاذُ آصـرةٌ=من المودة، عينُ الله ترعانا

وكتبت إليه مرة وأنا في المدينة المنورة و قد غادرها إلى مكة المكرمة للعمل في معهد الدعاة:

لكم يا شيخنا الغالـي=تحياتي وأشـواقي

وملءُ القلب من أدب=زكي وارفٍ راقي

أتى من مكةٍ سَحَـرا=نسيمٌ هزّ أعمـاقي

فقلت و بي صباباتٌ=وتسهيداتُ عشـاق

لقد حركـتَ أشجانا=ودمْعاتٍ بأحـداقي

حملتَ سلامَ مشـتاق=لصبّ القلب مشتاق

فكتب إليّ يقول:

أبا بشرٍ لكم حبــي=وأسمى ما بأعماقي

وملءُ فؤادي اللهفــــان=حبٌّ عاصف باقي

و أنتَ أعزُّ ما عندي=وأملؤهم لآمــاقي

أثرتم فيّ تحنانــي=وإحساسي وإشفاقي

و[طيبةُ] حبُها يسري=بأغواري وأعماقـي

لعل اللهَ يجمعُنــا=وذاك يكون ترياقـي

والتقينا في المدينة المنورة على غير ميعاد، وكان كثيرا ما يتردد إليها، فأهدى إلي كتاباً في الأدب العربي فارتجلت:

أهدى إليّ ضياءٌ أجملَ الكتبِ=في النثر والشعر والأخبار والأدب

فقال اكتب في الصفحة الأولى: هدية متواضعة إلى الأخ الكريم والصديق الحميم الشاعر..

وارتجل أبياتا أرّخت لها في 25 رجب 1427

خيرُ الهدية ما كانت من الكتب=فاظفرْ تنلْ باقتناها أرفـع الرتـب

إني أهنيك من قلبي و عاطفتي=فأنت أكرمُ منْ يُرجى لـدى النّوَب

أنت الوفاءُ بعصـر لا وفاءَ به يحيا=بك الأدبُ السامي مدى الحقب

يا شاعرا وهب الهادي مدائحَه=إني أهنيـك في مدحٍ لخيـر نبـي

ومن جميل الموافقات التي لا تنسى أنني كنت في زيارة لمسجد النبي صلى الله عليه و سلم، ثم توجهت إلى قبره الشريف للسلام عليه ففوجئت بالشيخ ضياء ثم بالأخ سليم عبد القادر، و لم يكن المجال يسمح لأكثر من سلام عابر، و لكن الشيخ كعادته دس في يدي و يد الأخ سليم ورقة فإذا هي قصيدة له عن العراق - رد الله غربته - و رحم الله الأخوين العزيزين الحبيبين و قد فقدتهما في أسبوع واحد و لم يكن بين وفاتيهما إلا أيام أربع.. أسأل الله لهما المغفرة و الجنة، و أن يجمعنا بهما تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم، كما مَنَّ علينا في الدنيا بأن هدانا و جمعنا تحت راية دينه.