فَيْضُ الخَاطِر بِوفاةِ الخَالِ الصَّابرْ (عبد السلام عثمان)

 

مُذْ وَعيْنا على هذه الدنيا ونحن نسمعهم يقولون: "خَالُكُمُ المسجون"، حتى أن أبي وأمي قاما بتسمية أخي الأصغر "عبدالسلام" تيمناً باسمه؛ فإن غيَّبَتِ السجون جسده، لن تُغيِّبَ الحياة اسمه. 

الخَالُ "عبدالسلام عثمان"، الداعية الطبيب قبل كل شيء، وتكفي هذه تهمة ليُزجَّ به في سجون الطغاة في سوريا، فكيف إن جُمعَ إليها حيويته وشبابه، وحرقته على أمته واهتمامه، وعلمه المتزن وثقافته، وإخلاصه لإخوانه ووفاؤه، وشدته في الحق وصلابته... لينتهي المطاف به سجيناً لما يقارب عقدين من الزمان، قضى أكثر من نصفها في سجن تُدمر، سيء الصيت، وكل السجون في سوريا سيئة الصيت، بل هي السوء عينه! الداخل إليها مفقود، والخارج منها مبارك وِلادته. 

كنا نسمع ذكره وسيرته على ألسنة أُختَيْهِ جَدَّتَيْنا "خديجة" والدة أبي -رحمها الله-، و"شيماء" والدة أمي -حفظها الله-، فترى قلوبنا تمتلئ حسرة على عدم لقائه، وفخراً أنه إنما سُجن لغاية شريفة؛ لأجل دعوة الله، وخدمة للدعاة إلى الله، وهو الذي لطالما سعى في مرافقة جدي الشيخ سعيد حوىٰ -رحمه الله-، وكان يَعُدُّهُ إماماً مجدداً، ويرى فيه شعلة النور التي تجلب الخير للوطن سوريا، يوم سطت عليه زمرة بغية، وسلطت عليه سيوفاً دنية، وهتكت فيه الدماء البرية... وتراه يغدو أسيراً يدفع ثمن مواقفه، ويُسكَت صوته وتُسلَب حريته، والحق أنهم كانوا هم الأسرى، وكان هو الملهم الحر، حتى من محبسه. 

أدبر إلى السجن شاباً، والحياة مقبلة عليه، تاركاً زوجته "خديجة" لتحمل طفله الأول والوحيد، فتقوم وفيةً بارةً بتربية الغلام تربية سديدة، تؤدي أمانة زوجها أيَّما أداء. تمر الأيام والسنون، ويكتب الله بعد الغياب لقاءاً، وبعد التفرق اجتماعاً، ويخرج الذي دخل السجن شاباً، وقد احدَوْدَب ظهره، وتكاثرت أمراضه، وتعددت آلامه، ويحتضن ولده وزهرة حياته "أَنَس"، وقد شبَّ الغلام عن الطوق، طبيباً على درب أبيه، وسائراً على منهجه الرصين، وقد جمع الله ل"أَنَس" كل ما يرجوه والدٌ في ولد، ويكأن الله يخبر خَالَنا أنْ إنْ دفعتَ شطراً من عمرك ثمناً لدعوتنا، فإننا نكافيك فيما لك وَهَبْنا، فهذا وليدك اصطنعناه على عيننا، بدل أن تحمله وليداً، يحملك اليوم على رأسه تاجاً، ويُنسيك كل أَلَمٍ عانَيْتَه، وكل بُعْدٍ قاسَيْتَه، وكل ظُلْمٍ تجرَّعْتَه، فكان "أَنَس" أول ما كان أُنساً لأبيه وأمه، وأشهد أنني ما مر عليّ في حياتي أحد بدماثة خُلُقِه، وحُسْنِ معشَره، وصفاء سريرَتِه، وتوقد ذكائِه، وتميزه وتفرده... لكن! يرحل "أَنَس"! ولما تكتمل فرحة أبيه، أو تنطفئ جذوة اشتياقِه، ولما يرى فيه زوجاً وأباً، أو ينتهي لذعُ حرمانه، يرحل "أَنَس" بعد رحلة شاقة مع المرض الخبيث، تُكتب آخر فصولها في صلاة الجنازة عليه في المسجد الحرام، ويُدفَنُ في مقبرة المعلاة قرب الحرم، ويمضي اليوم على وفاته ما يزيد عن خمسة عشر سنة. 

مدرسةً في الصبر كان هو وزوجته، يملأ الله قلبيهما رضىً وسكينة، وتقبلاً وطمأنينة، لا جزعَ ولا اعتراض، ولا تململ ولا امتعاض، بل تسليم تام كما نقرأ في سِيَرِ الأولين، لا نبالغ، والله خير الشاهدين. 

قبَّلْتُ يده، وقلت يا خالي كلنا أولادك، بل أنت بمثابة جدي، وقد رافقتَهُ وما رافقتُه، ولعلي أكون لك خادماً كما سعيت تعينُ جدي وتلبي رغبته. صحبته مراراً في العمرة حين يتردد على مكة وأكونُ نزيلَها، وما أطيب صحبته! وما أظهر حكمته! وما أسعده وما آنَسهْ! لا عجب وهو أبو "أَنَس". 

تبدأ ثورة الشام، ويشتعل ذلك الرجل الستيني حماسةً وتوقداً، وهو يرى بصيص النور يشرق من جديد خلف تلال من الحزن والكمد في سوريا، ويكون له فيها أوفر نصيب، من الريادة والعمل، والتضحية والبذل، ما فتئ يعظ الشباب ويوجههم، ينصحهم ويبث الوعي في نفوسهم، يحذر من الأخطاء، ويربي النفوس على الفداء، ويغادر مهاجراً "بانياس" جليسة البحر، ومؤنسة الفؤاد، ويتردد بين أُختَيْهِ في "عَمّانَ" و"جدّة"، لتأتي الصاعقة على قلبه المثقل بالطعنات، لقد عدى الشبيحة على بيتك، واستقروا فيه وتحول إلى ثكنة عسكرية! أفنى عمره في تجهيز ذلك المنزل، لعله يقضي ما تبقى من حياته هانئاً هادئاً، أو لعل "أَنَس" يتزوج ويقيم فيه، وكم كنا نرى بريق عينيه وحماسه وهو يصف منزله ويتحدث عنه، وحُقَ له، وقد حُرِمَ لذة النوم عشرين سنة، متردداً بين سجون الظلمة، فراشه الأرض ولحافه السماء، حُقَّ له أن يعمرَ بيته بكده وتعب يمينه من عمله في طب الأسنان، وقد استأنفه بعد خروجه من السجن، لكن، أنّى للظلم أن ينتهي! وأنّى للحُرِّ أن يركع! وكّلَ لله أمره وسلَّمَ له واسترجع، وقال لست بخير من أبناء شعبي، يُطردون ويُشَرَّدون، ودماءهم وأرواحهم يُرخصِون، إن كان ثمن التحرير والخلاص هو منزلي فليكن!. 

تطول رحلة هجرته، ليستقر به المقام جار الحبيب ‎ﷺ في المدينة المنورة، دار ِالهجرة، وأُنْسِ كل مستوحش، يجد فيها حناناً، وينال منها أماناً، ويعالج بالقرب آلام السنين، ويبث رسول الله ‎ﷺ رسائل الحنين، محباً له قد عرفناه، وحاضر الدمعة إن حضرت ذكراه، لكن لم يطل فيها المُكث وتبدل الحال... ليحط به الرحال في دار الأنصار بعد دار الهجرة، حط في استنبول، واستقر بين الأقارب والمحبين، وكُلنا له مُحب، لا تملك إن جلست له إلا أن تستمع، الحكمة تقطر من لسانه، والبشر يتهلل من صفحات وجهه، هو الصبر بذاته، يمشي على الأرض ثابتاً ولو تَوكَّأ على عصاتِه، متزوداً آيَ الله وقد حفظها في السجن مع أقرانه؛ فلا غرو أن تراه محفوظاً في جَنَانِه، ثابتاً ثبات الصابرين كما قص ربنا في قرآنه. 

طرَق الوباء بابه، ودخل غير آبهٍ باستئذانه، وتسلل إلى جسدِ رفيقةِ دربه، وأنيسةِ مشواره، وأُمِّ أَنَسِهْ، فلم تقوَ عليه، وكان لها عند الله قَدْرَاً وقَدَرَاً، فرحلت زوجته "خديجة" قبل أشهر ثلاثة، وتركته أسير وحدتِه، وطريد أطيافِ ذكرياتِه. 

ذَبُلَ كالوردة العطشى خَالُنا، ولكنه كما في كل مرة، صابر مصابر، ثابت مثابر، يُمَنّي النفس بما عند الله، ويرجو الدار الآخرة، يواصل المسير مُثقَلاً، لا يجزع ولا يصخبْ، وهو المثال بصمته، والحال بمقاله، والدرس البليغ بهما معاً، فقد الولد، وفقد الرفيقة، فقد "أَنَس"، وفقد "خديجة"، وكيف بالله يكون بعدهما المسير؟! وإلى أين يودي به الطريق؟!.

طرَق الوباء بابه مرة أخرى، وهل في الجسد بقية من مقاومة؟ أو حيلة للمواربة؟ يتعب ويشتد تعبه، يغادر إلى المستشفى، ويتمايل في أروقته، وهو العارف بها، الحافظ لجدرانها، والذي لا يخطئ رائحة الموت التي تختبئ خلف أبوابها، وقد فقد أعزَّ قلبين على قلبه فيها. يترامى جسده المتعب على السرير، ويأبى إلا أن يؤدي صلواته وهي زاده الأول والأخير، يشتد تعبه، ويضيق صدره، فينقلونه من سرير إلى سرير، تظهر له من نوافذ المستشفى إطلالة الربيع، فيها سماحة السماء، وخضرة الجبال، وضحكات أطفال تتقافز من بعيد، يقولون له يا خَالي هذه الإطلالة ترد لك روحك، وتُذهب إن شاء الله ما ألمَّ بك، فيُجيب: إطلالة الجنة أحلى، ورِفقتها أغلى، وثمرها أجنى، وأُنْسُها أبقى، وإني لها أدنى... كان يودعنا، بل كان يعلن لحظة اللقاء، ويتجهز لميعاده، ليلتئم جرحه، ويلتمَ شمله بشقيقة روحه، وفلذة كبده، وقد كان، غادرنا اليوم جسده، وبقيت حية فينا ذكرياته، رحل خَالُنا، وكوى الفقد قلوبَنا أَخَالُنَا... فلا تقولوا خسرنا من غاب بالأمس عنا، إن كان في الخُلْدِ خُسْرٌ، فالخير أن تخسروني!. 

رحم الله خَالَنا أبا أَنَس، وزوجته خديجة، وولده أَنَس، وأنزلهم منازل الشهداء، نحسبهم ولا نزكيهم على الله. 

إنَّا لله وإنَّا إليهِ رَاجِعون