الأستاذ يوسف الجنادي رحمه الله تعالى

تدهمنا الأقدار المؤلمة حدّ العجز عن مجاراتها مواساة وتعزية، ففي كل يوم خبر فاجع نتصبّر عليه ونصابر، حتى ليشغلنا بعضها عن بعض!

وفي الخضم يبقى رحيل العم أبي جهاد يوسف الجنادي ذا أثر نادب في ذاكرتي ربما لا أسامح نفسي على تقصيري في الوفاء بحقه!

ولعلي ألجمت يوما لا أعرف ما أقول، وبكيت له بكائي على والدي قبل خمسة وثلاثين عاما!

سمعت عن أبي جهاد منذ كنت يافعا من قبل أن ألقاه بسنوات، فلما رأيته شعرت أنه مني وأنا منه..

كان ودودا لطيف المعشر يشعرك بأبوته بصادق حنان الأب، وكان يبدي لي إعجابه بوالدي رحمهما الله، وذكر لي أنه كان موجهه وهو في المرحلة الإعدادية، وهذا التودد زاد تعلقي به.. كان مضيافا سخي النفس حار الاحتفاء بزائره، يعطيه فوق حقه من العناية والتكريم، كما كان مشغولا لمشاشته بقضايا أمته، كثير الحماس في حمل الشباب هم الثورة وهمومها، يطير بالفزعة مساهما في كل عمل خيري يرفد أبناء شعبه الأحرار ويسد خلتهم ويلبي حاجتهم، فما أعلم حملة بذل إلا وترصّع اسمه في لائحة الباذلين بسخاء..

رشحني لمواقع كان ابنه جهاد أولى بها لتجرده العجيب عن حظ النفس وإخلاصه فيما أحسب..

كان عمليا إيجابيا لا يعجبه الخلاف والشقاق، لذلك أسهم كثيرا في لجان المساعي الحميدة وإصلاح ذات البين، بل كانت هذه سجيته، فحتى في عالم الأفكار لم يكن يعجبه الإستغراق في طرح ما يختلف الناس حوله، ويحول المسار للبدائل والحلول..

ومع حرقته وغضبه لحرمات دينه، لكنه كان حليما بالغ الأناة في الإنفعال بالخلافات الإدارية التي جمعتني به في بعض مؤسسات الثورة، ولذلك استحق أن يكون أحد وجهاء حوران وحكمائها الذي يقصده الناس في كل أمر يحقق مصلحة لهم أو يدفع عنهم شرا..

وكان حديثه شائقا ماتعا تبحر معه في تراث وثقافة وتاريخ وتفاصيل أتحسر الآن بصدق أننا فرطنا بتدوينه منه ومن الصادقين من أمثاله!

حمل بين جنبيه طاقة اجتماعية عجيبة تجعله قريبا لطيف المعشر مع كل من عاشره، ولعلها أثر من آثار صلاحه وتقواه، ولا نزكيه على الله، مصداقا لقوله تبارك وتعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا).

ضغطه المرض فزرناه في المستشفى وأبى إلا استقبالنا جالسا مع إلحاحنا عليه بأنه يرتاح..

عايدناه في بيته فجلس معنا بأنسه ودماثته، فخففنا المقام شفقة عليه، وألحّ علينا بالمكث، وكان يتفقدنا بالضيافة كأنه في تمام صحته!

حضر عرس حفيده أثناء حظر كورونا وسلمت من بعيد فمد يده للعناق وكان جالسا، فرحمته وخفت عليه ولم أستجب له مع حرجي!

السخاء كان طبعا له ولا يتكلفه، لذلك كان مندفعا نحو أحبابه بهذا الحنو وهذا القرب..

نعم كان الأستاذ يوسف الجنادي رجل دعوة، فعال غير قوال، وكانت ثمرة جهده واجتهاده أسرة بناها على حب الله تسلك سبيله وتخطو خطوه وتحمل أهدافه، ولعلها تتابع من بعده المسيرة حتى ترى إن شاء الله ما لم يره الأستاذ الجنادي وإن كان ممتلئا ثقة ويقينا بأنه سيتحقق الهدف والحق الذي ناضل وجاهد لإعلائه واسترداده من غاصبيه والعادين عليه..

اغترب لأجل هذا الحق قريبا من نصف قرن نأى فيها عن الديار مع لوعته وأشواقه التي حملها ثقافة تبدو منه جلية في غربته الطويلة عن وطنه الذي سكن قلبه حين حرموه من السكنى فيه!

وحين دب فيه المرض وأثقله كانت عصاه وحزام قدمه متكأه لحضور كل واجباته الدينية والإجتماعية، بل كان سباقا مبادرا يتطوع في شيخوخته بما يكسل ويبخل فيه بعض الشباب!

ثم ازدادت وطأة المرض فلعلها إرادة الله بأن يمحص قلبه، حتى يكون أبيض كالصفا، فهذا الذي يليق بكريم مثله..ولعلها تكون معراجه لبلوغ نزل الشهداء، فالمبطون شهيد والغريب شهيد، وحصاده لنيل أجر الصابرين الذين يلقّون أجرهم بغير حساب..

اللهم إنا نستودعك روحه وأنت الوكيل الذي لا تضيع ودائعه، ما شهدنا فيه ربنا إلا بما نعلم، وأنت به أعلم وأرحم، وقد وفد إلى جوارك في أكرم الشهور وأعظمها، شهر رمضان المبارك، وأنت أكرم الأكرمين، فأخلفه تباركت بخير، وأخلفنا فيه بخير، وصبر زوجه وأهله وأحبابه، واجبر مصابهم فالمصاب بمثله كبير..

اللهم إننا بحبك أحببناه فيك ولك، فاكتبنا من المتحابين في جلالك، وأظلنا بهذا الحب في ظلالك، واجمعنا به في فردوس الجنة مع حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم..

أبا جهاد.. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.