العالم الرباني الشيخ إبراهيم الغلاييني (9)

1300- 1377 هجرية

1882- 1958 ميلادية

قطوف من أقوال بعض معارفيه

إن مما يحز في نفسي أن ظروف غربتي الطويلة لم تمكني من استكتاب أقران الشيخ وعارفيه وتلاميذه (وهم كثر) فمعظمهم قد لقوا وجه ربهم، ولكني أفدت كثيراً ممن أكرمني الله بلقياهم، فحظيت منهم بقطوف يانعة مما يتعلق بسيرة الشيخ العطرة عرضتها هنا بأمانة والحمد لله.

فضيلة الشيخ ملا رمضان:

لقد زرت الشيخ ملا رمضان رحمه الله يوماً من الأيام برفقة والدي الكريم في أواخر الستينات، فتحدث عن الشيخ موجهاً الحديث لي قائلاً: (كان جدك زهرة الشام) حينها لم أدرك حقيقة ما قال ولكني اليوم أعرف مرماه. إن الصورة الآن أصبحت مكتملة في مخيلتي، فالنفوس كانت تهفو لرؤية الشيخ والإصغاء إلى كلماته لا لأنه كان شاعراً أو أديبا يحسن تدبيج الكلام وتنميقه، بل لما كان في لقبه إخلاص وغيرة على المسلمين.

فضيلة الشيخ محمد بدر الدين عابدين:

هو من تلاميذ الشيخ كما ذكرت، وقد كتب رسالة صغيرة في ذكرى وفاة شيخه، وفيها أتى على نبذة من صفحات شيخه وأخلاقه فقال: (عرفت هذا الشيخ الجليل منذ معرفتي لهذه الدنيا عالماً فقيهاً ورعاً وقوراً هادئاً ذاكراً مراقباً سخياً عابداً ذو وجه صبوح وضّاء، دؤوباً على ذكر الله صؤوماً، أسهل شيء عنده بذل ماله في سبيل إكرام أضيافه، لا ينزل قدره عن الموقد كثير الرماد، صبوراً على النوائب، يقظاً ذكياً، ملهماً كثير التنفل، متهجداً تالياً للقرآن، ليس للشيطان عليه سبيل، لا يغضب لنفسه بل لله إذا انتهكت محارمه، ذا قوة وصدق في محبة الله

حافظاً لكتاب الله، ذو صوت حسن ونغمة وتخشع في التلاوة يؤنس ضيفانه ويقضي حوائج من قصده، ويدخل على الحكام بلا وجل ولا هيبة، لا يدخل في جوفه خوف القلة والعوز، ولا يهتم لطعامه في المستقبل، شكوراً لله تعالى حامداً لنعمته يأمر بالمعروف كل من حضره سواء كان في بيته أو في الطريق أو في جامعه، ذو مهابة لا يستطيع من جالسه أن يبدأه الكلام إلا إذا هو بدأ به، لا يكذب ولا يرائي ولا يداهن بل يجهر بالحق أمام كل مخالف، ولا تأخذه في الله لومة لائم مهما عظم. وكثيراً ما يخرج من بلده قطنا إلى القرى المجاورة لها فيدخل القرية مبتدئاً بتحية مسجدها في الصلاة، يحضّ الناس على أداء الصلاة جماعة –ما حل في قرية إلا وفد أهلها للسلام عليه- ولا ترى داراً إلا وقد دخلها السرور، وكثيراً ما يجمع أهل القرية في المسجد أو في المضافة أو في الحقول فيرشدهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، ويعظهم ويخطب فيهم، ويسألونه عن دينهم وأمورهم فيعظهم ويأمرهم بطلب العلم وأداء فرائض الله، ويعين الأئمة والخطباء والأكفّاء، للقرى النائية الخالية من إقامة شعائر الدين، وبالجملة كان رحمه الله نسخة صادقة كاملة طبعت فيها الوراثة المحمدية، لا تسأل عن حسن صلاته وصيامه وحجه، وتعظيمه لرسول الله كلما ذكر عنده، ولا تسأل عن آدابه عند زيارته للروضة الشريفة، وهناك تتجلى صفاته ماثلة للناظرين، لم يترك الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان إلا في الشهر الذي كان آخر شهوره رحمه الله وعوض الله المسلمين كثيراً من أمثاله من العلماء العاملين والمخلصين)(1)

الشيخ على الطنطاوي رحمه الله:

كتب الشيخ الطنطاوي ذكرياته بنفسه، وكان مما جاء فيها أنه لما كان قاضياً في دمشق أنتدب للقضاء في وادي العجم (قطنا) أيضاً، فخصص لها يوماً في الأسبوع، وكانت هذه فرصة للقاء الشيخ إبراهيم الذي كان مفتياً هناك، كتب الشيخ علي عن ذلك فقال: (وكان في قطنا شيخ جليل القدر، وهو رفيق شيخنا الشيخ أبي الخير الميداني، اسمه الشيخ إبراهيم الغلاييني، وكان عالماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، صدّاعاً بالحق، له سطوة على المنحرفين من أهل البلد، وهيبة في صدور الناس، فكنت أزوره أحيانا)(2)

السيد محمد العزوزي الإدريسي الحسني:

وهو أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية، ورئيس المجلس العلمي سابقاً، قال عن الشيخ في كتابه "إتحاف ذوي العناية " (العامة البركة الصالح الذاكر العابد، كعبة القاصدين وإمام الواصلين ومربي المريدين المفتي الشيخ إبراهيم الغلاييني، لا تجده إلا ذاكراً أو واعظاً أو تالياً لكتاب الله أو متطوعاً بنوافل الخيرات مع كرم وأفضال وخدمة لكل زائر من الإخوان)(3).

وفاته رحمه الله

انتقل الشيخ إلى دمشق قبل وفاته بشهر ونصف، وسكن في حي الميدان. وخرج رحمه الله يوم الجمعة الموافق 14/شوال / 1377هـ قاصداً جامع مازي لأداء صلاة الجمعة، وبعد انتهاء الصلاة بدا له زيارة العلامة الشيخ (السيد محمد مكي الكتاني) في داره، وبينما هما يتحدثان في أمر الأمة والنهوض بها مما حل فيها من الضعف والهوان، إذ فاجأ الفقيد رعشة في بدنه ورعدة في جسمه مما يشير إلى حدوث نوبة قلبية، مما تطلب نقله إلى مستشفى المجتهد في الحي نفسه، وفي الطريق قال لولده عبد الله وكان بجانبه (سيد سامحني) ومقصوده أن يطلب من السيد مكي الكتاني أن يسامحه على ما سببه من إزعاج بسبب قدوم سيارة الإسعاف إلى منزله، وانقطع عن الكلام بعد هذا، وقد اهتم رئيس الجمهورية آنذاك السيد شكري القوتلي رحمه الله بالشيخ فأرسل رجلا من خواصه آمراً رئاسة الصحة بالاعتناء به.

بقي الشيخ في حالة غيبوبة منقطعاً عن الكلام، ولكنه بدأ بتحريك شفتيه بذكر الله سبحانه بصورة مطردة وواضحة قبل وفاته حيث سمعه من كان قريباً منه كما ذكر لي والدي الكريم، لأنه كان بجانبه معه الشيخ طه الأطرش رحمه الله، وفارق الشيخ الحياة بعيد آذان الفجر الاثنين الموافق 7 شوال 1377هـ مفارقاً هذه الدنيا الفانية، وفاحت رائحة عطرة من جسمه شمها والدي الذي كان بجانبه مع تلميذ الشيخ وصهره الشيخ طه الأطرش. فارق الشيخ هذه الدنيا التي طالما حذر تلاميذه من فتنتها والانغماس فيها، صعدت روح الشيخ إلى بارئها راضية مطمئنة بقضاء الله سبحانه.

فارق الحياة محملاً المسؤولية لمن خلفه من ورثة الأنبياء الذين لن يخلو عصر منهم بعون الله كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه جابر رضي الله عنه: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)(4).

اصبر لكل مصيبة وتجلد= واعلم بأن المرء ليس مخلد

وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها=فاذكر مصابك بالنبي محمد

نعت الإذاعة السورية الشيخ، كما نعاه المؤذنون على مآذن دمشق، وتم نقل جثمانه إلى منزل ابنه الكبير الشيخ محمد بدر الدين في حي الميدان وهناك جهز للصلاة عليه، وتواكب الناس لإلقاء نظرة الوداع عليه، ثم حمل على الأكتاف إلى الجامع الأموي(5)، وهناك صلي عليه بحضور عدد كبير من علماء دمشق وحلب وحماة وحمص وجماهير غفيرة من أبناء دمشق وما جاورها من القرى وبخاصة قطنا التي أعلن السائقون فيها استعدادهم لنقل المسلمين مجاناً إلى دمشق لحضور الجنازة، وقد رأيت بنفسي جموعهم وهم يتزاحمون على الحافلات في ساحة الجامع العمري للذهاب إلى الجامع الأموي ليودعوا شيخهم ومرشدهم ومفتيهم الذي ظل قائماً بواجبه هناك أكثر من خمسين عاماً. (6)

خرج المشيعون من الجامع الأموي حاملين للنعش مخترقين سوق الحميدية، وند خروجهم منه حاول أهالي قطنا الذين قضى الشيخ معظم حياته معهم أن يأخذوه إلى قطنا ولكن الدمشقيين أبوا – وكانوا الأغلبية بالطبع فتابعوا تشييع إلى مقبرة باب الصغير حيث ضريح سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدفن عدد من آل البيت عليهم رضوان الله وسلامه، وتم دفنه قريباً من ضريح شيخه محدّث الديار الشامية الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله. وبجوار شيخ صالح اسمه: عبد الكريم الآوي (7).

وقد أبّنه عدد من علماء دمشق الأبرار منهم رئيس تحرير مجلة التمدن الإسلامي السيد محمد الخطيب، والشيخ: حسين خطاب رحمه الله، وقد حضر الجنازة نائب رئيس الجمهورية السيد: صبري العسلي والمفتي العام الشيخ: أبو اليسر عابدين وأعضاء رابطة العلماء التي كان عضواً فيها، وعلى رأسهم رفيق دربه الشيخ أبو الخير الميداني.

وقد ذكر مآثره عدد من خطباء الجوامع منهم الشيخ (أبو الفرج الخطيب) خطيب الجامع الأموي والشيخ (حسن حبنكة) خطيب الميدان و تلميذه الشيخ (محمد بدر الدين عابدين) خطيب جامع بعيره في شارع بغداد وغيرهم من الخطباء.

قامت رابطة العلماء بتنظيم مراسم التعزية في مشهد الجامع الأموي بين العشائين فحضر الجمع الغفير من سائر الطبقات ومن عدد من محافظات سورية، وقد شهدت ذلك بنفسي وكان عمري آنذاك عشر سنين.

1 - من رسالة صغيرة بعنوان: (ذكرى وفاة العلامة الشيخ إبراهيم الغلاييني): لمؤلفها الشيخ محمد بدر الدين عابدين:

ص8-9.

2 - ذكريات علي الطنطاوي 8/54

3 - إتحاف ذوي العناية، وهو ثبت السيد محمد العربي العزوزي الادريسي الحسني ص49-560

4 - رواه مسلم.

5 - تبلغ المسافة مقدار ساعة للماشي العادي، فكيف بمن يشيع جنازة!!

6 - هذا هو شأن أهل دمشق الأوفياء مع علمائهم، وقد حضرت جنازة الشيخ عبد الوهاب الحافظ رحمه الله ورأيت جموعهم الغفيرة التي لا تحصى، وهذا يذكرنا بقول الإمام أحمد لبعض الظلمة: (بيننا وبينكم الجنائز) ويعني أن الناس عادة تحضر جنازة من تكن لهم المحبة والاحترام، وقد كانت جنازته مصداقاً لهذا لأن بغداد كلها أغلقت يوم وفاته وقدر المشيعون بأكثر من مليون – رحمه الله -.

7 - استقيت أكثر هذه المعلومات من الكتيب الذي ألفه الشيخ بدر الدين عابدين بعنوان "ذكرى وفاة العلامة مفتي قضاء قطنا المرحوم الشيخ إبراهيم الغلاييني تغمده الله بالرحمة والرضوان" وكذلك مما أفادني به والدي رحمه الله. ومن العجيب أن عددا من الصالحين أوصوا بدفنهم بجانب ثراه. ومنهم الشيخ الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام الأول للإخوان المسلمين والشيخ الجليل عبد الكريم الرفاعي، ومفتي الجمهورية السابق الشيخ عبد الرزاق الحمصي، والشيخ ملا رمضان، ووالدي الشيخ عبد الله، وعمي الشيخ سعد رحمهم الله جميعا وجمعنا بهم تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.