القاضي المؤرخ والمفكر طارق البشري

(2021-1933)

توفي صباح يوم الجمعة 26 فبراير 2021 المفكر المصري الأستاذ طارق البشري عن عمر ناهز 88 سنة. وبوفاته فقدت مصر والعالم الاسلامي واحدا من أبرز الفقهاء القانونين والمؤرخين والمفكرين الذين اشتهروا بالحيوية والحكمة، والصدق والنزاهة والتفتح على كل التيارات الفكرية الفاعلة في الحياة السياسية والفكرية في العالم العربي والإسلامي.

لقد بدأ الأستاذ طارق البشري مساره قاضيا وفقيها في القانون ومؤرخا للحياة السياسية في مصر، وانتهى مفكرا منظّرا في القضايا الإسلامية المعاصرة. وسأتطرق هنا إلى هذه المحطات الكبرى بالمختصر المفيد.

طارق البشري قاضيا وفقيها

درس طارق البشري القانون في جامعة فؤاد (القاهرة) سائرا على خطى والده المستشار عبد الفتاح البشري الذي كان قاضيا ورئيسا لمحكمة الاستئناف. وقد تأثر خلال دراسته بنخبة من الأساتذة، وأذكر هنا بالخصوص الشيخين محمد أبو زهرة والشيخ عبد الوهاب خلاف الذي قال عنه: «أكثر من تأثرت بهم كان الشيخ عبد الوهاب خلاف بشخصه وكتاباته. إنه ربط على عقلي القانوني، وأحببت أسلوبه، وهذا أثر على طريقتي في الكتابة».

وتخرج البشري من هذه الجامعة في عام 1953 واشتغل قاضيا في مؤسسات قضائية متعددة حريصا دائما على أن يكون في مستوى مسؤوليته، ومدركا أن القاضي لا يمكن أن يكون جديرا بهذا العنوان إلا إذا كان كفؤا وغيورا على استقلاليته عندما يلتزم ب «روح الاستغناء».

بالإضافة إلى العمل الميداني والأداء الوظيفي في سلك القضاء، ألف الأستاذ البشري كتبا ونشر بحوثا وقدم محاضرات في الشؤون القانونية أذكر منها: «الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي»، «السياق التاريخى والثقافى لتقنين الشريعة الإسلامية»، «القضاء المصري بين الاحتواء والاستقلال»… الخ.

كان يدرس هذه الموضوعات القانونية من مقاربات متعددة مقارنا دائما القانون الوضعي والشريعة الإسلامية، ومبيّنا نقاط التشابه والإختلاف، ومقترحا جسور التواصل والتقارب بينهما خدمة للمجتمع، وحفاظا على مقوّماته ومتفتحا على متطلبات العصر.

وتظهر هذه النزعة في كتبه، وكذلك في صياغة المشاريع القانونية والدستورية التي كان يقدمها لأهل القرار عندما يلجؤون إلى خبرته القانونية وكان آخرها تكليفه برئاسة لجنة التعديلات الدستورية عقب ثورة 25 يناير 2011.

طارق البشري مؤرخا

عاش طارق البشري في بيت يعج بالذكريات التاريخية لرجالات العائلة المشهورين مثل جده الشيخ سليم البشري العالم المشهور بعلمه واعتلائه لمنصب شيخ الأزهر والمعروف بمواقفه الجريئة كاستقالته من ذلك المنصب الرفيع بعد اختلافه مع الخديوي، وعمه عبد الله البشري المنفي من مصر بسبب نضاله السياسي، وكذلك عمه الشيخ عبد العزيز البشري الأديب المعروف.

وهكذا لا نستغرب لما نعلم أن البشري أحب التاريخ مبكرا وتعلق به أكثر لما كان تلميذا في مرحلة الثانوية حيث تأثر بأستاذه محمود الخفيف الذي كان يدرسهم تاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر الغني بالأحداث والثورات القومية في 1830 و1848 وحروب الوحدة في إيطاليا في عام 1864 وألمانيا في 1871. كما كان يدرسهم تاريخ مصر الحديث ويعرّفهم بأبطالها مثل أحمد العرابي.

ورغم أنه لم يتخصص في التاريخ إلاّ أنّه كان قارئا نهما للكتب التاريخية ومتأثرا باستمرار بالأحداث الكبرى التي عاصرها مثل الحرب العالمية الثانية والعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 ونكبة 1967.

ولم يكتف بالمعايشة والمشاهدة بل ولج إلى ميدان الكتابة التاريخية مسلحا بقواعد البحث التاريخي ليساهم في هذا الحقل المعرفي بدراسة تطوّر الحركة الوطنية المصرية من خلال أعلامها وحركاتها ووقائعها، ومن أهم أعماله التاريخية أذكر هنا: «الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952»، «ثورة 1919 في تاريخ مصر المعاصر»، «شخصيات تاريخية»، «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية»، «الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر» …. الخ.

ولم يقتصر طارق البشري في هذه الكتب والأبحاث على السرد بل تناول تلك الموضوعات بالتحليل والمقارنة والنقد بأسلوب أقرب إلى المؤرخ الفقيه منه إلى المؤرخ الأديب، ذلك بأنه اهتم بالحركات والاتجاهات والأحزاب كمؤسسات أكثر من اهتمامه بالأحداث والأشخاص متأثرا دائما بتكوينه الأول في مجال القانون.

بعد هذه التجربة في التأليف التاريخي اكتسب الأستاذ البشري تصوّرا كاملا في فلسفة التاريخ وطرق البحث التاريخي فعبّر عن كل ذلك في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه: «الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952» الصادرة في عام 2002 عن دار الشروق، وتمنيت لو نشر هذا العمل من 64 صفحة في كتيب خاص ليستفيد منه طلبة التاريخ والمؤرخون لما يحمله من أفكار ثاقبة وآراء قيمة في الفكر التاريخي وتوجيهات صائبة في طرق البحث.

البشري باحثا في الفكر السياسي

لقد مرّ طارق البشري بتجارب متعددة وانهال من مدارس فكرية واتجاهات سياسية مختلفة دون أن ينخرط عضويا في واحدة منها إلى أن اكتمل عنده «موقف ثقافي وفكري وسياسي محدد في العديد من مجالات النشاط والفكر العام».

لقد اقترب أكثر بعد هزيمة 1967 من التيار الاسلامي مثل العديد من المفكرين القوميين واليساريين المعروفين كمحمد عمارة ومنير شفيق وعبد الوهاب المسيري وغيرهم.

ساهم الأستاذ طارق البشري في الحياة الفكرية في مصر وخارجها وشارك في ندوات ومؤتمرات كثيرة خاصة التي عالجت قضايا فكرية وسياسية معاصرة شائكة وصلتها بالإسلام كالديمقراطية والحرية والعلمانية والعروبة…

أذكر هنا على سبيل المثال زيارة الأستاذ البشري إلى الجزائر في عام 1990 حيث شارك في مؤتمر دولي حول المستقبل الاسلامي وقدم خلاله محاضرة عنوانها: «الحوار الاسلامي العلماني»، وهو موضوع ما زال يحتاج مزيدا من الاهتمام والصراحة وتقبل الطرفين لاختلاف وجهات النظر في القضايا الثانوية والتوافق في القضايا الجوهرية.

لا يرى الأستاذ البشري تناقضا بين الدعوة إلى «الجامعة الدينية» و«الجامعة الوطنية»، فـ«الجامعة الدينية» تخص الوحدة الاسلامية أو الوحدة بين المسلمين بغض النظر عن انتمائهم الجغرافي، بينما «الجامعة الوطنية» تعني التعايش المشترك في بلد واحد أو مجتمع واحد فيه التعددية والتنوع مثل المجتمع المصري الذي توجد فيه إيديولوجات سياسية متعددة، ويمارس فيه أفراده ديانات متنوعة كالإسلام والمسيحية واليهودية.

كما اهتم بموضوع الدولة والنخبة الحاكمة في مصر والعالم العربي، وكان يرى أن الاستبداد المرتبط بالدولة الوطنية لا يمكن التخلص منه والانتقال إلى الديمقراطية إلا بتضافر جهود كل التيارات السياسية والأيديولوجية القائمة سواء عبرت عن نفسها في أحزاب أو جمعيات مدنية وأهلية، وأنه لا يمكن لتيار واحد أن ينفرد بالسلطة أو يقدر وحده إصلاح المجتمع الذي يعاني أزمات معقدة في مجالات الحياة المختلفة.

وهو لا يكتف بعرض الحال كمفكر متفرج وإنما كان يسعى دائما من خلال نشاطاته المختلفة إلى توحيد الصفوف وفق توافق وطني، ويقدم اقتراحات في كل مرة ويعرض أساليب النضال الجديدة التي استلهمها من تجارب الحركات السياسية والاحتجاجية التي ظهرت في أوروبا وجنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية والتي استطاعت أن تحقق أهدافها بطرق سلمية، وتتقدم في طريق الديمقراطية والتنمية الاقتصادية.

تعاون الأستاذ طارق البشري مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن ومركز دراسات الوحدة العربية ببيروت وغيرها من المراكز الجادة والمؤسسات العلمية الراقية التي تستفيد من خبراته في القانون والتاريخ والفكر، وتنصت إلى تجاربه في الحياة، وتحتفي بأعماله في مناسبات عديدة، وكان من أفضل هذه التكريمات إصدار مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي ببيروت كتابا قيما ألفه الأستاذ ممدوح الشيخ، والندوة العلمية التي نظمها أصدقاؤه وتلامذته في شهر جوان 1998 وغيرها من الاحتفالات العلمية التي تدل على التقدير والوفاء لهذا المفكر الفذ.

لم يكن الأستاذ طارق البشري يطمع من وراء كل هذه الجهود المخلصة مالا أو جاها أو شهرة وإنما كان يقصد من عرض الأوضاع القائمة بصدق ونزاهة وحكمة وتحليل أسباب الفشل بدقة وعمق من أجل تحرير العالم العربي والإسلامي من كل المعوّقات الذاتية والقيود الخارجية، وبناء معالم مشروع حضاري جديد ينقل الانسان العربي والمسلم من التخلف الذي يعيش فيه في مجالات مختلفة إلى مجتمع المعرفة والتقدم والازدهار يسود فيه العدل والحرية.

وهكذا غادر الأستاذ البشري هذه الدنيا حاملا معه همومه وشواغله، ولم ير حلمه يتحقق على أرض الواقع، لكنه كان مدركا تماما أن العالم العربي والإسلامي سيستعد مجده يوما مادام المجتمع العربي والإسلامي يظل حيويا، وأن الانسان العربي يفكّر في حركة التاريخ، ويشارك في صناعة مصيره، ويقدم باستمرار تضحيات جسيمة من أجل مستقبل أفضل.